الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 898/الدفاع عن الثقافة العربية

مجلة الرسالة/العدد 898/الدفاع عن الثقافة العربية

مجلة الرسالة - العدد 898
الدفاع عن الثقافة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 18 - 09 - 1950


للأستاذ عمر حليق

- 2 -

رأينا في القسم الأول من هذه الكلمة أن الثقافة العربية والثقافات الأخرى مهددة بأدب التبذل والسطحية واللذة والمجون التي تنبعث من (هوليود) و (برود واي) وتجد سبيلها إلى صميم المقومات الثقافية والخلقية للشعوب الأخرى.

ورأينا كذلك أن من حق الثقافة العربية أن تتحدى هذه التيارات الدخيلة وأن تمحصها وتختار منها ما تستسيغه وما يتفق مع ثقافتها القومية. ورأينا أن على الخاصة من أهل الدين والفكر والأدب والفن مسؤولية مضاعفة في حمل لواء الدفاع والتصدي للمتطفلين من رجال الصحافة الصفراء والثقافة السطحية، والنفعيين من رجال الأدب والفن ومنافستهم في هذه السلطة الثقافية التي ليست من حقهم والتي يفرضونها على حاضر الثقافة العربية فيدفعونها في مسالك قد تؤدي بها إلى (سطحية الذهن وعامية الفكر وسآمة الحد) ومن ثم إلى هامش الحياة وزوايا التاريخ.

ورأينا أيضاً أن الثقافة الناشئة التي تمر في عهد أحياء وتجديد كالثقافة العربية المعاصرة اكثر ما تكون تعرضاً لخطر هذه التيارات الدخيلة إذا كانت سياسة شعوبها قلقة واقتصادهم مضعضعاً وكيانهم الاجتماعي متوتراً، خصوصاً وأن تلك التيارات صادرة عن شعب له في عالم المال والسياسة والحرب نفوذ كبير.

ولو كانت الثقافة العربية المعاصرة لا تستند إلى تراث، ولا تفخر بعرف، ولا تباهى بعدد الذين ينضوون تحت لوائها لهان الأمر؛ وذلك لأن الناس ينظرون إلى ثقافات الشعوب الصغيرة نظرة استخفاف ويعدونها من قبيل (الصدف) التاريخية التي تعلق بذيل الثقافات الإنسانية ولا تساهم في جوهرها، وتجرف من ثقافات الأمم ولا تصب في جداولها، ومن قبيل ذلك مثلاً ثقافة البرتغال.

أما الثقافة العربية فقد ساهمت في جوهر الفكر الإنساني وحافظت على كثير من خصائصها على ممر السنين وتعداد القرون. وحاضرهاالآن يشمل سبعين أو ثمانين مليوناً من البشر ويتصل من قريب وبعيد بأربعمائة مليون مسلم يحتلون بقاعاً هامة في مجالات السياس والاقتصاد والسلم والحرب؛ فالموجب أذن لأن يقف الخاصة من المثقفين العرب في الآونة الحاضرة موقفاً سلبياً - واعين أو غير واعين - ويتعلقون بأذيال لندن أو نيويورك أو موسكو أو باريس دون ترو أو تحميص، ويسلكون سلوك الثقافات الصغيرة التافهة التي تمتص من ينبوع الفكر ولا تصب فيه؟

والقول بأن الفترة الحالة من تاريخ الثقافة العربية فترة هضم واستيعاب لا يبرر هذا الانسياق نحو التقليد والمحاكاة والاستعارة الضالة. ومثل هذا القول فيه الكثير من التضليل.

فالغذاء الفكري الذي يعيش عليه الناطقون بالضاد في الآونة الحاضرة هو في كثرته الساحقة غذاء يبلع ولا يهضم ويقلد ولا يستوعب وينقل ولا ينتج.

فعصر النهضة والأحياء عصر خطير. والخوف عليه من التقليد والنقل الأعمى اكثر من الخوف على ثقافة اكتمل أحياؤها واشتد ساعدها كالثقافة الفرنسية المعاصرة مثلاً. فإذا أخاف أهل القمر في فرنسا من تيارات هوليود فحري بأقرانهم في العالم العربي أن يهلعوا وأن يعلنوا الثورة ويحملوا أقوى أسلحة الدفاع.

ولو فرضنا - كما افترض جون بول سارتر - أن شعباً أوربيا صغيراً اضطر بحكم الظروف السياسة والاقتصادية لأن يستعير من الأيدلوجية الأمريكية أو السوفيتية شيئاً، فهذا الشيء المستعار لن يتبدل جوهره بعد الاستعارة إلا بعملية هضم ضحية سليمة، وذلك لأن أصوله مستمدة من طبيعة الاقتصاد والوضع الاجتماعي والسياسي في أمريكا أو روسيا. والمستعير حين يكون سطحي الثقافة لن يستطيع أن يبدل طبيعة هذا الوضع فيبقى الشيء المستعار في جوهره أمريكا أو روسيا يفرض على ثقافة صغيرة لا قبل لها بتحويله أو طبخه من جديد؛ وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة الضعف السياسي والحاجة الاقتصادية والفقر الثقافي في ذلك الشعب الصغير، وبطبيعة الحول الذي يسند هذه الأشياء المستعارة.

فإذا لم تقم خاصة المثقفين من أبناء ذلك الشعب الضعيف بالتدقيق في جوهر الشيء المستعار على ضوء الثقافة القومية ومصلحتها وتعديله أو رفضه، وإنما تركوه للمتطفلين على الأدب والفن والحياة الروحانية يفرضونه على تلك الثقافة القومية فإن مصير هذه الثقافة الانشقاق أولا، والانزواء والاستقرار في الحضيض بعد ذلك.

فستكثر الأشياء المستعارة وترسخ في الحياة الفكرية والنشاط الإنساني لذلك الشعب الضعيف فتنافس عناصر الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة القومية منافسة شديدة عنيفة فإذا لم تجد هذه الثقافة من يحمل لواء الدفاع عنها فإنها لا مراء ستصاب - في المراحل النهائية - بالتفكك والانحلال، وسيفقد ذلك الشعب طابعه الأصيل ويصبح كالسيارة الأمريكية تسير في شوارع دمشق والقاهرة - ويسوقها عرب بوقود عربي، ولكنها مع ذلك لا تمت إلى صميم الثقافة العربية بصلة وثيقة، فإذا رآها المستطلع الأجنبي لم ير فيها سائقها العربي - ووقودها العربي و (رخصتها) العربية وإنما أصر على أن يرى فيها الحضارة الأمريكية ممثلة أبلغ تمثيل.

وانقسام الثقافة القومية على نفسها شر من المستطاع تفاديه إذا تصدى نواب الثقافة لبواعثه وعالجوا جرثومة الشر؛ فالافتراض من الثقافات الأخرى دون قيد أو شرط ودون مراقبة ومحاسبة سيولد في المجال الثقافي والاجتماعي مثل الحالة التي وجدت مصر نفسها فيها حين أوسع الخديوي إسماعيل على نفسه وعلى الدولة في الاقتراض والاستعارة المالية وما استتبعه ذلك من عجز في التسديد ومن ثم الحماية السياسية وما جرت من عواقب وآلام على تاريخ مصر الحديثة.

وحين تجد عناصر الثقافة القومية نفسها قاصرة عن منافسة العناصر الدخيلة والمستعارة أو عاجزة عن هضمها ووضعها في قالب قومي أصيل، وحين تفقد تلك الثقافة الأنصار من أهلها يكون مصيرها مصير الطفل الذي لم يجد من يرعاه ويحنو عليه فسينفذ مجهوده الضعيف في صراع الحياة ويشب ضعيف البنية ناقص التغذية مشلول النشاط.

وحين يمر عصر التقليد والمحاكاة وترسخ العناصر المستعارة في الثقافة الوطنية ثم تحاول العناصر القومية الأصلية أن تنهض لتطالب بحقها في الحياة يكون التنافس بين طرفين غير متكافئين - كما يقول علماء القانون - فيحلق بأضعفها غبن يترك أثره السيئ في صميم المصلحة السياسية والاقتصادية والتكافل الاجتماعي.

إذن فوزر حفظه الثقافة القومية في إهمال الدفاع، واستخلاص التوجيه الثقافي من الأقليات الدخيلة، ومن يد السطحيين والمتطفلين وأصحاب الثقافة المنشقة المشوهة وزر عظيم، والنكوص عن الدفاع عنه مع القدرة عليه أثم عظيم - على حد قول الفقهاء.

ولقد اشتكى مورياك وزيجفريد وسارتر بأن الثقافة الأمريكية البرجماتزمية المعاصرة لا تعترف بدينها للحضارات الأوربية القديمة أو الحديثة. (وهذا ينطبق على النازية والماركسية كذلك) وإنما تفخر بأنها وليدة التاريخ الأمريكي والدفع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نبت في العالم الجديد. ولذلك فإن في الأمريكان مزيداً من الشعور بالعظمة وفيهم لون من الاحتقار والاستخفاف بكل ما هو أوربي. وما ذلك إلا لأن أوربا لم تكن البادئة في صنع السيارات والثلاجات وألف نوع ونوع من هذه الحضارة المادية التي هي ابرز عناصر الثقافة الأمريكية.

فإذا كان هذا موقف الأمريكان من الحضارات الأوربية فإن موقفهم من حضارات الشرق يكون أشد وأعنف.

فالشرقيون عند الأمريكيان علم على الانحطاط الخلقي والضعة الاجتماعية وسوء السلوك والحسن والدناءة وكال ما في قاموس اللغة من صفات ونعوت سيئة. وهذا التحامل وإن لم يكن مقصوراً. على الأمريكان - وإنما يشترك فيه جميع الشعوب الأوربية - إلا أن الأمريكان يقرونه في دساتيرهم المدونة ومعاملاتهم القانونية وصميم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل مشكلة الصراع العنصري في أمريكا وصمة في جبين القارة الأمريكية.

وقد يستطلع المثقف الأمريكي ألوانا من العظمة في حضارات الشرق، ولكن هذه الألوان لا تثير فيه إعجاباً صادقاً مخلصاً ولا تؤثر في عقليته ومشاعره. وقد يستشهد بها في معرض الكتابة أو المحادثة ولكنه لا يسمح لنفسه ولا لثقافة أن تتطعم بها لأنه - وهو برجماتزمي أصيل - لا يجد فيها إمكانيات لمستقبله الثقافي.

فحضارات الشرق عند الأمريكي أمر عفا عليه الزمن، فهو جزء من الماضي ولا مكان له في حضارة العالم الجديد بالرغم مما في الثقافات الشرقية من عناصر خالدة تصلح لكل زمان ومكان.

ولذلك يندر أن تجد في ملاعب أمريكا مسرحيات أو أفلاما تعالج الشرق من ناحية مشرقة. فالشرق لا يمد المنتج الأمريكي إلا بالمواد التي تصور له ولجمهوره الصورة الخاطئة التي يحملها من الشرق: ضعة وخسة ومكر ودهاء، وألوان من القساوة والشذوذ يعرفها كل من شاهد الأفلام وقرأ القصص الأمريكية التي اتخذت الشرق وحضاراته وشعوبه مواضيع لها.

ثم هناك مشكلة أخرى يخلقها التقليد الأعمى والنقل (الخام) والمحاكاة والاستعارة بدون هضم صحي سليم للعناصر الثقافية المستعارة.

هذه المشكلة تتعلق بطبيعة الخلق القومي وطبيعة المكونات المثالية (الأيديولوجية) التي تجعل الخلق القومي على ما هو عليه من تميز وتفاضل.

فالثقافة الأمريكية ثقافة مادية (برجماتزمية) بنيت على الفلسفة الدارونية التي تبرر انتهاك حرمات العدالة والأنصاف والفضيلة على أساس الفكرة التي تقول بأن (البقاء للأصلح) والحق للقوة؛ وهذا يعني إنها لا تؤمن بمساواة الضعيف العاجز في الحقوق التي للقوى المتمكن. وهذه المثالية في الثقافة الأمريكية البرجماتزمية لا تقتصر على الحياة الصناعية والتجارية ولا على السياسة (كما ابتلى بها العرب في مأساة فلسطين) وإنما تشمل كذلك صميم العلاقات الاجتماعية وسائر اوجه النشاط الإنساني.

قال (شارل بير نز أحد مؤسسي الفلسفة البرجماتزمية ما يلي:

(اختيار الطبيعة للصالح من الأشياء كما يراه دارون يعنى أن عنصر التقدم وجوهره لا يتبع إلا عاملاً واحداً هو الإنتاج. فإذا أريد لهذا التقدم أن يستمر وينمو ويزدهر فلا مفر من خلق العراقيل للقضاء على العناصر التي لا تنمو، ومن ثم فإن القضاء على الضعيف وسيلة جوهرية من وسائل التقدم والرقى. وهذه مثالية لا تختلف في جوهرها - كما ترى - عن النازية والشيوعية المادية.

فهي لتأصل العنصر المادي فيها تنكر الروحانية، والروحانية عنصر أصيل في الثقافات الشرقية.

وإلا فما فائدة الدين والمثل والقيم الروحانية التي تسنده فتعين الفرد والمجتمع على اتباع حياة فاضلة؟

والدعوة إلى القضاء على الضعيف أو تجاهله كوسيلة جوهرية من وسائل (التقدم والرقي) مبدأ يعرض صلب التكافل الاجتماعي إلى خطر التفكك والانحلال، ويخلق في الناس مشارب وأهواء وفلسفات لا يرضى عنها الدين، ولا تنمي في النفس السماحة، ولا تحقق لها الطمأنينة الوجدانية، وعلى ضوء هذه البرجماتزمية نستطيع أن نفسر نصرة كثير من رجال الدين والفكر والسياسة والاقتصاد في أمريكا للعدوان اليهودي في فلسطين وإمداد هذه المناصرة من أغراء اليهود المادي.

فاحترام الوالدين مثلاً نظام لا تقره الثقافة البرجماتزمية - أو بالأحرى لا تقر عليه - والولد بحكم هذه الثقافة لا يؤمن بحق والده عليه في الولاء وفي الطاعة وفي الواجبات التي تحتمها صلة الرحم والشيخوخة وهي واجبات أصيلة تؤلف عنصراً أساسياً في التكافل الاجتماعي.

ومن ثم كان هذا الانحلال الذي أصاب العائلة الأمريكية واستدعى هذه النسبة العالية من حوادث الطلاق ومشاكل الزوجية بالإضافة إلى ذبول العقوق وانقطاع الصلات الروحية والعاطفية بين الأب وابنه والزوج وزوجته. ولولا الرخاء الاقتصادي (الذي من قبيل المصادفات التي جادت بها الطبيعة البكر على سكان (العالم الجديد) والذي صاحب التاريخ الأمريكي، لدفعت عناصر هذا التفكك الاجتماعي بأمريكا إلى الفوضى والانهيار. إذ أن أسس العلاقات بين هذه النظم الاجتماعية كلها هي صلات برجماتزمية مادية. ومن قال أن المادة هي أساس التكافل الاجتماعي؟ أو ليست هذه الوصمة هي محور النقد الذي يوجهه العالم إلى الماركسية وتعاليمها؟

والأدلة عديدة على أن العلاقات البرجماتزمية لا تصلح للحياة السعيدة يلمسها المراقب هنا في أمريكا ويلمس كذلك سمي الأمريكان عبثاً للتغلب عليها وأصلاحها بمثل وقيم تشوبها طوابع الروحانية وتبتعد أكثر فأكثر عن الفلسفة الدارونية.

فمسرحية (موت البائع) مثلاً التي لا تزال تمثل على مسارح برود واي في نيويورك وفي كثير من المدن الأمريكية الكبرى باستمرار منذ اكثر من عامين، تضرب على هذا الوتر الحساس في مشاعر الأمريكي - فهو إنسان قبل أن يكونبرجماتزمياً - فستنزف دموع رواد المسرح كما لو انهم في مأتم. فالمسرحية تدور حول أب وجد نفسه في سن الشيخوخة في مدينة صناعية وقد عجز عن توفير الطمأنينة الاقتصادية لنفسه ولزوجته العجوز في أيامهما الأخيرة. فلم يشفق عليه المجتمع ولن ترأف به النظم (البرجماتزمية). ومع ذك لم يستلم إلى القنوط إلا بعد أن تحقق من فقدان الشفقة والرأفة عند فلذات كبده من بنين وبنات، وهم الذين ساهم معهم في أيام شبابه في توفير المعيشة لهم وتزويدهم بما يزود به الناس أبناءهم من تربية وحسنى فكان أن عجز هذا الشيخ عن مواجهة الحياة البرجماتزمية فألقى بنفسه تحت عجلات القطار!

ففقدان الشفقة والرأفة والحنان بالشيخوخة عند البرجمانزميين مرجعه احتقارهم للضعف مهما كانت بواعثه. والشيخوخة ضعف بغض النظر عن أسبابه.

ولما كانت الفلسفة الدارونية هي جوهر الثقافة البرجماتزمية التي تعيش عليها أمريكا فلذلك لا تؤمن العقلية الأمريكية بالنظريات والروحانيات وهذه الصلات الرقيقة الرفيقة التي تلطف من قساوة الحياة وعصفها كما نؤمن بالنتائج وبالنواحي العملية في النشاط الإنساني ومن ثم فقد الأمريكان احترامهم للثقافة بمعناها الحقيقي.

فالمدرس وأستاذ الجامعة في أمريكا لا يحظى بالاحترام الذي يحظى به في ألمانيا وفي مصر والهند مثلاً. وما ذلك إلا لأن إنتاج المعلم شيء لا يلمس باليد. ولا شك أن الأمريكي يدرك أهمية التعليم وأهمية تعميمه ونشره وترقيته ولكن لا لهذه المتعة العقلية التي توفرها الثقافة الحقة. ولذلك فلأمريكي لا يحترم مهنة المدرس احترامه لصاحب المصنع ومخترع آلة غسل الأطباق مثلاً؛ فلا غرابة أذن أن يكون رجال التعليم في أمريكا اقل أصحاب المهن دخلا، وإلا يلاقوا في المجتمع الأمريكي ما تستحقه وظيفته من مكانة أدبية واحترام ومكافأة مادية تتفق مع ما يحظى به أصحاب الإنتاج الزراعي والصناعي المادية.

فالمستوى والمكانة الاجتماعية عند البرجماتزمين يقاس بالدخل المادي. وبنسبة النجاح الذي أصابه المرء في عالم الحضارة المادية بغض النظر عن طبيعة الوسائل التي حقق بها المر هذا النجاح، شريفة كانت أم غير شريفة. ويقول لك البرجماتزمى أن الحياة كالمصعد (الأسإنسير) لا يسألك الناس فيه من أين جئت، وبماذا جئت، ومن أين لك هذه، وإنما همهم أن يعرفوا إلى أين أنت ذاهب!

وقد يختلف الناس في تفسير هذه الحكمة البرجماتزمية ولكنهم لن يختلفوا في شيء واحد وهو أن البرجماتزمية تجرد الأشياء من جميع القيم كانت أم غير فاضلة، وتقيسها بمقياس الحالة الراهنة. فهي لا تسأل عن الموجبات ولا تهتم كثيراًبالعواقب، وإنما تنظر إلى الأمور نظرة زمنية مادية بحتة. ومن ثم كانت الأخطاء السياسة الشنيعة التي ارتكبتها أمريكا في فلسطين مثلاً وفي هذه البلية الاقتصادية والسياسية التي تواجهها أمريكا إزاء التحدي الروسي الذي يبدو أنه يتخطى في كثير من الحالات النظرة المادية المحددة وتتلاعب بالتطور في مرونة وانتهازية تستمد قوتها من طبيعة الخلق القومي الروسي التي فسر بها لينين وستالين المبادئ الماركسية وجعلا منها فلسفة روسية (سوفيتية)

فالنجاج عند البرجماتزميين هو مقياس كل شيء، فقد تجد فناناً يبدع أرقى أنواع الفن ولكنه لا يحظى بالتقدر، ولن (ينجح) إلا إذا استطاع أن يوجه فنه توجيهاً (ماديا) تجارياً. فإذا اتجه الفن والعلم مثلا لتبسيط القواعد وابتذال الفكرة ووضعها على أسس (عملية) تزين الصحف بالرسومات الإعلانية، وتفكيك الفلسفة والمعرفة وجعل عاليها سافلا بحيث يهضمها الجهلة وأنصاف المتعلمين - إذا انحط رجل العلم والفن إلى هذا المستوى (نجح) أو بمعنى آخر ازداد دخله واتسعت شهرته وارتفعت منزلته الاجتماعية والأدبية. وقد تكون هذه الحقيقة عامة تشتر فيها اكثر الثقافات ولكن لا ريب في أن رسوخها في أمريكا أشد من أي مكان آخر.

ويبدو أن هذه الناحية في الثقافة الأمريكية قد وجدت سبيلاً إلى بعض الكتاب والفنانين من رجال الثقافة العربية. - ودار الهلال مثلاً - وهما رمز للتحدي الذي تواجهه الثقافة العربية على النحو الذي استعرضناه في هذه الكلمة - قد (بسطت) الأدب والفن والعلوم وكثيراً من عناصر الثقافة في وسائل برجماتزمية صادقة حققت لهذه الدار ومثيلاتها ألوانا من (النجاح) وجندت لذلك أقلاما ما كان انفعها إلا تنبسط وأن لا تجند.

ويخيل إلى أن العظمة التي تتبوؤها الثقافة الأمريكية في هذه الفترة من التاريخ لا تعود إلى علو كعبها بالقياس إلى الثقافات الأخرى، وإنما تعود إلى القوة المادية التي تجعل من أمريكا السلطة التي - بحكم ما لها من نفوذ سياسي وبأس اقتصادي - تفرض برجماتزميتها على مختلف الثقافات الإنسانية المعاصرة التي تصل بأمريكا بمختلف الصلات وتحت مختلف الأوضاع والظروف.

فلنحاول - في العدد القادم - أن نتابع دراسة أوجه أخرى من هذه الثقافة البرجماتزمية العملية (الناجحة).

) للبحث بقية)

عمر حليق جامعة كولومبيا - نيويورك