مجلة الرسالة/العدد 892/رجل صغير
→ دراسة الأدب في المدارس | مجلة الرسالة - العدد 892 رجل صغير [[مؤلف:|]] |
من وسائل البريد الجوي في الإسلام: ← |
بتاريخ: 07 - 08 - 1950 |
للأستاذ ثروت أباظة
رجل، إذا كانت معالم الرجولة شارباً ضخماً وجسما عريضاً. غني، إذا كان الغني مالا وفيرا وبسطة في الرزق. ذو سلطان، إذا كان السلطان خنوع الآكلين من يده وخضوع الطامعين فيه.
ولكنه طفل إذا كانت الرجولة اتساعا في الأفق وبعدا في النظر وتجربة في الحياة. وهو فقير إذا كان الغنى تقديرا للمال وإنفاقا له في أوجهه، وإذا كان الغنى أن يبسط الإنسان يده فلا يغلها إلى عنقه حتى ليكاد يختنق بها. وهو تابع ذليل إذا كان السلطان قوة في الشخصية لا في النفوذ، وصلابة في الجليل من الأمور لا التافه منها.
مسكين هو! وهب الله له من أسباب الرجولة والغنى والجاه ما يتمنى كل إنسان أن يوهب؛ ولكن ماذا يفعل؟ مات أبوه وهو لم ينل من الثقافة إلا حظا لا يقيم للعقل أودا، فأنحرف به تفكيره عن أن يكمل ما يجب أن يسير فيه، وأعماه الغنى العريض الذي ترك له عن الفقر المدفع الذي ينحط فيه عقب فصار كذلك. . . رجلا وهو طفل، غنيا وهو فقير، ذا سلطان وهو عبد.
هو ضيق العقل بطبيعته، وقد زادته ثقافته المبثورة ضيقا فهو لا يكاد يفعل أمرا ألا ليدل به على الغباء العميق والفكر الضحل. ولعل هذا داعية إلى بخله الشحيح على غناه الواسع فتراه يمد للاقتراض يده وفي وسعه دائما أن يمدها إلى جيبه وغباؤه وهو وسيلة أصدقائه إليه فهم يسخرون منه في أنفسهم وينفذون من غبائه إلى ماله فيعيشون على مديحه، يأكلون من ضعف نفسيته وشعوره بما هو فيه من نقص وهو منقاد لهم ويفهمونه أنه قائدهم، وعلى الرحب منه يفهم! رجل طفل، غني فقير، سيد عبد.
عرفته حين كان لا بد لي أن أعرفه، فهو زميل المكتب الذي لا بد له من اثنين ليجلسا إليه. . . كان معي في المدرسة الابتدائية ولا حقني إلى المرحلة الثانوية، وانقطع عن الدراسة في منتصف الطريق وذهب إلى أملاكه الواسعة ولكنه دوام على الاتصال بي، ولعلي الوحيد من الذين يعرفهم ويصر على معرفتهم دون ينال مديحاً أو إعجابا. عرفت ما ينقاد إليه، ورأيت إصراره على صحبتي فوجدت حتما على أن أنبه من غفلته فنبهتها ولم تنتبه، وظننت بعدها أنه منقطع عن صحبتي الناقدة البغيضة ولكنه أصر عليها فأصررت على التنبيه.
غاب إن لقائي أشهرا طويلة فحمدت الله في نفسي، فليس أثقل علي من أن أواجه مخطئا بخطأه، ولا يسعني أن أسكت وشخص يعتبرني صديقا يتردى في هاوية بعيدة لا أعلم إلى أين تنتهي به.
كان والده رجلا عظيما على أوثق صلة بكبار القوم؛ وقد استطاع هو أن يصل إلى صحبة هؤلاء عن طريق أبيه فأكرموا فيه ذكرى والده، واستطاع أن ينفذ من أبواب الحكام الموصدة فكان يقضي هناك أمورا. كان لا بد لأصدقائه أن يعرفوا اأيضاً هذه المكنة التي بيد صاحبهم فاستغلوها منه وصاروا يرجونه أن يتوسط ليقبضوا هم الثمن. وبلغتني هذه الأنباء في الشهور التي انقطع عمي فيها، وأخبرني من أبلغها أن الثمن يصل في النهاية إلى جيبه هو.
ألمت للوالد الكبير، يقضي عمره ليحيط اسمه بالسمعة الشريفة، ويقضي نحبه فيلوث الوارث السمعة. . . ألمت وحمدت الله ثانية أن انقطع عني فلم تصبح ثمة صداقة أنا ملزم أمامها بإخلاص النصح وإزجاء النقد.
ولكن لا. . . إن الصديق لم ينقطع عن عزوف. ولكنها مشاغل بين صحبة سريرة وعمل غير كريم - لم تكن صداقة مقطوعة ولكنها كانت صلة موقوفة.
قصد إلى حيث يجدني. . . على وجهه من الأسى أمارة ومن الغباء إمارات.
- سلام عليك!
- وعليك - خيرا! إفراغ جئت تملأه بهذه الجلسة
- بل هم جئت أجلوه بالجلوس إليك
عفوا. . . منذ متى أزيل أنا همك. . . اذهب إلى أصدقائك واصحبهم إلى ليلة معربدة ينطقون بمديح يبدل همك أفراحا. . . خبرني بربك - ألا تمل المديح.
- أراك قاسي القلب. . . حزين يقصد إليك فتسخر منه
- لا والله ما إليها قصدت ولكنني أسأل مخلصا في السؤال ألا تمل المديح؟
- ألا تسأل عما أنا فيه. . . أليس ذلك أولى بالصديق؟! - أتعرف الأولى بالصديق. . . أتعرف الصديق الأولى بالصديق أن يسمع النقد ولو على مضض، والأولى بالصديق أن يمحص القول وينعم فيه النظر. . . أجل أعرف انك على كره منك تجلس وتسمع، وأنا أيضاً على كره مني أقول وأطيل، فإنه يؤلمني أن يستغل اسم أبيك فيما يستغله أصدقاؤك.
- ماذا سمعت؟
- سمعت ما تعلم أنه يحدث وتسكت عنه لتنال ما ينهالون به عليك من مديح تعلم أنت في بعيد نفسك أنه كاذب.
- أذن فلهذا طردت
- طردت!
- أجل ذهبت اليوم لأقابل السيد بك. . . صديق أبي. . . نعم انك تعرفه ويعرفك، وأخبرني سكرتيره أن لديه أمرا يمنعني من الدخول.
- ولن تكون الأخيرة
- فماذا أفعل؟
- أعيد ما أعدت؟ - أقص السوء من أصدقائك، واصح تنقذ ما بقي لك من أبيك.
- أنها لم تنقص
- بل كادت تضيع - كانت ثروة ضخمة
- أي ثروة تلك. . . أنا لم أفقد فدانا واحدا
- وهل هذه ثروة. . . كانت سمعة كريمة فلوثتها. . . أدركها. . أدركها فإنها لا ترجع إن ضاعت، وقد ترجع الأفدنة
- أنت تعلم أنني لا أمد يدا لرشوة
- بل تمد أيادي لا يستطيع شخص واحد أن يمدها. . . إنها أيدي أصدقائك جميعا. . . تمد بإسمك، وبإسمك تنال ما تنال واسمك هو المهان. . . اقطعها والإضاع بناء بناه أبوك جميعاً. .
- أنت ما تزال ناقدا. . . ما ذنبي أنا به
- نعم. . . لا ذنب لك. . . سبحانه يعطي الغباء لمن يشاء من عباده وقد خلقك غباء لا يفهم وجمادا لا يحس. . . قم أيها الرجل. . . لا - لا تقم. . . بل أقم كما أنت فإني أنا الذاهب وأحذر بربك أن أراك فما أطيق.
وانصرفت. . . لقد بذلت جهد الصديق وجهد السليط ولم أفلح ولن أفلح. . . ما حيلتي؟. هكذا هو. . . غني فقير. . . سيد عبد. . . رجل طفل.
ثروت أباظة