مجلة الرسالة/العدد 899/الأمل الذاوي
→ من وحي المؤتمر الثقافي العربي | مجلة الرسالة - العدد 899 الأمل الذاوي [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 25 - 09 - 1950 |
دمعة على قبر الشاعرة الراحلة ق. ط. ع.
عزيز علينا أن يمضي أحباؤنا الذين نحبهم. . . إننا دوما نذكر ليالينا وأيامنا الجميلة، وقد أصبحت ذكرى نبكيها من حبات قلوبنا. ويوم تعود بنا الذكرى إلى الأيام الخولي يعصرنا الأسى ولا نملك إلا البكاء. . .
عزيز علينا أن نفقد إنساناً كان إلى جوارنا يعيش، وعلى أرضنا يمرح، ومن قوتنا يطعم، ثم يصبح بعد ذلك أثراً وخبراً وذكرى.
والله إنه لعزيز علينا أن نتلفت حوالينا فلا نجد إلا العذاب، ونفتش عن الجنة التي افتقدناها فلا نجد إلا الشقاء؟
عزيز علينا أن نعيش في القفر من غير قلب وناس. . أما قلبنا فقد افتقدناه عند موت قريب أو صديق، وهؤلاء الأحباء جميعاً كانوا سلوه لنا في دنيا الأسى والنحيب! كانوا بعضاً منا يصلون من أجلنا ويحبون علينا ويباركوننا ويملؤون علينا دنيانا. . . وفي خطفة البرق يذهبون ولا نملك لهم الدعاء!
وأمسكت بالجريدة ثم أرسلت الطرف الحزين أفتش عنها فسقط بصري على نعيها فحارت في مقلتي الدموع!. .
أماتت (ن)؟ وكيف يموت ذلك الشباب يا أرحم الراحمين؟ يا حسرة قلبي على الأمل الذي ضاع، والشباب العف الذي راح، وحلت في زوايا القلب ذكراه!
وكانت رحمة الله عليها تنظر إلى الحياة نظرة الطائر المعذب يلتمس الانطلاق فلا يجد إلا القيود، ويهفو إلى النور فلا يجد إلا الظلام. . . ويرغب في الحياة فلا يجد الموت. . . حتى إذا أعوزته النجاة كل جناحاه وهو في التراب!
يا ضيعة العمر ... في ذلك السجن
محبوسة الفكر ... في ميعة السن
وتركب زورق اليأس والحزن المرير:
وسار الشراع بأثقاله ... وقلب يضيق بهذا العذاب
يجوب الحياة فتمضي السنون ... وتذوي الأماني ويبلى الإهاب وما من شعاع ينير السبل ... ويهدي النفوس خلال الضباب
وجلست سعاة الأصيل في حديقة بيتي، ومضيت أتأمل الأزاهير ريانة تتفتح الطيور تغني وتصدح وتنهل من جمال الحياة.
وحدقت في زهرة من بعيد أتأملها وأنا حزين ملتاع. . إنها الساعة يفوح منها أريج الشباب، وتختال في نضرة العمر؛ وبعد قليل سوف تذبل وتموت وتصبح لا شيء!
وأفقت من ذهولي على صوت تردد صداه أشبه بالقذيفة انطلقت من بندقية، أعقبه أنين خافت ابتلعه السكون، ففزعت وتلفت حوالي أرى من عكر ذلك السكون، وأنا مضطرب لهيف، فثبت بصري على خيط من دماء تنسكب من الطائر الكناري المسكين وهو ملقى بين جدران القفص! وأدركت عبث الأيام وصروف الدهر، وقد لمحت من بعيد صياد! يبعث ببندقيته بين يديه!
كانت (ن) طيب الله ثراها أشبه بهذا الطائر المسكين، تنشق عبير الحياة، وهي ترسف في الأغلال، وكانت وكانت ثم عدا عليها الموت فأصبحت لا شيء!
يا لقسوة الحياة! أتثوي (ن) في قبرها المظلم، وقد غلقت وراءها أمانيها ودنياها!؟ ولن يشرق عليها بعد ذلك صباح، ولن يغمرها شعاع شمس أو ضياء قمر.
كانت يرحمها الله شاعرة دقيقة الحس، فياضة الشعور، تتشوق إلى الحياة، وتصبو إلى الأمل الباسم، والمستقبل الزاهر ولكنها تنظر بعين اليأس نحو مقبل الأيام:
يقولون في الغد يأتي الهناء ... ترى أين ذاك الغد المنتظر
أيقبل بعد الشتاء النعيم ... كما يقبل الصحو بعد المطر
إذا كان هذا نظام القضاء ... أصبحت أسعد من البشر
ولكنني قد رأيت الزمان ... أصم السريرة أعمى البصر
وبرغم ذلك فهي تناضل في سبيل السمو والمجد وتود أن تنالهما من أنهار الشعر، وقد نضر حواشيها الضمير والوفاء والشباب غير عابثة بمن يزرع طريقها بالأشواك:
وقلنا سلاحك هل من سلاح ... لديك به تقهرين العباب
طريقك أختاه وعر طويل ... وسوف تلاقين شتى الصعاب
فقلت سلاحي صدق الوفاء ... وهذا الطموح وهذا الشباب وفي زورقي ما يروق النفوس ... ويبعث منها الرضا والسرور
مجاريه مكفولة بالهدى ... مراسيه موكولة للضمير
يرف عليه لواء القريض ... فيدنو له كل قاص عسير
وتنشب في صدرها معركة هائلة بين الموت والحياة، ويحتدم الصراع، وينتفض الخلود بين أنياب الفناء فنقول في آخر قصيدة لها:
ألم تسمعني وقع خطو الزمان ... ألم تفزعي من نداء الحفر
وفزعت أيتها الإنسانية وطلبت الحياة ولكنك لم تجدي غير الموت:
لقد مالت الشمس نحو المغيب ... إلى أين مسراك يا فانية
وانهمرت دموعي من أجل عمرها الذي ذبل، ومجدها الذي ضاع ودفنت بواديه.
أهو الشعور بالسخط على الحياة يوم تذبل زهرة في تباشير الصباح؟ أم هو الشعور بالأسى واللوعة يوم تطوى أعلام وتقبر روح كانت تود أن تنطلق في سماء الحياة؟
أجل، لقد انطلقت أيتها الروح، فحلقي ما شئت طليقة من كل قيد، عند الله والحياة، من بعدك قفر وموت وأي موت وظلام وأي ظلام؟
أحمد شفيق حلمي