مجلة الرسالة/العدد 896/الغزال وعلم النفس
→ التشبيه في القرآن | مجلة الرسالة - العدد 896 الغزال وعلم النفس [[مؤلف:|]] |
إنشاء اتحاد برلماني عربي على أسس جديدة ← |
بتاريخ: 04 - 09 - 1950 |
للأستاذ حمدي الحسيني
الوجدان
- 4 -
تحدثنا في مقالنا السابق عن العلم أو المعرفة أو الإدراك في نظر الإمام الجليل أبي حامد الغزالي وبينا ما عنده عن علم المعاملة وعلم المكاشفة أي المعرفة الشعورية واللاشعورية فظهر ما سماه بالعلم ظهوراً واضحاً وأضاه ما سماه إيماناً إضاءة جميلة وأشرق ما نعته باليقين إشراقاً قويا باهراً ساحراً.
ونحن الآن نتحدث عن الوجدان أو ما يسميه الإمام الغزالي بالحال. ولكننا نرى من الخير - قبل أن نبدأ بهذا - أن نذكر التعريف النفسي للوجدان لنستطيع المقابلة بينه وبين ما سنراه من قول الغزالي في هذا الموضوع.
(يقول النفسيون إن الوجدان يطلق على ما تجده في نفسك من لذة وألم يصحب الإدراك أو النزوع، فإذا ما حال حائل دون مسير أية عملية عقلية أو جسمية أو عاقها عن المضي في سبيلها، كان التأثر مصحوباً بالألم. إما إذا سارت في طريقها حرة لا يعوقها عائق كان التأثر سروراً وارتياحاً.
وهذا الوجدان يصحب كل علمية عقلية كما يصحبها الإدراك، فالوجدان يشمل اللذة والألم والفرح والحزن والغضب والندم، وكل انفعال نفساني، كما يشمل العواطف أيضاً. وأنت الذي تتأثر بهذه العلاقة التي بينك وبين الشيء الذي تشعر به وتنفعل بتلك العلاقة).
هذا ما يقوله علم النفس في الوجدان الذي يسميه الغزالي الحال. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي عن الحال الذي يعرفه علم النفس بالوجدان.
يقول الغزالي في تحليله لإحدى العمليات العقلية وهي التوبة ما يأتي: إن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم. وحال. وفعل. فالعلم الأول والحال الثاني. والفعل الثالث، والأول موجب للثاني إيجاباً اقتضاء اطراد سنة الله. أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب فإذا عرف هذا معرفة محققة بيقين غالب على القلب ثار من هذه المعرفة تألم للقلب، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى، انبعثت من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل).
ثم يقول في موضع آخر: (أن اللذة تابعة للادراكات. والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً، بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور وهو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الأبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها).
نرى في قول الإمام الغزالي هذا صورة واضحة الأجزاء دقيقة التركيب متناسبة لأقسام تطابق في وضوح أجزائها ودقة تركيبها وتناسب أقسامها، الصورة التي رسمها علم النفس للوجدان تمام التطابق. فقد عرف الغزالي هذه العلاقة الدقيقة العجيبة بين المعرفة والوجدان والنزوع، وعرف أن العلم أو الإيمان أو اليقين يثير الوجدان وأن هذا الوجدان قد يكون لذة وقد يكون ألماً وأن اللذة تجلب والألم يدفع وأن هذا الجلب وهذا الدفع هما النزوع، وأن هذا النزوع هو الإيجابية والسلبية في السلوك وأن بين طيات هذه السلبية وهذه الإيجابية السلوك العادي والسلوك الشاذ.
بل في هذين السلوكين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والقوة والضعف والشجاعة والجبن، بل في هذين السلوكين كل تاريخ البشرية من أقصى أزمنة التاريخ إلى أن تبيد الأرض ومن عليها.
هذا هو الوجدان أو الحال عند الغزالي. هو اللذة أو الألم يصحب الإدراك أو المعرفة أو العلم أو يصحب النزوع أو الإرادة أو العمل، وما دام الحال هو اللذة والألم عند الغزالي كما هو الوجدان عند علماء النفس المعاصرين بالضبط فمن الحق أن نعرف ما عند الغزالي عن الغرائز التي هي منابع الوجدان أو مسارح اللذة والألم لا سيما الغرائز القوية العريقة في القدم التي يحافظ بها الإنسان على حياته وينافح بواسطتها دون بقائه.
نقف الآن قليلاً لنشير إلى ما كنا ذكرناه في المقالات السابقة من أن نفسية الإمام الغزالي كانت سلبية بكل ما في السلبية من معنى وها نحن أولاء نرى هذه السلبية واضحة في معرفته للغرائز البشرية ووصفه لها وتعليقه عليها، فإنه يقسم الغرائز إلى قسمين، منجية من نار جهنم ومهلكة بهذه النار، فمن الغرائز المنجية من النار الخوف والخضوع والانقياد وما يتبع هذه الغرائز من الرغبات في الفقر والزهد والقناعة.
ومن الغرائز الغضب والتغلب والسيطرة وما ينشأ عنها من الرغبات في الانتقام وحب الجاه والمال والشهرة والمدح.
ونحن ذاكرون هنا طائفة من الغرائز على الترتيب الذي اتخذه لنفسه في ذكرها لنرى أن الغزالي قد فهم الغرائز فهما علميا صحيحاً مع المعرفة بأنه أراد - كمرب ديني عظيم - أن يستعملها في خدمة عقيدته الدينية القوية ويقينه الإسلامي المستولي على قلبه ولنسمع الآن ما يقوله عن غريزة الخوف التي جعلها من الغرائز المنجية من الهلال، يقول:
(إن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. فالعلم بأسباب لمكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه، وذلك الإحراق هو الخوف، ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والاصفرار والغشية والزعقة والبكاء، وقد تنشق به المرارة فيفضي إلى الموت، أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل، أو يقوى فيورث القنوط واليأس). أما فضل الخوف في نظر الغزالي كمرب فلأنه قامع للشهوات، يقول: لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضله بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات.
ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف. وكيف لا يكون الخوف ذا فضل وبه نحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى. وأما غريزة الغضب فيصفها الغزالي بهذا الوصف الدقيق البديع البارع يقول: (إن الله تعالى خلق الحيوان معرضاً للفساد في داخل بدنه وأسباب خارجية عنه) إلى أن قال (أما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر الهلكات، فافتقر إلى قوة وهمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب وثارت به ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب الإنسان على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإذا صدر الغضب على من فوقه وكان من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب وبالجملة فقوه الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام. وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي بعد وقوعها والانتقام قوة هذه القوة وشهوتها، وفيه لذتها ولا تسكن إلا بها).
هذا وصف الغزالي لغريزيتي الخوف والغضب وهما من أقدم الغرائز وأقواها وافعلها في حياة الفرد والجنس، الأولى سلوكها سلبي والثانية سلوكها إيجابي وهو المقاتلة بغية الانتقام والتشفي وقد وضع الغزالي كل غريزة من هاتين الغريزتين الأساسيتين في موضوعها الطبيعي بالنسبة للحياة، بل بالنسبة لمن يستهدف الحياة.
ومن يستهدف الحياة مطلقة مجددة لا يطمئن إلا بالهرب من الأخطار والنجاة منها. وأما الغضب والمقاتلة فلا يخلو أمر الحياة معها من خطر مهلك ولهذا فقد وضع الغزالي هذه الغريزة على رأس الغرائز المهلكة.
ومهما يكن من أمر الغزالي في فهمه للحياة فإنه قد فهم الغرائز الحيوانية والطبائع الإنسانية فهما صحيحاً دقيقاً كما رأينا.
حمدي الحسيني