الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 895/من روائع (شلي)

مجلة الرسالة/العدد 895/من روائع (شلي)

بتاريخ: 28 - 08 - 1950


للأستاذ إبراهيم سكيك

قدمت في مقال سابق قصيدتين من روائع قصائد الشاعر الشاب (شلي) وإتماما للبحث أقدم للقارئ قصائد أخرى ابدأها بمقطوعة على لسان السحابة وفيها يقول:

أنا التي أجلب وابل المطر للأزهار العطشة من البحر والأنهار

أنا التي أعطي ظلا خفيفا لأوراق الشجر عن الظهيرة وهي غارقة في أحلامها

أنا نروج أدرس حبات البرد فتضرب الأرض كأنها أسواط فأحيل السهل الأخضر إلى أبيض ثم لا ألبث أن أذيبه بزخات من المطر وأضحك بينما أسير والناس تصغي إلى رعودي.

أنا التي أغربل الثلج على الجبال وهي أسفل منى حين تئن أشجار الصنوبر وهي شاحبة، واقضي الليل على وسادة بيضاء وأنا بين ذراعي الريح العاصف يحركني أنى أراد. وأتنقل بين أبراج عرائشي السماوية مهتدية بنور البرق الخاطف.

وعندما يسدل الليل ستار الماء القرمزي على الأرض أطوي أجنحتي لأستريح على وكر من الهواء كما تستريح الحمامة المتعبة في وكرها، ويتوهج القمر مطلقا أشعته الفضية على سطحي المغطى بالقطن المندوف ندفته يد النسيم فيحدث في خيمتي الرقيقة ثقوبا تبص منها النجوم فأضحك وأنا أراهن يطرن حولي كسرب من النحل الذهبي.

أنا بنت الأرض والماء وربيبة السماء، ولم أخرج من الماء إلا بعد أن اخترقت مسام المحيط. فخرجت صافية وتغير شكلي مرات ومرات ولكني لا أفنى ولا أموت لأني بعد أن ينتهي المطر وتصفو قبة السماء الزرقاء ويهب الريح من فوقي وتخترقني أشعة الشمس أخرج من كهوف المطر كما يخرج الطفل من بطن أمه أو شبح من القبر لأبني نفسي من جديد.

وفي قصيدة ثانية كتبها وقت الضيق عندما كان هجر والده وسمع بانتحار زوجته الأولى التي تركها وتزوج أخرى دون قرار شرعي. في هذا الوقت من البؤس وتأنيب الضمير كتب القصيدة التالية وفيها يقول:

إن الزهرة التي تبسم اليوم، تذوي غداً وكل ما ترغب في بقائه يخدعنا ويولي عنا سراعا.

فأي بهجة في هذه الدنيا التي لا تضيء ' لا كما يضيء البرق الخاطف فهو يلمع بشدة ولكن لا يدوم، وهو يسخر من الليل الحالك ويختفي في الحال.

أنظر إلى الفضيلة تر أنها لا تثبت على حال وتتقلب كتقلب الأيام وإلى الصداقة نجد أنها نادرة الوجود

وأنظر إلى الحب تر أنه يبيع النعمة بالكبرياء والرحمة واليأس، وبعد فناء جميع المسرات والمباهج نرى أنفسنا في الوجود وعقولنا في التفكير، فما دامت السماء زرقاء صافية، والأزهار باسمة ماضرة، والعيون لم تتغير نظراتها قبل مجيء الليل تملأ النهار متعة وسروراً، وما دامت الساعات الهادئة تزحف ببطء: أفهمك في الأحلام التي لن تفيق منها إلا لتبكي حين ترى الحقيقة.

وفي قصيدة ثالثة يخاطب محبوبته بلغة الطبيعة وفلسفة الوجود خطاباً شعرياً رائعاً اقتبس معانيه من ظواهر الطبيعة التي شغف بها وأدمج نفسه وروحه فيها فيقول:

تتحد الينابيع بالأنهار، وتلتقي الأنهار بالمحيطات وتجتمع الرياح الآتية من المساء بعضها ببعض بعاطفة ورقة.

لا شيء في الطبيعة إذا يظل منفرداً بل يربطه القانون السماوي بشيء آخر ليتحد الاثنان، فلم لا يكون هذا حالي معك؟

انظري إلى الجبال وهي تقبل السماء العالية عن بعد، وإلى الأمواج وهي تعانق بعضها بعضا، وكذلك تفعل الأزهار والأغصان وهذه أشعة الشمس تحتضن الأرض وأشعة القمر تقبل البحر، فما قيمة هذه القبلات إن لم تقبلني مثلها؟

وفي قصيدة رابعة يخاطب الليل وهو يتصوره روحاً تسري في العالم فيناجي هذه الروح المحبوبة مناجاة شعرية رقيقة فيقول:

سيري بسرعة يا روح الليل وأنت تجتازين أمواج البحار الغربية بعد أن تخرجي من كهفك الشرقي الكثيف الضباب حيث تنسجين أثناء النهار أحلام الهناء والرعب مما يجعلك في نظرنا مزيجة من الخوف والمحبة، فأسرعي في سيرك.

اتشحي برداء أشهب نسجت خيوطه من النجوم، واحجبي بشعرك الفاحم الطويل عين النهار بعد أن تقبليه حتى تضنيه، ثم تجولي فوق المدينة والبحر والبر والمسي بعصاك السحرية المخدرة كل إنسان فهلمي أيتها الروح المرتقبة.

عندما نهضت ورأيت الفجر قد لاح تنهدت أسفاً عليك، وعندما ارتفعت الشمس في الأفق، وزال الظل عن وجه الأرض، ثم وقع الظهر ثقيلا على الأزهار والأشجار وأخذ النهار المتعب ينحدر ليستريح في مقره رأيت انك قد تأخرت قليلا فتنهدت من أجلك.

وآخر قصيدة أرغب في الاقتباس منها قصيدة رائعة مطبوعة بطابع (شلي) وتتجلى فيها عبقريته الفذة التي تنسج حول منظر صغير أو أمر بسيط نسيجاً قويا من المعاني المبتكرة والتخيلات الظريفة، فها هو يسمع غناء قبرة في مساء يوم من أيام الربيع فيناجيها مناجاة الشاعر الفنان الذي ينظر للأمور بمنظار دقيق فيرى ما لا يراه غيره من البشر وتقترن أحاسيس ومشاعر لا تعتري غيره فيعبر لنا عن كل ذلك في قصيدة قوية بقول فيها:

حييت أيتها الروح اللطيفة، إذ لا أتصور انك طير لأنك تسكبين قلبك كله في نغمات منسجمة من السماء القدسي أو من جواره.

وفي ضوء الشمس الذهبي عندما تميل للغروب وتصبغ الغيوم صبغة لامعة أراك تسبحين مسرعة في الفضاء كما تسبح موجة من الطرب في مخيلة الإنسان.

وأرى المساء الأرجواني الشاحب يذوب حوله فلك مسيرك كما تذوب نجمة في السماء طلوع النهار، فأنت لا نراك ولكنا نسع صوتك الحاد البهيج.

وها هي الأرض وما حولها من هواء قد أترع بصوتك كي يحصل في ليلة صافية عندما يمطر القمر أشعته اللؤلؤية فيفيض السماء بها.

أي شيء أنت؟ لسنا نعرف، ما أكثر الأشياء شبها بك!

هل أنت كالشاعر المنزوي وهو يستنير بأفكاره ويطرب بغنائه الذي لا يطلبه منه أحد حتى يرى العالم مترعاً بالآمال والمشاعر والمخاوف، ذلك العالم الذي لا يعبأ به!

أم أنت كفتاة رفيعة قابعة في برجها الحصين وهي تواسي روحها الرازحة تحت عبء غرام عنيف بموسيقى عذبة في ساعة خفية فتفيض أنغام الموسيقى التي تغرق قصرها؟

أم أنت كوردة تتظلل بين أوراقها الخضراء يفتحها النسيم اللطيف فترسل رائحة زكيه تجعل الفراش المتنقل حولها يغشى عليه لشتدتها وقوة عبيرها؟ إن الموسيقى الصادرة منك لتفوق في جمال وقعها صوت قطرات المطر في الربيع وهي تتساقط على مرج أخضر لامع تفتحت أزهاره بعد أن أيقضها الغيث فجعلها في مرح وحبور.

علميني أيتها الروح أو الطير شيئاً عن أفكارك الخاصة لأني لم أسمع في حياتي قصائد غزلية أو خمرية أرسلت في نفسي طوفاناً من الطرب كما أرسلت أنت.

وإذا رنت صوتك بصوت جوقة ملائكية أو ترتيلة النصر الفرحة فإنها مقارنة فارغة أشعر بأن ينقصها شيء خفي.

أي موضوع تدور حوله ينابيع أنغامك السعيدة؟ أهي عن الحقول والجبال، أم عن الأمواج والسماء، أم عن بنات جنسك؟

وعلى كلاً فلا يمكن أن يكون في صوتك الطروب الحاد نغمة من نغمات الضعف أو ظل من القلق لأنك تحبين ولكن لا يبلغ بك الحب إلى درجة الوله وما ينتج عنه من أشجان.

لابد انك تفكرين في أمور حقيقة عميقة خلاف ما نحلم به نحن بني البشر، وإلا فمن أين لك هذا السيل البلوري من الأنغام!

أما نحن فإننا ننظر ونفكر فيما مضى وفيما هو آت حتى نذوي مما لا وجود له، ولا تصدر عنا ضحكة مهما كانت إلا وهي مشوبة بل مثقلة بالألم، وأعذب أغانينا تلك التي تتحدث عن الأحزان.

إيه يا من احتقرت الأرض وعلوت في الفضاء، علميني نصف الحبور الذي لا بد أن عقلك يعرفه حتى تنبعث من شفتي أنغام منسجمة كأنغامك وحتى يصغي العالم إلي) كما أصغي لك الآن.

هذا ما رغبت أن أعرض لقراء العربية عن الشاعر الموهوب الذي له مكان في قلب كل إنكليزي ليكون في قراءة تأملاته وأفكاره متعة ولذة راجياً أن أتمكن من متابعة الكتابة عن الأدب الغربي والسلام.

إبراهيم سكيك