مجلة الرسالة/العدد 893/رسالة الشعر
→ مأساة حيفا | مجلة الرسالة - العدد 893 رسالة الشعر [[مؤلف:|]] |
الأدب والفنّ في أسبوع ← |
بتاريخ: 14 - 08 - 1950 |
عبقرية الفن
للأستاذ أنور العطار
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى ... فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أيا زهرات الفن حييت من زهر ... ويا عطرها ما كان أبقاك من عطر
منحتك قلبي وارتضيب بشدوه ... وليس لدى العشاق سلوى سوى الشعر
وعذبني الشعر الطروب بدله ... فأيقنت أن الدل ضرب من السحر
فغنيت كالأطيار والفن روضتي ... كأن أهوى ما أغنى ولا أدري
وما كنت ممن هام بالخمر فانتشى ... ولكن إنشادي ألذ من الخمر
حمام على أيك، ونور على ندى ... ونحل على زهر، وعود على صدر
رفيف من الأحلام في هدأة الدجى ... يهيمن كالأذكار في معية الفجر
أطوف بحانات الفنون معربداً ... وما شفني سكري ولا رابني أمري
وأقتات بالأنغام والشعر هانئاً ... كأني خيال هام بالأنجم الزهر
مواكب من أحلى الليالي شهدتها ... أطلت تناجيني كطيف الهوى العذري
وقلبي بدنيا الحب غيان سادر ... يحلق في أوج السعادة كالنسر
فقير ولكني من الفقر في غنى ... وفي العسر ما ينسيك بحبوحة اليسر
أردد لحن الملهمين وأجتني ... من الشوك إكليلا بتيه على الزهر
ألا أيها اللحن الذي ظل عازفا ... بغيب به جهري ويبدو به سرى
وهبت لك الفكر الذي مضه الأسى ... فأغنيت أحلامي وجددت لي فكري
أقول لمي - والحياة علالة - ... ومية مهوى الروح في الوصل والهجر
ليهنئك أن وشيت عمري بالأسى ... ورصعته يا مي بالأدمع الحمر
لآلئ ما جاد الزمان بمثلها ... ولا عرفت أسراوها لجة البحر
تتوق إلى إحرازها كل غادة ... وترنو إلى أنوارها مقلة العصر
ولولاك ما حن الفؤاد ولا شدا ... ولا خط في القرطاس سطراً على سطر
فأنت التي أولتني نعمة الهوى ... كبيت يحن الشطر فيه إلى الشط وأنت التي غنيتني الشعر خالداً ... ووشحت أحزاني بآياتك الغر
وصيرت أيامي ظلالاً رخية ... وقد كنت منها في محول وفي فقر
أعيش من الإبداع جذلان بالمنى ... وأحياء من الإلهام في نائل غمر
كأني هادنت الردى وأمنته ... فأمرع كرمي واستساغ الطلى ثغري
ربيع غنى بالأغاويه والشذا ... يميس من الإدلال باليانع النضر
ونهر من الآمال يجري بخاطري ... وفيض من النعماء في أضلعي يسرى
غبرنا على الدنيا تروعنا النوى ... كأنا خلقنا للعذاب وللذعر
فإن نحن جزناها صحاحا من الجوى ... فما حن مأسور إلى ربقة الأسر
نهارك يا دنيا كتاب محجب ... وليلك يا أخرى مطاف من البشر
ومن خبر الأفراح في عالم الرؤى ... أقام عليها لا يهنه بالزجر
بنفسي بقايا من حنين وغبطة ... تلوح كلمع الضوء في صفحة النهر
تدافعت الأمواه فيه كأنها ... عرائس أفكار مللن من الصبر
هنا الفرحة العظمى فكل لذاذة ... سوى لذة الإلهام تمضي مع العمر
فإن تتمن الخلد أو تبتغ العلا ... فعش للندى والبر في السر والجهر
ألم تر أن الله صاغك شاعرا ... وأقنع من جاراك بالبذل والفقر
وخلت الغنى لهواً لقوم تناهبوا ... وبدد أرباب القساوة والكبر
وما الأمر في الأحقاب إلا مفكر ... يظل بآيات النهي خالد الذكر
سلام على الدنيا فما هي نغية ... إذا أنت لم تشرب رحيق الهوى البكر
ولم نحن للإلهام والحق والعلى ... منيراً سماء الفكر كالكوكب الدري
فما أنت إلا صورة الخير في الورى ... تميل إلى عرف وتعرض عن نكر
وترسم للدنيا سبيلاً إلى الهدى ... لعل جمال الروح يقوى على الشر
تزينك أخلاق حسان كأنها ... خلاصة أزهار العدالة والطهر
يعيش بنو الدنيا بناب ومخلب ... وأنت بلا سهم يراش ولا ظفر
يحوطك أرواح لطاف حبيبة ... فمن حلل بيض إلى حلل خضر
فليت الفتى يلقي بأحلامه الغنى ... وتكسب من ألحانه أعظم الأجر كأن على قيثاره روح بلبل ... حبيس يمني النفس بالدوح والوكر
إذا حن سال الشعر لحناً مسلسلاً ... وظلت عيون الحب من قلبه تجري
إذا البدر لم ترسمه ألوان شاعر ... ولم تسقه سحراً فما هو بالبدر
وما الحب لو لم تجله كف بارع ... سوى الذل والهم المبرح والقهر
وما القلب ما هذا الصراع الذي به ... وهل هو إلا العفر عاد إلى العفر
وما أنت يا دينا ألست قرارة ... لما يفجأ الإنسان من أعجب الغدر
فيا حانة الأيام حسبي أنني ... كتاب العمر سكراً على سكر
نذرت لك القلب الرهيف من الجوى ... وما كان أغلى في سبيل الهوى نذري
وضعت لك الأشعار تندى عذوبة ... أحب إلى الأسماع من نغمة القمري
هو الفن قد ألقى على الكون ظله ... فاشرق وجه الأرض بالممتع المغري
وكم زال تاج واستبيحت ممالك ... ولكن تاج الفن باق على الدهر
دمشق
أنور العطار