مجلة الرسالة/العدد 897/النهضة الأفغانية
→ الطابع القومي | مجلة الرسالة - العدد 897 النهضة الأفغانية [[مؤلف:|]] |
تحقيقات حول صدر وسدر على الطريق المهجور ← |
بتاريخ: 11 - 09 - 1950 |
بقلم الأستاذ محمد محمود زيتون
شهد الإسلام في القرن الثامن عشر الميلادي ركوداً، شعر به الغيورون بضرورة البعث والنهوض. فقد هب محمد بن عبد الوهاب بحركة (تجديد للدين الإسلامي) وأخذت دعوته تنتشر من نجد إلى ما وراءها من سائر بقاع الإسلام، حتى قامت نهضة إسلامية في البنجاب؛ وجدت صداها في بلاد الأفغان. ولا سيما عندما عانى الإنجليز الأمرين في فتح الهند، إذ وقفت الحركة الوهابية الهندية في وجه الاستعمار، بينما أخذ السنوسي في الجزائر بنظم (الأخوان) ويعدهم لفتح كل مرفق اجتماعي واقتصادي مستمداً نشاطه من التعاليم الإسلامية. وإذ بيت الاستعمار الإيطالي نية الغدر والانقضاض على بلاد المغرب، فقد استعدت السنوسية لهذا الخطر، فأعلنت الجهاد المقدس، وأخذت للأمر ما يتطلبه من السلاح والتموين والزهد جميعاً.
وتبلورت هذه اليقظة، فلم يكن بد من انضواء المسلمين تحت لواء الجامعة الإسلامية. نهض جناحها الأيمن شرقاً على يد الوهابية التي لم تأل جهداً في تطهير الدين مما أعتوره من نوائب كادت تطمس جوهره في عصور الظلام بينما نهض جناحها الأيسر على يد السنوسية التي أدركت صميم الإسلام كدين ودنيا عقيدة وعمل وعبادة وسياسة، وحق وجهاد، ومصحف وسيف بالسنوسية والوهابية قامت حركة التحرير والتنوير في هذا القرن الصاخب بالاستعمار وأساليبه.
ومما هو جدير بالذكر، أن هذه الحركة لم تخالطها نزوات التعصب، بل ذهبت إلى أبعد حد في التسامح، واقترنت بالدعوة إلى الاقتباس من الغرب كل ما ينفع ولا يضر. دعا إلى ذلك المصلح الإسلامي الهندي، السيد أحمد خان، غير عابئ بالجمود الذي خيم ردحاً من الزمن على كل أفق إسلامي، حتى تلألأت شرارة الإصلاح في كل مكان، وقامت ثورة (تركيا الفتاة) سنة 1908م كنتيجة لازمة خاتمة لهذه المقدمات الدينية السليمة. في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي فتح الهند السلطان محمود أبن سبكتكتين الفزنوي التركي، فانهارت أباطيل البراهمة أمام كتائب الإسلام المظفرة. واقتفى أثره من الأفغان السلطان محمد الغوري الذي ضم دلهي إلى ممالكه سنة 1194م. ونسج عل منواله القائد بختيار الذي طهر البنغال وكوجرات من البوذية، فكانت هذه الحركة الجهادية إرهاصاً بقيام دولة إسلامية في الهند عاصمتها دلهي، ظل الزمان يحالفها من القرن العاشر إلى أوائل القرن التاسع عشر. حيث أخذت الضربات الإنجليزية تتوالى على هذا الصرح العتيق، الذي لم يكن بد من أن يتصدع بعد أن صمد طويلاً أمام الطغيان، وشهد الدهر كم كانت همة الأفغان مرادفة للجبال الرواسي التي - على الرغم من ثلوج عمائمها - أوقدت نار الحمية في نفوس أبطالها.
فإذا كان القرن التاسع عشر، بعث نابليون بونابرت الجنرال غاردان لمفاوضة إيران للدخول في محالفة مع فرنسا لفتح الهند، فأسرعت إنجلترا إلى الأفغان لتتخذ منها درعاً ضد إيران، ولما قامت الثورة الأفغانية التجأ أخو الصدر الأعظم إلى الإنجليز يستعديهم على أخيه دوست محمد خان وهو إذ ذاك حليف لروسيا.
اهتبلت إنجلترا هذه الفرصة وجردت حملتها على الأفغان سنة 1839م، وبعد عامين، زاد فيهما حنق الأفغانيين الأحرار على الغاصبين الإنجليز، قتل المعتمد البريطاني في كابل؛ ومعه عدد من ضباط الاحتلال. ولم يزل الأفغانيين يناصبون الإنجليز العداء حتى نصبوا الكمين لهم في (خورد كابل) فاستأصلوا حوالي سبعة عشر ألفاً من الإنجليز الذين استعانوا بحمايتهم في الهند على نسف قلاع العاصمة، وبذلك ثأروا لأنفسهم.
أما وقد شمخ الأفغانيون بأنوفهم للأحداث، وعافوا الاستبداد ولم يستنيموا للضيم فأن الإنجليز رأوا أنفسهم مضطرين لتغيير نظرتهم إزاء الأفغان الحر الأبي، وحاولوا أن يبثوا عقارب السوء فذهبت محاولاتهم أدراج الرياح، وأوقعوا خلال الصفوف يبغون الفتنة، فارتدت سهامهم إلى نحورهم. ولكن الأفغانيين وقفوا صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص إذ تضافر الشعب والسلطان. وكان الدورانيون - وهو الأسرة المالكة ويبلغون ثلث الأفغان - أشد اعتزازاً بالوحدة أمام الدسائس الإنجليزية من جهة، والأسلحة الفتاكة التي يتذرع بها الدخيل البارد من جهة أخرى.
حقاً لقد كان الشعب الأفغاني أعزل من كل سلاح إلا التضامن والإيمان بالحق، والجهاد حتى يتحرر الوطن من الطغاة المعتدين.
ولما مات (دوست محمد خان) سنة 1863 دب الشقاق بين أولاده، وظن الإنجليز أنها ثغرة يستطيعون النفاذ منها إلى إشباع سعارهم، لكن فوت عليهم هذه الفرصة ما توارثه الأمراء الأفغانيون من بغض الاحتلال، وأعداء الوطن. أليس أبوهم القائل للورد لورنس: (إن كنتم تريدون أن نبقى أصحاباً، فلا تكرهوني على قبول ضباط إنجليز في بلادي)؟ وضرب (شير علي خان) أروع المثل في الإباء إذ استعصى عوده على الإنجليز الذي غمزوا جانبه فلم يلن لهم، ولم يهن هو على نفسه. فأحنقوا على السلطان أبنه (يعقوب خان) وحرضوه على أبيه، واحتضنوه وأفسحوا له صدراً بارداً منذ أخذوه إلى إنجلترا، ولقنوه تعاليمهم الاستعمارية ظاهرها وباطنها، كما أغروا الفقراء بالعمل في الحاميات البريطانية بالهند لقاء أجور عالية استعداداً لتجنيدهم ضد بلادهم في القريب المنتظر على ما كانوا يزعمون.
وفي سنة 1878 أعد الإنجليز عدتهم للإجهاز على الأفغان، فإذا بأمراء الهند ومرتزقة البنجاب والسيخ وأخلاط من المنبوذين وعباد البقرة والعنزة يدخلون كابل بقيادة اللورد دوبرتس.
وفر (شير علي خان) إلى مزار شريف في القسم التركي من بلاده، وكان قد أستدعى أبنه يعقوب وأمنه على نفسه ثم سجنه حتى إذا دخل الإنجليز كابل أطلقوا سراحه ونصبوه أمير وعقدوا معه معاهدة (غاندامق)، وأملوا عليه طبعاً كل رغائبهم التي يئسوا من نيلها من أبيه، غير أنهم لم يكادوا يتمتعون بما ظفروا به حتى اندلعت نار الثورة الوطنية من جديد فخلعوا يعقوب خان ونفوه إلى الهند، وأخذوا يولون ويعزلون بعد موت (شير علي خان) سنة 1879 حتى هدأت البلاد على يد الأمير (عبد الرحمن) وتم الجلاء عن البلاد، وبذلك توطد نفوذه، وأقام مصانع السلاح والذخيرة، ودرب الجيش، ووسع الحدود شرقاً، وباتت البلاد في أمان واطمئنان حتى مات سنة 1901.
وخلفه أبنه الأمير (حبيب الله خان) الذي لم يشأ أن يطعن الإنجليز من الخلف حين شبت الحرب العامة، ولم يصخ إلى تحريض الألمان والأتراك حتى اغتيل وهو في مشتاه بجلال أباه وخلفه ولده (أمان الله خان)، فبايعه الشعب دون أخيه ولعهد أبيه نصر الله خان، وبغير موجدة من أحدهما على الآخر.
فلما استقرت الأمور، وأجمعت العناصر المختلفة على المطالبة الوطنية، صعرت بريطانيا خدها، فبدأ الجيش الأفغاني مخترقاً حدود الهند، وأبلى أحسن البلاء. وكانت الحرب وسئم المحاربون الإنجليز بعد أن توالت عليهم الضربات من سياستهم الغاشمة، فطلبوا الهدنة وتم الصلح سنة 1921. استقلال الأفغان في سياسة الداخل والخارج، مع تحديد المناطق الحرام بين الهند والأفغان.
وإيماناً من الملك بنفسه، واعتزازاً بالاستقلال التام يؤخذ بالجهاد، ولا يستجدي من أحد، أسرع - قبل عقد الصلح - إلى إرسال سفرائه إلى طهران وأنقره، كما عقد معاهدة مع تركيا وروسيا، فكان لهذه السياسة نتائجها العملية في الاستقلال حقيقة واقعة.
ولما فرغ الشاه من المشاكل الداخلية في بلاده، شرع يعمل على توطيد الروابط بينه وبين إنجلترا من جهة، والدول الإسلامية من جهة أخرى، ولا سيما تركيا ومصر، وبذلك لم يهمل الأواصر المتينة التي تربط الأفغان بالعالم الإسلامي حرصاً منه على المشاركة الفعالة في آلامه وآماله وفي سنة 1929 خلعه الشعب المسلم المستنير لما رأى من تطرفه الأوربي وخلفه جلالة الملك الحالي محمد ظاهر.
في معترك هذا النضال أنجبت الأفغان فيلسوف الشرق (السيد جمال الدين الأفغاني) الذي يعتبر أول باعث لفكرة الإسلامية، وأستاذ المفكرين الأحرار ممن تلقوا على يديه تعاليم النهضة الفكرية، ورفعوا مشاعل الاستقلال في وجه الاستعمار الجاثم على صدر العالم الإسلامي.
كان أبوه السيد صفدر ممن يخشى نفوذهم (دوست محمد خان)، ولما بلغ جمال الدين الثامنة عشرة. كان قد أستكمل علومه في كابل، فارتحل إلى الهند حيث تعرف على أحوالها في خلال السنتين اللتين قضاهما بها. ثم وصل إلى مكة سنة 1857 ووقف هناك على ينبوع الجامعة الإسلامية. فأنشأ بها جمعية أم القرى. ولما بلغ السابعة والعشرين أختاره أعظم خان ليكون رئيس وزرائه لسعة أفقه، وإدراكه لعظائم الأمور.
ومن الطبيعي أن تعمل له دول الاستعمار ألف حساب، وأن تحاربه بكافة الطرق المباشرة وغير المباشرة. وحشدت في وجهه الفلول الجامدة، كلما قصد بلداً إسلامياً، وكثيراً ما كان يتهافت عليه الناس تهافت الفراش على النار.
وفي الحق أن جمال الدين كان كذلك، فلم ينزل ببلد إلا أرث فيه الجذوة الكامنة، وجلا جوهره النفيس الذي ينطوي عليه كل مؤمن بدينه، وحذر من تألب المستعمرين على الشرق، وانقضاضهم على الإسلام بحرب صليبية جديدة.
وتتلمذ عليه في مصر رواد الحركة الإصلاحية والجهادية من أمثال محمد عبده وأحمد عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل وعبد الله النديم، الذين يرجع إليهم الفضل في القضاء على الجمود الفكري، ونبذ الخرافات، واجتمعت أهدافهم على توجيه الأمة إلى التطلع بعين البصيرة، وقلب الحمية، إلى عالم النور والحرية، كما نشطت الصحافة حتى كانت لمراجل الثورة وقوداً غير منقطع، وتبودلت الصحف الإسلامية في شتى الأقطار للوقوف على احدث الخطوات، واعتلى دعاة الحرية منابر الثورة، لتحريك النفوس الهامدة، وتأجيج النار الخامدة تحت رماد الخطوب.
وما وافت سنة 1911 حتى صدقت الحوادث نبوءات السيد جمال الدين، وكان كالذي أمر قومه بأمره وتحذيره، حتى استبانوا الرشد في صحوة الصباح فقد انتهكت إيطاليا حرمة طرابلس، وشقت الدول النصرانية البلقائية عصا الطاعة على تركيا بتحريض من دول الاستعمار على دول الخلافة، أملاً في خضد شوكتها، وتوهين نفوذها في سائر البلاد الإسلامية، فلم تلبث هذه البلاد أن استنفرت آسادها في سبيل الله والوطن، فكان ما لم يكن له حساب عند الأوربيين الذين استيقظوا من سباتهم على القوة الإسلامية الكاسحة مما جعل (السير موريسون) يقول (لا مراء في أن الإسلام أكثر من عقيدة دينية بل هو نظام اجتماعي تام الجهاز: هو حضارة أكتمل نسيجها، حضارة لها فلسفتها وتهذيبها وفنونها) ثم أخذ يستعرض صمود هذا الدين المتين في مواجهة الأحداث (حتى صار وحدة جامعة نامية نمو الجسم الطبيعي سائراً سيره بفعل نظامه الذاتي الكامن فيه).
محمد محمود زيتون