مجلة الرسالة/العدد 898/من الحوادث الأدبية
→ هؤلاء كلاب! | مجلة الرسالة - العدد 898 من الحوادث الأدبية [[مؤلف:|]] |
في الشعر السوداني ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1950 |
عام الكف
للأستاذ محمد سيد كيلاني
كانت حانة درا كتوس فيما مضى مجمعاً للأدباء والوجهاء يلتقون فيها كل مساء يقضون شطرا كبيرا من الليل يتحدثون في مواضيع شتى ويتبادلون النوادر والفكاهات. وكان بعض الكتاب يحرر فيها مقالاته آلت ينشرها في الصحف. ومن هؤلاء محمد بك المويلحي صاحب جريدة مصباح الشرق التي كانت تصدر وقتئذ. وكانت بينه وبين الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد عداوة شديدة وخصومة عنيفة وكانا يتبادلان الشتائم والسباب على صفحات جريدتهما.
وقد حدث في ذات ليلة من ليالي أكتوبر سنة 1902 بينما كان المويلحي جالساً مع بعض أصدقائه أن دخل شاب من أبناء الأغنياء اسمه محمد نشأت فداعبه المويلحي كعادته فما كان من هذا الشاب إلا أن رفع يده وهوى بها على خد المويلحي.
فانتهز صاحب المؤيد هذه الفرصة واخذ يذيع خبر هذا الحادث بين الناس ويكب عنه في جريدته مظهراً الشماتة والسخرية بعدوه اللدود محمد المويلحي. فنشر مرة تحت عنوان (تنصرت الأشراف من أجل لطمة) مقالاً جاء فيه (فخرج جيله الأيهم من دينه ولم تخرج أنت من جمودك، فإن كان ذلك لحلم منه وأنت في الحان فما معنى هذا الغضب وأنت في دارك بين الجدران؟).
وقد فتح للشعراء باباً سماه (عام الكف) فشرع هؤلاء يتسابقون في نظم المقطوعات التي تفيض بالهزء والسخرية.
وقد اعترض أحد الشعراء عل قولهم (عام الكف) واقترح أن يطلق عليه (عام القفا). قال:
سموه عام الكف وهو الذي ... يؤخذ من معناه أن قد كفى
ما هو عام الكف لو انصفوا ... لكنه في الحق عام القفا
فهو هنا يبين وجهة نظرة في اقتراحه فيقول أن الكف مصدر كف عن الشيء بمعنى تركه وارتد عنه. ولو انهم وقفوا إلى الصواب في نظر هذا الشاعر لدعوه (عام القفا) ولكن يرد عليه بان المويلحي لم يضرب على قفاه وإنما لطم على خده فذكر القف هنا أمر لا محل له.
وشاعر صعيدي يزعم أنه سمع دوى هذا الكف وهو مقيم بالصعيد. ويتساءل عن صاحب هذه الراحة الجبارة التي صفعت خد المويلحي. قال:
لي سؤال يا أهل مصر فردوا ... بجواب عن السؤال مفيد
أي كف قد باشرت صفع خد ... سمعنا دويها في الصعيد
فانظر إلى هذا الكذب الصريح الذي يدعو الإنسان إلى الضحك.
وآخر يعرب عن سرور الصحافة وفرحها بما حدث للمصفوع فيقول:
هي صفعة سر الصحافة وقعها ... ورجا بيان مثلها وبديع
كانت تؤملها البلاد ليرعوي ... غر ويعرف قدره المخدوع
أو يقول
هي صفعة لهج الأنام بذكرها ... ودرى البعيد بها ومن لم يعلم
قد بالغ الأدباء أوصافها ... ما بين منثور وبين منظم
فغدا قفاك منذ هلالهم ... هل غادر الشعراء من متردم
فهنا ترى مبلغ الخصومة الصحيفة وأثرها في هذه الأبيات فالصحافة مبتهجة فرحة وكذلك البيان والبديع. والبلاد كانت في شوق شديد إلى ما لحق المويلحي من الإهانة على يد الصافع فلعله يرعوي ويزدجر ويترك الشتائم التي يجرى بها قلمه كل يوم، ولعلع يرجع عن غروره ويعرف أنه ضعيف لا يقدر على رد الأذى عن نفسه.
والشاعر هنا قد نفس عن شعوره المكبوت وعبر عن غيظه وحق على المفزع. وخيل إليه إن البلاد ملها تشاطره فرحه وسروره بما حدث للمويلحي. ويقولان هذه الصفعة قد سار ذكرها في الأفاق وعلم القاصي والداني واكثر الناس من التحدث عنها وتناولها الكتاب والشعراء. وانظر إلى التضمين في البيت الأخير.
على أن أبلغ ما قيل في هذا الموضوع وادعاه إلى الضحك تلك المقطوعات التي نشرها تباعاً في المؤيد الشاعر لكبير إسماعيل صبري. وقد أجرى هذه المقطوعات تارة على لسان المويلحي مفتخراً بمتانة صدغه الذي لم تؤثر فيه أكف الصافعين بل ارتدت عنه كما تريد القذيفة إمام الحصن القوي. وتارة على لسان ابن المويلحي، وتارة على لسان صاحب المؤيد، مرة على لسان الصافع، وأخرى بسوق القول في صورة نصيحة يزجيها إلى المصفوع. ومثال ذلك قوله:
يا أبن الآلي رسخت أحلامهم ورست ... إذ الأكف مجانين مها ويس
لا تدخل الحان والصفاع ثائرة ... حتى تقام حواليك المتاريس
وقل لصدغك يستقبل وفودهم=بالباب: انهم قوم مناحيس
وهذا إمعان في السخرية. فأنت ترى الأكف تهوى على خد المويلحي في حالة هوس وحنون وتتوالى مندفعة بغير رؤية ولا تفكير والمصفوع جالس كالطرد الثابت لا يبدى حراكاً ولا يحاول أن يقاوم أو يذود عن حياضه، بل ترك الكف تفعل بخده ما تريد. ثم أخذ الشاعر يفصح المصفوع بألا يدخل الحان ولا يأخذ مكانه فيها قبل أن تقام حوله الحاجز التي تحميه من شر الأكف. ثم تمادى الشاعر في التهكم وبالغ في السخرية فأشار على المصفوع بأن يدع خده يستقبل وفود الصفاع على الباب ويجلس هو وراء الحواجز آمناً مطمئناً على نفسه فصدغه سيحمل عنه عبء هذه الأكف الثائرة المجنونة.
والحق أن إسماعيل صبري اظهر في هذه المقطوعات براعة فائقة في التهكم المر والسخرية القاسية. وفيها مع ذلك فكاهات تدل عل خفة روح ذلك الشاعر وانظر إلى قوله:
أعرني يا ابن إبراهيم صدغا ... أخوض به غمار الصافعينا
فإن هو قد أعارك ما ترجى ... رايتهم أمامك هاربينا
كما هرب الفتى الصفاع يوماً ... أمام الكاتب ابن الكار تبينا
وخلف ثم رب الحان يجلو ... على المغلوب كأس الغالبينا
ويغبط ذلك الصدغ المفدى ... على إرغام كف الضاربينا
فإسماعيل صبري تمادى في التهكم حتى عكس القضية فجعل الغالب مغلوباً مهزوماً أمام صدغ المويلحي، وذلك لأن هذا الصدغ كما تصوره الشاعر كجلمود صخر تدمى عليه اكف الضاربين فيولون منه هربا. وجعل الحان يغبط المصفوع لأنه انتصر بصدغه القوى المتين، وينصحك بأنك إذا أردت أن تخوض غمار الصافعين وتخرج من المعركة ظافراً منتصر كانتصار المويلحي فما عليك إلا أن تذهب وترجوه أن يعيرك صدغه. فإن أجابك إلى طلبك رأيت الصفاع أمامك وقد ولو هرباً. وهذا نوع طريف من الهجاء فيه صور جديدة مضحك إلى حد بعيد.
ومن الصور الجديدة في هذا الشعر الهجائي تلك المحاورات التي تدور على لسان والد المويلحي أو على لسان ابنه أو على لسان الصافع أو على لسان المصفوع أو على لسان صاحب المؤيد فكأنك تقرأ شعراً تمثيلياً وكأن مقطوعات إسماعيل صبري ثم من تمثيلية جرت وقائعها في حانة دراكتوس. وأبطال هذا التمثيلية هم محمد المويلحي المصفوع ووالده إبراهيم والصافع محمد نشأت وصاحب المؤيد مع نفر من أصحابه وقد ظهرت عليهم دلائل الفرح والسرور بما وقع على المولحي. ثم يظهر في هذا المشهد صاحب الحانة معجباً بصدغ المصفوع ويقترب من هذا الصدغ ويتأمله في شيء من الغبطة.
وهذا من غير شك صورة جديدة في فن الهجاء لم تعرف من قبل
محمد سيد كيلاني