مجلة الرسالة/العدد 899/أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين
→ من الحوادث الأدبية | مجلة الرسالة - العدد 899 أستاذ الدعاة وزعيم المصلحين [[مؤلف:|]] |
صفحة من تاريخ الأزهر العلمي ← |
بتاريخ: 25 - 09 - 1950 |
شيخ الإسلام ابن تيمية
للأستاذ عبد الجليل السيد حسن
. . . قدره في السماك عند قوم، وفي الحضيض عند آخرين. كثر محبوه ومبغضوه!. . . ففي كل صقع معجب به، وحانق عليه؛ وفي كل بلدة رافع له إلى رتبة الصحابة الأخيار، ونازل به إلى أحط دركات الكفار
رمي في قاع السجن عسى أن يرجع عن رأيه، فما خضع ولا هان؛ وأوذي أشد الأذى فما ازداد إلا استمساكا بدعوته؛ وحورب بكل القوى فما ارتد عن عقيدته - خاف الله حتى ما عاد يرهب أحدا؛ فما بالي بجبار. . . وإن كان جبار المغول؛ وما ريع بظالم. . . وإن خضبت يده بالدماء
بلغ في العلم الذرى، حتى سبق شيوخه. . . وهم شيوخ فقه الكتاب والسنة حتى ما عاد يرى إماما يقلده في فقههما؛ فوضع نفسه - بحق - موضع الأئمة الأربعة؛ فكان له مذهب أخذ به فيما بعد. صفى العقيدة والشريعة من كل دخيل، ورجع بها إلى صفائها الأول. . ونقائها الأوحد.
جاهد الجهادين - وأبلى خير بلاء - جهاد العلماء الذين علوا بقومهم؛ وجهاد الفرسان الذين احتربوا بين طعن القنا وخفق البنود. وحارب كأصغر جندي، وقاد أكبر القواد.
. . . هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذه صورته؛ وصورة الناس إزاءه.
ولد - تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد ابن تيمية الحراني - يوم الاثنين 10 ربيع الأول عام 661 هجرية (22 يناير عام 1263 ميلادية) في حران قرب دمشق.
وما عتم أن هجر أهله حران إلى دمشق (وهو في السابعة من عمره، هربا من جور التتار؛ وكانوا آنئذ بالشام يغيرون على المسلمين).
وقد كان أبوه عالما حنبلي المذهب؛ فبدأ بتلقين ابنه - في دمشق - ع لوم الدين فاستشعر الصغير لذة العلم، فاختلف إلى مجالس العلماء - وكانت عامرة بروادها - في دمشق بلقف من أفواه ربابنتها؛ وتعدد شيوخه حتى أربوا على المائتين في علوم الدين العرب الكلام.
وكان ابن تيمية عجيب الحفظ لا ينسى. . . وقد ذكروا الكثير من قوة حفظه، ومما روى في ذلك عنه وهو ما يزال بعد صبياً؛ أن شيخا من (حلب) علم به، فأراد أن يراه، وكتب له من متون الحديث أحد عشر متنا فلم يزد الصبي على أن نظر فيها مرة ثم اسمعه إياها. . . وقبل أن يبلغ العشرين كان قد نال حظا كبيرا من العلم، وذاعت شهرته حتى قيل أنه ناظر واستدل وهو دون البلوغ. . . وعد من أكابر العلماء في حياة شيوخه.
وليس من العجيب أن يكون الرجل كذلك؛ ولكن العجيب ألا يكون كذلك - فإن الوراثة أن كانت لا تصدق على كل العباقرة فهي هنا أصدق ما يكون، قرب عبقري أبواه عاديان ولكننا هنا أمام عبقري ينحدر من أصلاب عرفت بالعلم؛ وإن لم تعرف بالعبقرية فيه. فجده كان عالما معروفا، وقد ترجم له صاحب (فوات الوفيات)، وأبوه كان عالما كذلك. . . فنحن أمام إنسان خالط العلم دمه ونشأ يقرع سمعه أول ما يقرع. . نقاش في العلم والدين؛ ويرى أول ما يرى. . استمساكا بالدين وتمسكا به وقد قدر له أن يربى تربية فيها صلابة لا تضر، وأخذ في تنشأته في كل أطوار تربيته بآداب التصوف.
توفي والده وما يزال في سن الحادية والعشرين من عمره. فخلف والده وهو في إبان شبابه في تدريس الفقه الحنبلي؛ وفي كل يوم جمعة كان يفسر القرآن للناس من حفظه فينقضي مجلسه في شرح آية وتزيد!! بلا تحليل في لفظ أو جري وراء تأويل، وكان رجلنا واسع الاطلاع دائم القراءة، قل أن يدخل في علم ما - في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء على حذاق أهل. وكان في التفسير إليه المنتهى، وفي الحديث لا يلحق، وفي الفقه لا نظير له، وفي الملل لا يدانى، وفي التاريخ عجب عجاب.
قال ابن دقيق العيد بعد اجتماعه به (كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك) - وكان حر التفكير، كثير الجدل والمناظرة في حدود الكتاب والسنة، وقد كان مناظرا لا يبارى حتى أنه كان يناظر صغيرا، فيفحم الكبار، وقد جرت عليه جريته في القول وصلابته في الحق وبالا كثيرا.
تنقلاته واضطهاده
في ربيع الأول سنة ثمانية وتسعين وستمائة ورد سؤال من (حماة) على الشيخ بدمشق يسأل فيه عن صفات الله، فرد الشيخ بكتاب وكان هذا الكتاب بدء المحن التي سيلاقيها الشيخ. وكانت سائحة انتهزها الشائعون، فلغطوا بأن الشيخ يقول بالتجسيم، ورموه بالكفر، وحرفوا كلمة وحملوه ما لا يحتمل، وسعوا إلى القضاة والفقهاء يستحثونهم لدرء الشر المزعوم، وأغروا قاضي الحنفية جلال الدين الحنفي باستحضاره، فأبى الشيخ ورد عليه بأنه ولى الحكم بين الناس، لا لحكم في العقائد، فغضب القاضي، وأمر بالنداء على بطلان عقيدته، ولكن والي دمشق حينذاك، منع المنادي، وعقد مجلسا للشيخ بحضور الفقهاء والوالي، فنوقش في عقيدته وبين مراده، وانفض المجلس ولم ينكر عليه الحضور شيئا.
انقضت المحنة الأولى إذن بسلام. ولكن الشيخ بات ثقيل الوطأة على أصحاب البدع والمتصوفة القائلين بالاتحاد والحلول، وبالغ في الرد على فقراء الأحمدية والرفاعية، وفضح حيلهم وكشف عن خدعهم التي يدعونها خوارق، كالدخول في النار ومسك الحياة وغير ذلك
وقيل لشيخنا (إن الشيخ نصر المنجي، في مصر، اتحادي، فكتب إليه الشيخ ينكر عليه ذلك؛ وكان المنبجي ذا أنصار ومعجبين، يداخل الأمراء وأصحاب الرأي، فشنع عليه ودس له الدسائس، وخوف القضاة والمراء وأثمر سعيه. فقد ورد من القاهرة إلى دمشق مرسوم سلطاني يأمر بسؤال الشيخ عن عقيدته فعقد في الثامن من رجب سنة خمس وسبعمائة مجلسا حضره القضاة والفقهاء وأعيد المجلس في الثاني عشر من رجب وحضره المخالفون وتناظروا مع الشيخ، ونصر الله الشيخ على خصومه، ولكن خصومه شنعوا عليه بعد ذلك وآذوه في صحبه، وعزر القاضي من يلوذ بالشيخ، وكانت فتنة تداركها الوالي بحزمه، ولم يكتف خصومه بذلك بل راحوا يدسون عليه من كل طريق: يقنعون أرباب الدولة بأنه خطر على السلطة، ويثيرون عليه الفقهاء لأنه خطر على الدين! فاستدعي إلى القاهرة في 5 رمضان سنة 705 هـ.
وللشيخ في مصر أي شأن، وستثار الضجة حوله وستناله الأحداث بأيد غلاظ وسيحتويه السجن في القاهرة والإسكندرية.
غادر دمشق في الثاني عشر من رمضان، ودخل القاهرة في الثاني والعشرين منه، ثم انعقد المجلس في القلعة الحصينة وانتظم في سمطه من القضاة جمع، ومن الأكابر قوم، وجلهم متنمر، للشيخ، إذا تكلم قوطع، وإذا باحث غولط، لم ينل حريته في القول. وكان (الشمس بن عدلان) أحد خصومه، كان دوره (تمثيل الاتهام) كدور النيابة الآن. وكان رئيس المجلس القاضي المالكي (ابن مخلوف). فقام ابن عدلان وقال: (إن الشيخ ابن تيمية يقول: أن الله فوق العرش حقيقة وان الله يتكلم بحرف وصوت، وأنه سبحانه يشار إليه بالإشارة الحسية؛ وإني أطلب عقوبته على ذلك.) ثم جلس. فتوجه القاضي ابن مخلوف إلى الشيخ ابن تيمية وقال: (ما تقول يا فقيه)؟ فنظر ابن تيمية إلى من في المجلس، ثم أخذ في حمد الله والثناء عليه، فقاطعه القاضي بقوله: (صه. . أجب عما قال الشيخ، ما جئنا بك هنا لتخطب، وأدرك ابن تيمية أن القاضي المالكي هو الحكم والخصم معا، فغضب الشيخ وانتفخت أوداجه وتهدج صوته وصاح فيهم: (كيف يحكم في وهو خصمي؟)
وانزعج القوم. . . فأقيم من ساعته وحبس في برج من أبراج القلعة ثم نقل إلى الجب وزج معه أخواه؛ وقد توسط الأمير سيف الدين سالار في إخراجه ولكن اشترط عليه شروط، منها الرجوع عن عقيدته فأبى. واستمر في سجنه حتى سنة سبع وسبعمائة حين أتى الأمير حسام الدين مهني بن عيسى ملك العرب إلى مصر وأخرجه. واعتذر له بعض الفقهاء، وأبرد إلى دمشق بخروجه، واستبقاء الأمير سيف الدين لينتفع الناس بعلمه وفرح قوم لخروجه وكمد آخرون.
مكث الشيخ يعلم الناس، ومكث أعداؤه يكيدون له، وخاصة الصوفية؛ وفي يوم فاض كلام الشيخ في الصوفية وقرص بكلامه الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، ونال في كلامه من ابن سبعين وابن العربي؛ فثارت ثائرة المتصوفة، وانضم إليهم أهل الخوانق والزوايا والربط وأقاموها ثورة على الشيخ؛ فذهبوا بجمعهم هذا إلى السلطان، ليشكوا إليه ابن تيمية، وتجمهروا حول القلعة، فقفز منهم على القلعة من قفز. . . وتسوروا أسوارها، ومكث تحتها من مكث
اضطرب السلطان؛ وعلم أنهم يريدون كف ابن تيمية عن شيوخهم، أن لم يكن يطلبون رأسه؛ وقد انضم إلى هؤلاء في الشكوى منه شيوخ الصوفية كابن عطاء الله السكندري المشهور - الذي كان عدواً للشيخ -. فعقد له مجلس وخير بين مغادرة القاهرة إلى الإسكندرية. أو السفر إلى دمشق بشروط، أو الحبس. فاختار الشيخ الحبس. . لكن قوما أغروه بالسفر إلى دمشق، وبعد أن ركب خيل البريد أرسل خلفه رسول يعتقله، وينبئه بأن الدولة لا ترضى إلا بالحبس؛ وقد امتنع القضاة عن الحكم بحبسه؛ لأنه لم يفعل ما يقتضي ذلك، فذهب هو بنفسه قائلا: (أنا أذهب إلى الحبس تبعاً لما تقتضيه المصلحة). فأرسل إلى الحبس القضاة.
أخذ الشيخ يعلم (المحابيس)، ويفقههم حتى صلح أمرهم، وصاروا أحسن من كثير من أهل الزوايا والربط والخوانق - كما يقول صاحب الكواكب الدرية (ص 181).
وكان الشيخ يزار ويستفتى ويتردد عليه، فضاق من ذلك أعداؤه وسألوا نقله إلى الإسكندرية، فنقل. وحبس هناك.
وفي سنة تسع وسبعمائة دخل السلطان الناصر مصر بعد خروجه من الكرك وقدومه إلى دمشق، وتوجهه منها إلى مصر؛ فبادر الناصر بإخراج الشيخ وذهب به إلى القاهرة (وأصلح بينه وبين الفقهاء) وقد أكرمه الناصر وراعى مكانته وبجل علمه؛ وقد مكن الله للشيخ من أعدائه، ولكنه عفا عنهم ولما لم يكن كثير المداخلة والتردد للأمراء، ولم يكن من رجال الدول، ولا يتبع معهم تلك النواميس والرسوم، قل اجتماعه بالسلطان ثم انعدم.
سكن الشيخ القاهرة بالقرب من مشهد الحسين؛ وفرغ للعلم يجيب سائليه، ويفتي مستفتيه، ويعظ ويعلم ويدرس في مدرسة أسسها الناصر. . وقد وجد بعض أعدائه أنهم لن ينالوا بشكايته لدى السلطان شيئا؛ فتفردوا به. . وضربوه ضرباً موجعاً، وذاع النبأ، نبأ إهانته؛ فسعى إليه الكثير: يبغون له الانتقام، لكنه هدأهم ومنعهم من ذلك.
وفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، توجه الجيش المصري، يردي الغزاة فخرج معه الشيخ، ثم عرج على بيت المقدس ثم إلى دمشق فكان لمجيئه سرور عظيم.
ولم يذهب الحيف والاضطهاد عن الرجل في دمشق أيضا؛ ففي سنة 718 هـ أشير عليه بترك الإفتاء في مسالة الحلف بالطلاق، ومنعه السلطان من ذلك؛ ولكن الشيخ عاد فأفتى فعوقب ثم سجن بالقلعة سنة 720 هـ خمسة أشهر. . ثم أخرجه السلطان.
وفي سنة 726هـ استأنفت الأيام محاربتها إياه، وضربته ضربات أخرى هو ومن بقى من أصحابه: فقد سجن هو وصحبه؛ ثم أخلي سراحهم إلا تابعه ابن قيم الجوزية؛ وكان موقفاً جديداً من أثر المواقف وأشدها بلاء. امتحن فيها الشيخ فثبت، وتلك المحنة هي: أن سائلا كان قد سأله عم حكم (شد الرحال. . .) فأجابه الشيخ برأيه (وسنعرض له بعد). فكانت الفتنة، وحرفت الفتوى، وطير العلماء أمر كفره ونبأ فسقه في الأقطار العربية كلها، فتردد صدى ذلك في العالم الإسلامي كله. . فاضطرب في بغداد، وضج في مصر، وغلى في الشام، وأفتى جماعة من علماء مصر بقتله، وحمل آخرون السلطان على فعله. ولكن السلطان رضى بسجنه، فأصدر إلى دمشق أمره بحبسه، فذهب الشيخ إلى القلعة راضيا غير ساخط هازئا غير ناقم.
ثار علماء بغداد وأرسلوا الرسائل إلى الأقطار يوافقون الشيخ في رأيه، ويستنكرون فعل السلطان الناصر، ولكن لم تؤت هذه الرسائل ثمراً لأنها منعت عن السلطان. فمكث الشيخ في سجنه سنتين وثلاثة أشهر يعبد الله ويصنف التصانيف ويوفي المسائل التي حبس بسببها بحثا حتى أربى كتب فيها على المجلدات ولكن لم تترك للشيخ هذه اللذة، لذة العبادة والتأليف فقد ضاق أعداؤه بما يؤلف، وجروا هنا وهناك. . ساعين راشين، فورد مرسوم قبل وفاته بشهر بتجريده من كتبه وورقه.
. . . حرم الشيخ إذن لذته الكبرى فلم يحتمل ذلك، ومرض وفاضت روحه الطاهرة يوم الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728 هـ. وقد كان لموته حزن عميق وحضر جنازته نحو خمسمائة ألف رجل ومن النساء خمسة عشر ألفا وقد قيل في جنازته الشيء الكثير.
وقد رثي الشيخ ابن تيمية بشعر كثير. . لو يسر الله له أديبا مخلصا وجمعه في ديوان لكان ذلك عملا فريدا في بابه. ومن حق ابن تيمية على الأزهر - أن أراد خيراً - أن ينشئ لجنة لأحياء آثار ابن تيمية على نسق لجنة إحياء آثار أبي العلاء. أراد الله له وللإسلام الخير وجعله عند حسن ظننا.
للكلام بقية
عبد الجليل السيد حسن