مجلة الرسالة/العدد 891/الشيخ محمد عبده كفاحه ونجاحه
→ المستعمرة الذرية | مجلة الرسالة - العدد 891 الشيخ محمد عبده كفاحه ونجاحه [[مؤلف:|]] |
مع حافظ في ديوانه ← |
بتاريخ: 31 - 07 - 1950 |
للأستاذ محمود الشرقاوي
في يوم 11 يوليو من سنة 1950 توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، وقد بقي أسم الأستاذ الإمام بعد موته كما كان في حياته اسماً عالي الذكر حتى ليكاد يذكر إلى جانبه ما قاله المتنبي عن المجد:
وتركت في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
كان أسم الشيخ محمد عبده في حياته وبعد موته عالي الذكر، وكان شخصه في حياته وبعد موته عظيم الأثر.
فلم كانت للشيخ الإمام هذه المنزلة في الحالتين. . .؟
ترك الشيخ عبده مؤلفات كثيرة، منها شرحه على نهج البلاغة، وشرحه مقامات بديع الزمان، وشرح على البصائر النصيرية في المنطق، وتفسير جزء (عم) والإسلام والنصرانية، وهو مجموعة مقالاته في الرد على هانوتو جمعت في كتاب، وله كتاب ترجمه عن الفرنسية في النهضة الأوربية، ولكن هذه الكتب كلها ليس لها، في رأيي، سوى قيمة جزئية محدودة. وبعض هذه الكتب لا يعرفها ولا يقرؤها الآن أحد، حتى تفسيره الذي جمعه المرحوم الشيخ رشيد رضا، رغم قيمته الذاتية وشهرته، يصدق عليه أيضاً هذا الوصف الذي ذكرته عن بقية كتبه.
لم كانت، إذن، للشيخ هذه المكانة حياً وميتاً.؟
أعتقد أن شخصية الشيخ وكفاحه هما اللذان جعلا له هذه المنزلة في تاريخنا وتاريخ الشرق الحديث.
وقد كان يتخذ كتبه تلك ومحاضراته ودروسه ومقالاته وسيلة من وسائل كفاحه وتمكين دعوته الإصلاحية وبثها والعمل على نماء غرسها.
كافح الشيخ، عندما عين محرراً أول للوقائع المصرية، لإصلاح الأداة الحكومية وإرشاد الحاكم والمحكوم فكان من أقوى المكافحين.
وكافح، معارضا، الثورة العرابية، لأنه كان من دعاة التطور التدريجي، ولأنه كان متوجساً من الحركات العنيفة، ولأنه كان، أيضاً، سيئ الرأي في زعماء الثورة، وخاصة عرابي، فلما خرجت الثورة عن كونها حركة من الجيش ضد ما يراه ظلماً وهضماً، وانتقت إلى أن تكون حركة من الأمة كلها ضد الإنجليز، انحاز الشيخ إلى جانب الثورة مع وطنه، فكان في معارضته وتأييده من أقوى المكافحين. وحوكم، بعد فشل الثورة بوصف كونه من زعمائها وحكم عليه بالنفي سنوات ثلاث، وكان إذ ذاك في سن الثلاثين.
وكافح، مع أستاذ جمال الدين في بارس، حين أنشآ مجلة (العروة الوثقى) كافح مع أستاذه ضد الظلم وضد الأستعمار، وكانت مجلتهما هذه، التي لم يصدر منها سوى بضعة عشر عددا، من أكبر أسباب القلق عند الإنجليز والفرنسيين، ومن أكبر عوامل التنبه واليقظة عند المسلمين والشرقيين.
وكافح في لندن متحدثاً وخطيباً في مجلس العموم، وسفيراً غير رسمي لدى رجال السياسة والصحافة من الإنجليز، في سبيل استقلال مصر ووفاء الإنجليز بوعودهم في الجلاء عنها.
وكافح في بيروت في سبيل النهوض بالتفكير والتحرير الذهني، وبيروت كانت في ذلك الوقت قطعة من الإمبراطورية العثمانية، الإمبراطورية التي كانت يحكمها السلطان عبد الحميد وتخضع لجبروته وسطوة جواسيسه الذين لم يكونوا يكرهون شيئاً مثل كراهتهم لكل تفكير وكل حرية.
وكافح في سبيل إصلاح التعلم الديني في مدارس الإمبراطورية العثمانية وفي سبيل إصلاح ولاية سوريا، وكتب في هذا وذاك إلى والي بيروت وإلى شيخ الإسلام في الأستانة.
وكافح في سبيل أن تدرك الأمة الإسلامية، والإسلام عنده جامعه، أن تدرك هذه الأمة حقوقها قبل حاكميها. حتى قال هو عنه نفسه أنه كافح (والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظلم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد)
وكافح، في مجلس شورى القوانين، وكان عضوا، دائما فيه، في سبيل تمكين سلطة الأمة والتوفيق بين المجلس وأصحاب السلطة، وتنفيذ أكبر عدد ممكن من القوانين الإصلاحية.
قال، وهو في إنجلترا، عن الخديو توفيق (إنه مهد لدخول الإنجليز مصر؛ ولذلك لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، إننا لا نريد خونة، وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية.!؛، قال ذلك عن توفيق ونشره في صحيفة إنجليزية، وتوفيق يحكم مصر، وهو منفي عنها يتمنى لو يعود.
وقف في وجه الخديو عباس، وكانت بينهما مودة، عندما أراد عباس أن يخلع على مفتى المعية، الشيخ محمد راشد، كسوة التشريفة، وكانت القوانين لا تجعله مستحقاً لها، رد على الخديو أمام شيخ الزهر والعلماء رداً قاسياً جعل الخديو يتغير وجهه غيظاً ويقف حتى ينصرف من حضرته الشيوخ.
ووقف موقفه المشهود ضد رغبة الخديو عباس أيضاً في صفقة البدل التي كان يريدها للخاصة.
وكافح كفاحه الأكبر في سبيل إصلاح الأزهر وإصلاح العقيدة. وفي الكلمة التي قالها الخديو عباس عند تنصيب الشيخ الشربيني على الأزهر وتعريضه الجارح بالشيخ عبده حتى حمله على الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر، في هذه الكلمات القاسية التي ألقاها الخديو عند ذاك ما يدل على ذلك المدى الذي بلغه كفاح الأستاذ الإمام في سبيل رأيه وعقيدته.
أي ملك في جلدك. . .؟
كلمة قالها السيد جمال الدين لتلميذه الشيخ عبده. ولعلها أقوى كلمة وأصدق كلمة وصف بها الشيخ، فقد كانت له أخلاق ملك.
شخصية قوية بل مسيطرة، ومروءة، وشجاعة، ووفاء، وكرم فياض، ومحبة للخير، ودؤوب في العمل للخير العام، وتجرد من كل منفعة وغاية ذاتية. ودماثة خلق، وسماحة، وبر بالضعيف، ورقة جانب.
تلك كانت صفات الشيخ عبده وخصائص نفسه، وهو بها، جدير بهذه المكانة المرموقة التي بلغها في مصر والشرق، وأجمع عليها الناس بعد أن أدركوا هذه الصفات عنه.
هل نجح الشيخ عبده في كفاحه هذا. . .؟
لقد كافح وتحدى وقاوم جميع القوى التي وقفت في طريقه وطريق دعوته الإصلاحية أو السياسية.
وأية قوى كانت. . .؟. كان منها الإنجليز أول الأمر، وكان منها الخديو ورجال السلطان في الأستانة، وشيوخ الأزهر، وعوام الناس، وطائفة كبيرة من الصحف. وكل من يمالئ هذه القوى ويتبعها ويتملقها ويسير في ركابها.
كانت كل هذه القوى مجتمعة أحيانا ومتفرقة أحيانا، تصده، وتتحداه، وتنوشه، ولكنه كافحها جميعاً متفرقة ومجتمعة. وكانت خصومات هذه القوى للشيخ لا تخلو، في كثير من الأوقات، من العنف والقسوة والإسفاف، ولكنه غالبها جميعاً مغالبة الرجال. وهو، هنا، قد نجح.
أما نجاح دعوته فأعتقد أن دعوته الصحفية قد نجحت، من ناحية الأسلوب والمستوى نجاحاً كبيراً، ودعوته السياسية نجحت من الناحية النظرية، وكذلك دعوته لتنبيه الشعب إلى حقوقه. أما دعوته لإصلاح الأزهر وإصلاح العقيدة فقد نجحت خارج الأزهر أكثر مما نجحت في داخله.
لقد قال حافظ إبراهيم، يرحمه الله، في رثائه البارع للأستاذ الإمام هذا البيت: -
زرعت لنا زرعاً، فأخرج شطأه، ... وبنت، ولما نجتن الثمرات
وحقاً مات الشيخ ولما يجتن ثمرات كفاحه، وأعتقد أننا - بعد هذه السنين الخمس والأربعين من وفاته - لما تجتن ما ينتظر من ثمرات، ولعلنا نجني في المستقبل أكثر مما جنينا من الثمرات التي غرس بذورها الشيخ الإمام.
هذا الرجل المخلص، الشجاع، الجلد، المتفاني، الذي قضى عمره كله يكافح الجبروت والطغيان والفساد والجهل، مات فقيراً جهد الفقر. ولا يمكن، في وطننا، أن يموت رجل هذه صفاته، إلا فقيراً. وعاشت زوجه من بعده معيشة ضنكا، لم يرفه عنها في ختام حياتها سوى تلميذه الوفي أستاذنا المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرزاق، رحمه الله، ورحم أستاذه الإمام.
محمود الشرقاوي