مجلة الرسالة/العدد 891/من الأدب الغربي
→ أي قوة لأعظم من القنبلة الذرية! | مجلة الرسالة - العدد 891 من الأدب الغربي [[مؤلف:|]] |
خواطر مرسلة ← |
بتاريخ: 31 - 07 - 1950 |
من روائع (شلي)
للأستاذ إبراهيم سكيك
عرف (شلي) في الأدب الإنكليزي بميله للطبيعة ووصف مظاهرها وصفاً خيالياً رائعاً برقة وعذوبة، وهو يعالج ما يصوره الخيال ويبتدعه العقل بدقة تجعله يبدو مجسماً حقيقياً، وهو من هذه الناحية يخالف زميله الشاعر (كيتس) الذي يجعل من الأشياء المحسوسة الجميلة أطيافاً رائعة تسمو إلى الخيال.
نشأ شلي في بيئة أرستقراطية غنية، لكنه نبذ مظاهر الغنى وأنهمك في دراسة الأدب وقرض الشعر منذ كان في جامعة اكسفورد، ولم يعمر طويلاً حتى ينتج ديواناً كبيراً لكنه رغم ذلك كثير الإنتاج بالنسبة إلى سني حياته التي انتهت وهو في ريعان الشباب عندما غرق على ساحل لجهورن بإيطاليا.
وكانت أشعاره لا تثير اهتمام الأدباء والنقاد في زمانه كما أنها لم تترجم إلى اللغات الأوربية كأشعار (بايرن) لصعوبة ترجمتها لأن الأفكار لا يمكن نزعها من الألفاظ بسهولة. ثم بدأ الذوق الإنكليزي يستسيغ قصائده ويعجب بها لما تحويه من خيال رائع وأفكار فلسفية جديدة حتى غدا بين الشعراء في المنزلة الثانية بعد شكسبير وملتون، وله قصائد طويلة وروايات تراجيدية لكنه نال شهرته بقصائده القصيرة الرائعة التي سأقتطف منها نبذاً يستدل منها القارئ على عبقرية هذا الشاعر الموهوب.
وأشهر قصائده على الطلاق مرثية (ادونيز) التي تعد من اشهر المراثي في جميع اللغات، كتبها عندما جاءه نعي صديقه وزميله (كيتس) وفيها يقول: -
(صه، صه: ليس هو بميت ولا بنائم، وإنما صحا من حلم الحياة المريع بينما نحن التائهون في أحلام عاصفة، نجاهد ونكافح أطيافاً لا طائل من ورائها، وفي غيبوبة جنونية نطعن بخنجر أرواحنا معقدات لا وجود لها، ثم نضمحل كما تضمحل الجثث في القبور بعد أن يزعزع كياننا الحزن والخوف فيعملان على تحطيمنا يوماً بعد يوم.
وتنخر الآمال الباردة هيكلنا الطيني كما تنخر الديدان جثث الأموات.
لقد حلق في فضاء لا يصل إليه ظلام الليل السادل ع وهناك: الحسد والحقد والبغض والألم وعدم الاستقرار الذي نسميه خطأ بالسرور لا تجد لها سبيلاً في دنياه فلا تصيبه ولا تضنيه
وهو هناك في مأمن من أن يصاب بعدوى الشرور الدنيوية.
ولن يندب بعد اليوم فؤاداً التاع أو رأساً أشتعل شيباً.
إنه يعيش ويصحو، والذي تلاشى هو (الموت) وليس (هو)
إذاً لا تندبوا أدونيز: لا تندبه أيها الفجر، أضف جلالك وعظمتك على قطرات الندى، لأن الروح التي تندبها لم تفارقك.
وأنت أيتها الغابات والكهوف كفي عن العويل
وكفي أنت أيتها الأزهار والينابيع، وأنت أيها الهواء الذي ألقيت بوشاحك على الأرض كما تلقي النادبة خمارها الأسود على وجهها، أكشف الآن هذا القناع عن العالم ليتمتع برؤية النجوم الضاحكة.
لقد أتحد الآن مع الطبيعة ليكونا عنصراً واحداً: فصوته يسمع في جميع أنغامها المنسجمة: في أنين الرعد وترتيل الطيور، ونحن نشعر بوجوده في الظلام والضياء وبين الأعشاب والصخور ينشر نفسه حيثما تتحرك القوة الإلهية التي أخذته إلى جوارها تلك القوة التي تعالج أمور العالم بمحبة وحكمة.
إنه كقبة الفلك العظيمة الشامخة علواً وارتفاعاً، وكالشمس يتطرق لها الكسوف لكنها لا تتلاشى، وكالنجوم تسير إلى مستقر لها لا تتعداه، والموت ضبابة كثيفة تحجز نور الشمس ولكن لا تطمسه أبداً.
وفي نهاية هذه القصيدة يشعر بدنو أجله بدافع غريزي عجيب ويدعو الموت الذي لم يمهله أكثر من عام بعد ذلك فيقول:
إيه يا قلبي! مالي أراك متثاقلا متوانياً.
لقد ذهبت كل آمالك وخلفتك وحيداً
فلنغادر هذا العالم إذا
هاهو وجه السماء الرقيق يبتسم، والريح الهادئ يهمس؛
إنه نداء من (أدونيز) فلأسرع إليه إذ لن تفرق الحياة بين من يمكن أن يجمعهما الموت.
وفي الدرجة الثانية قصيدته الرائعة التي يناجي فيها الريح الغربي وهي روح الكون التي يستطرد في مناجاتها حتى يدمج نفسه بها، وندع للقارئ الحكم على متانتها وبراعة تخيلاتها ومعانيها المبتكرة بعد أن ينعم النظر فيها!
أيتها الريح الغربية الهائجة، أنت زفير الخريف العظيم، أنت الذي تنساق أمامك أوراق الشجر دون أن تراك قد تفر بين يديك كما تفر الأشباح من ساحر جبار. ثم تفر تلك الأوراق الصفراء والسوداء والشاحبة والحمراء بجماهيرها الغفيرة.
أنت أيها الريح تشيع البذور التي تتطاير كأنها مجنحة إلى مرقدها الشتوي المظلم حيث تظل راقدة كما ترقد الجثة في قبرها وتظل كذلك حتى تهب شقيقتك الزرقاء وهي ريح الربيع التي تنفخ في البوق لتوقظ الأرض النائمة وتسوق الأزهار اليانعة كما يسوق الراعي قطعانه من الحظيرة إلى الفضاء فتملأ الربى والوهاد.
فأيتها الريح الهائجة المتحركة في كل مكان، أنت تدمرين الحياة وتصونينها في الوقت ذاته فأسمعي:
تتساقط على غديرك الغيوم المنحلة كما تتساقط أوراق الشجر فكأنك تهزينها من جذوع السماء وأغصان المحيط. وعلى سطح أمواجك الزرقاء الهوائية تتدلى خصل من العواصف المضطربة.
أنت تنشدين ترتيل جناز السنة المنتهية التي ستتخذ من قبة هذه الليلة السادرة الفسيحة مزاراً ومقاماً. وسينفجر من بخار أنفاسك مطر وبرق ورعد.
أنت التي أيقظت البحر الأبيض المتوسط من نومه بعد أن كان مستغرقاً في أحلام الصيف العذبة وهو نائم على أنغام أنهاره البلورية، فتقطعين عليه أحلامه وتشوهين تصوراته. وعندما تمرين بالاقيانوس الأطلنطي تشقين فيه أخاديد عميقة بعد ما تثيرينه من أمواج عاتية شامخة ويشعر بهزاتك كل كائن حتى ذرات النبات الراسبة في قاع المحيط، فتشيب فزعاً وتهتز اضطراباً.
ليتني أيها الريح ورقة ميتة تحملينها.
وليتني سحابة سريعة أطير معك، وليتني موجة ألهث من شدتك وأشاطرك قوة اندفاعك ولو كنت أقل حرية منك، أنت التي لا يسيطر عليك أحد.
بل ليتني مازلت في عهد الصبا زميلا له في تجوالك في أفق السماء.
أتوسل إليك الآن أن ترفعيني كما ترفعين الموجة أو الورقة أو السحابة لأني ملقي على أشواك الحياة ودمي ينزف بعد أن كبلتني ساعات الزمن الثقيلة وحنت ظهري بعد أن كنت مثلك سرعة وكبرياء!
اجعليني قيثارتك كما اتخذت من الغاية قيثارة تعزفين عليها أعذب الألحان.
فماذا يهمني لو سقطت أوراقي بعد أن تأخذي أنغامي وتنشريها في الكون كما تنشرين البذور لتحيا من جديد. هكذا أريد منك أن تنشري كلماتي وأشعاري بعد وفاتي بين جميع البشر كما تنشرين رماد الموقد بعد أن تخبو ناره. ويا ريح الخريف: إذا كان الشتاء قادماً فهل يكون الربيع بعيداً؟
وهناك مقطوعات أخرى كثيرة يجد فيها القارئ متعة ولذة وقد رغبت في تأجيل ترجمتها لعدد قادم لئلا أطيل كثيراً في هذا المقام
إبراهيم سكيك