مجلة الرسالة/العدد 894/اللغة العربية والإسلام في الداغستان
→ من نقد النقد | مجلة الرسالة - العدد 894 اللغة العربية والإسلام في الداغستان [[مؤلف:|]] |
كشاجم ← |
بتاريخ: 21 - 08 - 1950 |
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
على الضفة الغربية من بحر الخزر، وعلى المنحدر الشرقي لجبال القوقاز، بلاد جبلية تذكرنا بمناظرها، وأشكالها الطبيعية، وحياة سكانها الاقتصادية جبال لبنان، لكنها أشد برداً منها وأكثر وعورة وأجمل منظراً.
وهذه البلاد الجبلية هي التي تعرف اليوم بالداغستان، أي البلاد الجبلية. وقد أطلق عليها العرب يوم احتلوها أسماء شتى منها الجبال، وبلاد الباب، أو الباب والأبواب، وبلاد صاحب السرير، وبلاد الخزر، إلى غير ذلك من الأسماء التي لم تكن تشمل كل البلاد، بل قسماً منها أو أقساماً بعضها مستقل عن البعض الآخر. وأكثره واقع في جنوبي الجبال، وكان داخلاً في حكم الفرس حتى الفتح العربي كما يؤخذ من البلاذري واليعقوبي والطبري وغيرهم.
ويحد بلاد الداغستان هذه من الجنوب جمهورية آذربيجان، ومن الشمال نهر (ترك)، ومن الشرق بحر الخزر، ومن الغرب جبال (أبرز)، و (قازيك) وممر (دريال) الشهير وجزء من بلاد الكرج واركس.
كانت هذه البلاد المجاز الذي يسلكه الفاتحون الآسيويون إذا أرادوا الإغارة على أوروبا، وبلاد الروس الصقالبة، ويعبره الروسيون والتتار من الشمال إلى الجنوب إذا أرادوا التوغل في أنحاء آسيا، ولذلك كانت - دائماً - محط أنظار الفاتحين والغزاة من قديم الزمان إلى يوم الناس هذا.
ولم تكد جيوش الإسلام والعرب تحتل أرمينية وأذربيجان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أصعدوا شمالاً نحو (باب الأبواب).
وكان أول من سار إلى تلك الجهات هو سراقة بن عمرو، ومعه عبد الرحمن بن ربيعة، وحذيفة بن أسيد، وبكير بن عبد الله، وسلمان بن ربيعة مع نفر من المجاهدين، فوصلوا إلى (دربند) - باب الأبواب - وفتحوها في سنة 22 هجرية وفي فتح (دربند) يقول سراقة بن عمرو:
ومن يك سائلا عني فإني ... بأرض لا يؤاتيها الق بباب الترك ذي الأبواب باب ... لها في كل ناحية مغار
نذود جموعهم عما حوينا ... ونقتلهم إذا باح السرار
سددنا كل فرج كان فيها ... مكابرة إذا سطع الغبار
وأقحمنا الجياد جبال قبج ... وجاور دورهم منا ديار
وبادرنا العدد وبكل فج ... نناهبهم وقد طار الشرار
على خيل تعادي كل يوم ... عناداً ليس يتبعها المهار
ولكنهم لم يكادوا يجاوزونها إلى (بلنجر) حتى لقيهم خاقان الخزر في خيوله على نهر (بلنجر) فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً، وقتل قائد الجشس سراقة بن عمرو، فتولى القيادة بعده عبد الرحمن أبن ربيعة الباهلي، وواصل القتال، وجاء المسلمين مدد من أهل الشام بقيادة حبيب بن مسلمة فاشتد القتال بين المسلمين والخزر حتى قتل قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة أيضاً، واستشهد معه خلق كثير، واضطر الباقون إلى الانسحاب إلى (درنبد) بعد أن أخذ الراية سلمان بين ربيعة الباهلي، وقاتل حتى استطاع أن يدفن أخاه بنواحي (بلنجر) وفي مقتل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي (بلنجر) وقتيبة بن مسلم بالصين يقول عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
وإن لنا قبرين قبراً بلنجر ... وقبراً بصين استان يالك من قبر
فهذا الذي بالصين عمت فتوحه ... وهذا الذي يسقى به سبل القطر
وهنا يروي المؤرخون أن خلافاً دب بين جيوش المسلمين على من يتولى القيادة بدل عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فأهل الكوفة يريدون تولية سلمان بن ربيعة الباهلي شقيق عبد الرحمن، وأهل الشام يريدون تنصيب أميرهم وقائدهم حبيب بن مسلمة وكادت تكون فتنة، حتى قال شاعر أهل الكوفة يومئذ يذكر هذا الخلاف، ويشرح أوجهة نظر الكوفيين:
فإن تضربوا سلمان نضرب جيبكم ... وإن ترحلوا نحو بن عفان نرحل
ولا تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أمير في القبائل مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته ... ليالي يرمي كل ثغر نوكل
وفي النهاية تم الاتفاق على تقليد سلمان بن ربيعة الباهلي إمارة الجيش مكان أخيه عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فعبأ سلمان جيشه، وسار نحو (بلنجر)، فلقيه على نهرها خاقان الخرز في خيوله أيضاً، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قتل سلمان بن ربيعة الباهلي أيضاً، وقتل معه خلق كثير من رجاله قيل أربعة آلاف قتيل، وأضطر المسلمون مرة أخرى إلى الانسحاب بعد أن حملوا معهم جثة سلمان بن ربيعة الباهلي وكثيراً من جرحاهم إلى (دربند) ولكن الجيوش الإسلامية المنسحبة في هذه المرة لم تقف في (دربند)، بل تفكك شملها، وتشتت في كل اتجاه.
وبعد هذا الانكسار الذي مني به المسلمون في هذه الجهة فترت حركة الحملات العسكرية إلى هذا الميدان النائي بفعل الحوادث الداخلية التي أعقبت مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحروب معاوية وعلي، وما تبع ذلك من الفتن حتى إذا ولي الخلافة الإسلامية الوليد بن عبد الملك جهز جيشاً كبيراً بقيادة مسلم بن قتيبة ووجهه سنة 89هـ إلى أرمينية، فالداغستان، فقاتل الخزر وفتح كثيراً من البلاد، وغنم الغنائم، ثم قفل راجعاً. ثم وجه الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش قوي إلى تلك البلاد أيضاً، فقاتل أهلها، وغلبهم على كثير من بلادهم، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع بها.
وفي سنة 105هـ وجه يزيد بن عبد الملك جيشاً إلى هذه البلاد بقيادة الجراح بن عبد الله الحكمي من مذحج، فسار إلى الخزر فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى وغنم، ثم رجع إلى جنوبي أرمينية، فجاشت الخزر، ولحقت به، فحاربهم في صحراء (ورشان) فانحازوا إلى ناحية أردبيل، فواقعهم على أربعة فراسخ مما يلي أرمينية، فاقتتلوا ثلاثة أيام، فاستشهد الجراح هناك، وقتل كثير من جنده، وتفرق الباقون، وتشتتوا في اضطراب. وسمي نهر هناك بإسم الجراح، كما سمي جسر عليه جسر الجراح أيضاً، ثم كان أن عاث الخزر في البلاد، وفقد العرب هيبتهم، فانسحبوا من أطراف أرمينية. حتى إذا ولي الخلافة هشام بن عبد الملك ولي أخاه مسلمة بن عبد الله صقر بني أمية، وبطلها المجرب أرمينية، وأمره أن يسير إليها برجاله وقواده ليطهر البلاد من الخزر، وممن طمع فيها بعد قتل الجراح، فسار إليها في سنة 112هـ وقد وجه على مقدمته سعيد بن أسود الحرسي، ومعه كثير من القواد بينهم الوليد بن القعقاع العبسي، وسار مسلمة مظفراً منصوراً حتى وصل إلى مدينة (باب الأبواب) وفتحها من جديد، وكان في قلعتها ألف أهل بيت من الخزر، فحاصرهم ورماهم بالحجارة، ثم عمد إلى غير ذلك من وسائل الهجوم حتى اضطرهم إلى الهرب، وإخلاء القلعة، فلما فتحها وغيرها من القلاع الحصينة أخذ يتقدم في البلاد ويحتلها إلى أن تم له فتحها كلها، فعاد إلى (باب الأبواب) بجيشه الذي استصحبه معه من الشام، وكان عدده أربعة وعشرين ألفاً، فأسكنهم المدينة المذكورة على العطاء ثم احتل مواقع أخرى هامة، وقبض على البلاد بيد من حديد.
وفي سنة 118هـ وجه هشام بن عبد الملك قائداً جديداً إلى هذه البلاد وهو أسد بن زعفر، فثبت ملك العرب وقوى سلطان المسلمين، وفي عصر الوليد بن يزيد بن عبد الملك أرسل الوليد إلى هذه البلاد مروان بن محمد - آخر الخلفاء الأمويين - على رأس جيش كبير، فكان أكبر مساعد على تثبيت مركز الإسلام، ودعم أسس الدولة الإسلامية العربية في تلك الربوع إذ لم يكن أقل من عمه مسلمة ثباتاً وعزماً وبعد نظر، فواقع الخزر، وأبلى بلاء حسناً، ولما أنصرف مسلمة إلى الشام بعد ذلك بقي مروان في أراضي (باب الأبواب) يتعهد ثغورها وأحوالها، ويوطد السلطان العربي الإسلامي فيها حتى أقر له القريب من القبائل وملوكهم والبعيد، وهابته الخزر وأخذت تتودد إليه، وتؤدي له الطاعة والجزية.
قال البلاذري: أنه لما بلغ عظيم الخزر كثرة من وطئ به مروان بلاده من الرجال، وما هم عليه في عدتهم وقوتهم نخب ذلك قلبه، وملأه رعباً، فلما دنا منه أرسل إليه رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو الحرب، فقال: قد قبلت الإسلام فأرسل إلي من يعرضه عليّ، ففعل، فأظهر الإسلام، ووادع مروان، فأقره في مملكته، وسار مروان معه بخلق من الخزر، فأنزلهم ما بين السمور والشابران في سهل أهل (اللكز)، ثم دخل مروان أرض صاحب السرير، فأوقع بأهلها وفتح فيها قلاعاً، ودان ملك السرير وأطاعه، فصالحه على ألف رأس وخمسمائة غلام وخمسمائة جارية سود الشعور والحواجب وهدب إلأشفار في كل سنة، وعلى مائة ألف مد تصب في أهراء (الباب) وأخذ منه الرهن.
وهكذا كان يصنع مع جميع ملوك الجبل وما وراءه، فكان يحملهم على الصلح وتأدية الجزية، ثم يقرهم على ملكهم، فكان من نتائج هذه السياسة الحكيمة في تلك البلاد أن رسخت قدم العرب فيها، وانتشر فيها دينهم بسرعة عجيبة حتى لم يبق للأديان القديمة التي سبقته أثر يذكر، وانتشرت مع الإسلام لغته العربية، فأصبحت بعد قليل من الزمن لغة الكتابة والتعليم والتفاهم بين أهل الجبل المختلفي اللغات واللهجات، وهي لا تزال كذلك إلى اليوم مع تخاذل في بعض الأنحاء اقتضته الظروف والأحوال الحاضرة.
وكل ذلك يرجع إلى سياسة بني أمية الحازمة، وعلى الأخص سياسة هشام بن عبد الملك وأخيه مسلمة وأبن أخيه مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين.
وفي هذه المرة استطاع مسلمة بن عبد الملك أن يبسط سلطان الإسلام في هذه الربوع، فأكمل فتح أنحاء الداغستان، ولم تأت سنة 115هـ حتى كان سلطان الإسلام باسطاً جناحيه في كل قرية ومدينة، وحتى انتشر الدعاة والحكام والأمراء المسلمون يعلمون ويرشدون، ويبنون المساجد، ويقيمون منارات الدين والهدى في كل مكان.
ومن ذلك التاريخ أصبح هذا الإقليم إسلامياً يدين بالإسلام، ويخلص له، وأصبحت مدينة، (دربند) أو (باب الأبواب) ثغراً من ثغور المسلمين يرابط فيه في سيبل الله.
ولذلك لم تخرج هذه البلاد على العرب يوم شغلوا عنها بحروبهم الأهلية التي نقلت الملك إلى بني العباس، بل بقيت في أيديهم إلى ظهور السلاجقة.
وإذا كان سلطان العرب السياسي قد انكمش عن هذه البلاد بعد ذلك، فإن أهل البلاد حافظوا في جميع الأدوار التي مرت بهم وفي عصور جميع الفاتحين والغزاة لبلادهم بعد ذلك وإلى أن وقعت في أيدي الروسيين في أوائل القرن التاسع عسر - حافظوا بأمانة وإخلاص في جميع تلك الأدوار على شيء من استقلالهم الداخلي، ودينهم الجديد، وتقاليدهم الموروثة، وحافظوا على التفاهم باللغة العربية محافظة غريبة لا نعهدها في غير هذه البلاد. يدلك على ذلك أن اللغة العربية لا تزال إلى اليوم لغة التدريس والتأليف والتفاهم بين علماء الداغستان والطلبة، وهم يتكلمون ويكتبون بها كأبنائها، ولهم فيها مجلة شهرية تعنى بنشر الدين والأدب ينشرها الكاتب الشهير أبو سفيان.
البقية في العدد القادم
برهان الدين الداغستاني