مجلة الرسالة/العدد 893/المعذبون
→ تعليقات على فعال | مجلة الرسالة - العدد 893 المعذبون [[مؤلف:|]] |
التذوق الأدبي ← |
بتاريخ: 14 - 08 - 1950 |
للأستاذ علي محمد سرطاوي
ليس العذاب في الحياة أن تجوع مرة وتظمأ أخرى، وأن تعرى حيناً وتتشرد أحياناً، وأن تنظر حولك في مسالك الحياة فلا ترى إلا الفراغ الهائل والوحشة في فترات الضيق، وأن تفتش عن الصديق الوفي فلا تجده في ساعات الشدة. . .
وإنما العذاب كل العذاب؛ في أن تجوع فلا تجد الرغيف، وأن تعرى فلا تجد الثياب، وأن تتشرد فلا تجد الوطن الذي يتحرك قلبه شفقة عليك لأنك جزء منه، وأن تتلفت حولك في مطارح الغربة فلا تجد القلب الرحيم الذي تطل من حنانه عليك رحمة الله، ولا اليد الكريمة التي تحمل البلسم لتدمل به جراحات القدر في حياتك، وأن تمد بصرك إلى آفاق الأمل فيرتد إليك الطرف خاسئاً حسيراً وقد تمشت في أوصالك قشعريرة الموت لأنك لم تعد تبصر شيئا.
وفصائل الحيوان أكثر حنواً على أنواعها، وأكثر تواصلا من بني الإنسان من مسارب الوجود؛ فالحيوان لا يستأثر بالغذاء من دون أفراد جنسه، ولا يفتك بغيره إلا إذا عضه الجوع، الخسف، ولا يسفك الدماء كما يصنع الإنسان حباً في الاستعلاء الحقير.
والشعور الكاذب الذي تصطنعه الأجناس البشرية نحو بعضها البعض ونحو الأجناس الأخرى ليس في حقيقته إلا لونا من ألوان الرياء الاجتماعي والنفاق الرخيص. قد أظهرت فترات المحن التي نمر بالحياة على أنه كذلك، وعلى أنه كسحابة الصيف لا يلبث أن يزول سريعا متى ذهبت الأسباب غير الإنسانية التي تدفع إليه.
جلس الفتى المشرد عن وطنه في تلك الغرفة الضيقة التي كانت نصيبه فيه في نهاية المطاف وقد حشرت معه فيها تلك الأسرة البائسة المضيافة التي لا تذكر أن الدهر ابتسم في وجهها مرة، أو طاف بها طائف من سرور في حياتها.
جلس ذلك الفتى أو ذلك الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة، وقد سجى الليل وهجعت العيون، وراحت النسائم الرطبة تهب من مياه البحر على المدينة الحالمة المتشحة بأردية النور فتلطف الحرارة.
ومد طرفه في نور السراج الضئيل فرأى بسمات الفرح تعلو ثغور الأطفال الثلاثة الذي يفترشون الأرض، وقد بدت سوآتهم من ثيابهم الممزقة، وهم يحلمون بالعيد، العيد الذي سيحمله إليهم نور الفجر الوليد بعد ساعات.
وعادت الذكريات بالصبي المشرد إلى مثل هذه الليلة في الوطن الجريح المستعبد الذليل؛ تلك الذكريات التي لا تميت جراحها في قلبه ولا تشفى، تلك الذكريات التي تنزف جراحتها الأحزان في عواطفه والتي عجزت دموعه عن غسلها من ذلك القلب الحزين سنوات ثلاثاً طويلة.
وفتح الباب الضيق وملأ رئتيه بالهواء العليل فأحس ببعض الراحة وعاد إلى مكانه فحملته الأفكار مرة أخرى إلى تلك الصورة البشعة في تلك الليلة الليلاء وقد رفد في مسقط رأسه بين أمه وأبيه وأخويه وأختيه، وبينما كانت الأحلام الجميلة تداعب هذه الأسرة السعيدة في ليلة العيد وإذا بعشرات من غلاظ الأكباد دفعهم القدر العابس، ممن تتلمذوا على حضارة الغرب ومبادئ حقوق الإنسان، يقتحمون المنزل ويمنعون بالأبرياء النائمين تقتيلا وتشويهاً حتى أخمدوا أنفاسهم وضرجوهم بدمائهم شأن الشجعان من غزاة القرن العشرين.
إنه لا يذكر كيف نجا، وإنه لعاتب على القدر لهذه النجاة، وكم ود أو أنه نام واستراح إلى جانب أبيه الشيخ في تلك الليلة، ولكن القدر الذي أتاح له الهرب من الموت، دفعه في طريق مفروشة بالأشواك والعذاب لا نهاية لها.
كل ما عرف من أمر نجاته أنه أفاق مذعورا وفر من باب خلفي فألفى المدينة بأسرها تذبح، والناس يتركون منازلهم في جنح الليل حفايا وعرايا، فاتجه مع المتجهين إلى السهل البعيد، فإلى الجبال ثم إلى حياة لا نهاية لها من عذاب الذل في هوان التشريد.
لقد ظل الإنسان هو ذلك الإنسان الذي عرفته الشمس في فجر الحياة البشرية، ولم تمح الحضارة من نفسه تلك القسوة العاتية التي ورثها من ضعفه يوم كان يهيم على وجهه في الغابات جائعاً عارياً يطارد الحيوانات وتطارده في الأحراج والكهوف والتي كثيراً ما كانت تتغلب عليه فتنكل به، والتي قلما تغلب إلا على الضعيف منها فقسا على ذلك الضعيف القسوة التي مازال يقسو بها على الضعفاء من بني جنسه حتى اليوم وحتى نهاية الحياة. والقسوة الموروثة في الإنسان البدائي أقل منها في الإنسان المتشح برداء مدنية القرن العشرين. لقد كان الغزاة القدامى يقتلون الأعداء ويضعون حد لآلامهم، أما الغزاة الذين يستظلمون بحماية الأمم المتمدنة ورعايتها فقد مضوا شوطاً بعيداً في تلك القسوة حين هدتهم المدينة الغربية إلى قتل البعض وتشريد القسم الأعظم ليموتوا موتاً بطيئاً لا يذوقون فيه كل ما في العذاب من ألم ومرارة وجحيم. . .
وراح الصبي المسكين يقلب الأفكار في رأسه مستعرضاً ما عرف من مآسي التاريخ التي تشبه مأساة قومه في سير الزمن على أيدي السفاحين في قصة الإنسان فوق الأرض، فبدت له شريعة الظفر والناب مسيطرة على ما يسمونه (بالضمير الإنساني)، وأن الإنسان إذا كان قويا فلن يضيره أن يدوس ذلك الضمير في سبيل الوصول إلى غايته، ما دام يجد أن الذين يمدون بصرهم إليه بالإعجاب، وأكفهم بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف لا يقيمون وزناً لما ينصع، بل لما وصل إليه.
وكم حز في نفسه أن يسمع تلك الوحوش البشرية تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ من بني قومه لا تزال تقطر من مخالبها وأنيابها.
وكم حز في نفسه أن لا يتحرك الضمير الإنساني لدى الأمم المتمدنة التي جلس فيها ممثل تلك الوحوش، لمأساة بني قومه مثلما أبصره ويتحرك للمعاني البعيدة عن الإنسانية في كثير من المناسبات.
وتعالت شمس العيد، وسمع صراخ الأطفال وهم يتأرجحون فرحين بملابسهم القشيبة، وأبصر من النافذة الناس يروحون ويجيئون والسرور باد على وجوههم، وسمع المقرئ يرتل في المذياع قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فأقفل النافذة مذعوراً وعاد إلى نفسه يذرف دمعة كبيرة على ضريح تلك الأمة التي كانت متمثلة في آي الذكر الحكيم، والتي كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، عزيزة لا تطلب إلا الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الإسلام. فانحنت أمامها الرقاب ودانت لها الدنيا وسجد لها التاريخ.
لشد ما يحاول هذا المسكين نزع الآلام من عواطفه، ولكنها عميقة الجذور لا يقوى على استئصالها! ولكم حاول أن يبدو كالبركان هادئ المظهر، وأن يضع على شفتيه ابتسامة مزيفة كعواطف البشر، ولكنه لم يقو على ذلك لأنه صبي لم تعلمه الحياة الخبث والمكر والخداع بعد.
لن يعرف معنى الوطن وحب الوطن غير أولئك الذين ذاقوا مرارة التشريد دون أن يكون لهم وطن. فأيقنوا أن الحياة رخيصة جداً إذا بذلها المرء في الدفاع عن ذلك الوطن والفوز بالراحة الكبرى فيه.
إنه في وطنه الأكبر، وطن العروبة، لا يحس بالغربة، يهون عليه دائماً وقع المصيبة وهول الكارثة أنه كان مع بني قومه الطليعة التي قضى عليها العدو المتربص فتنبه الجيش إلى الخطر ليأخذ الأهبة، واستعد لمناهضة العدو القادر. كانت هذه المعاني تبعث في نفسه طمأنينة السماء، أن الفرد إذا مات في سبيل المجموع كان شهيداً، قد أدى واجبه نحو أمته ووطنه، ولا عليه بعد ذلك، إن ظل كالجندي المجهول لا يعرف الناس عنه شيئا، وإن لاقى في سبيل أداء هذا الواجب مالا تقوى رواسخ الجبال على احتماله والصبر عليه.
سوف يموت جيل العبيد الحاضر الذي اختار الحياة في معركة الشرف والدفاع عن كرامة الدين والعرض والمجد، حين تحدته قطعان من كلاب البشرية، فأقبل إليه الموت يحمل في يديه عار الأبد، وقيود الذل، والمهانة والازدارء والحقارة بين الشعوب الكريمة. . .
وسوف تندفع الأجيال الحرة المقبلة من أبناء العرب، من وراء الغيب، وقد حملت في أرواحها بطولة المسلمين وأمجاد الفاتحين وعزة المؤمنين، تطلب الموت في سبيل الله لتنهار الدنيا فما فيها من قنابل ذرية تحت أقدامها، وما يذل إنسان يطلب الموت. . .
ومشت ساعات الزمن، وانطلق الناس إلى غاياتهم، ومرت أيام العيد الثلاثة، فما أحس بالمعاني الإنسانية التي تفرضها روح الإسلام على المسلم نحو أخيه المسلم، وما أحس بوجوده أقرب البيوت إليه وبينهم من يتزيأ بزي علماء المسلمين.
وكان من سوء حظه أن تحدق به قصور المترفين، ولو كانت تحتاطه بيوت الفقراء لغمروه بحنانهم ورغائبهم، لأنهم يمرون بالآلام التي يمر بها. ولتهب عليهم رياح البؤس والحرمان من صحراء الحياة كما تهب عليه.
ترى لماذا اختار الله رسله وأنبياءه من الطبقة التي صهرها العذاب؟ ولماذا قدر أن يذوق المصلحون والعباقرة والفنانون كؤوس البؤس منوعة من يد الحياة؟
إن الذين يولدون على الذهب، ويشبون بين القصور في أحضان الترف، ويجلسون في المقاعد الأمامية في مسرح الحياة، لا يعرفون عن الحياة شيئا.
أما الذين يعبثون في جحيم الحياة، ويبصرون صور العذاب، ويشربون كؤوس البؤس، هم الذين يحسون آلام الناس، وهم الأقلام الحساسة التي تنطبع عليها صور الرحمة والحنان بالناس جميعا. . .
ومن يدري؟ فلعل يد القدر وهي تعطي النضار والسيارات والقصور - تأخذ من تلك النفوس المعاني الإنسانية والرقة ونبل الشعور
بغداد
علي محمد سرطاوي