الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 890/الثقافة الشعبية

مجلة الرسالة/العدد 890/الثقافة الشعبية

مجلة الرسالة - العدد 890
الثقافة الشعبية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 07 - 1950


للأستاذ محمد محمود زيتون

الثقافة الشعبية في مصر موزعة بين هيئات شتى حكومية وغير حكومية؛ فهناك؛ وزارة الشئون الاجتماعية بمراكزها الاجتماعية، ومسارحها الشعبية. ومصلحة الفلاح، وكذلك وزارة المعارف بمؤسسة الثقافة الشعبية، ومراقبة الثقافة العامة، وإدارات خدمة الشباب، والنشاط الاجتماعي، والتسجيل الثقافي. وهنا أيضاً رابطة الإصلاح الاجتماعي، وجمعية نهضة القرى، وجمعيات الشبان المسلمين والمسيحيين، والجامعة الأميركية.

وكل هذه الدوائر تنشد للشعب ثقافة عامة يتماسك معها أفراده على أسس متوازنة من الرياضة والعلوم والفنون بحيث لا يتخلف الفرد عن الجماعة ولا تتنافر الطبقات بسبب الحرمان من معاهد العلم.

ونسارع إلى القول بأن هذه الجهود الكريمة التي تبذل في سبيل هذا الغرض النبيل بحاجة إلى تنسيق وتركيز بحيث لا يكون في اختلاف أساليبها صعوبة الحصول على الثمرة المرجوة ز ونستطيع هنا أن نرسم الخطوط الرئيسية التي تتكون منها شبكة الثقافة الشعبية ولعل في هذه المحاولة ما يعين على بيان ما نرمي إليه.

والرياضة البدنية أقوى عوامل الثقافة الشعبية، وليس أثرها وقفا على تنمية الأبدان لأساليب الرياضية المعروفة، وإنما يمتد هذا الأثر على أبعد من ذلك بكثير، فهي تدفع باللاعبين إلى الساحة الشعبية حيث تتخطى المنافسة حواجز المنفعة، وتنأى بهم عن التسكع والثرثرة وتدبير الجرائم وتعاطي المكيفات واللعب والشرب في المقاهي والملاهي.

ومن مزايا الرياضة الشعبية أخذ اللاعب بالروح الرياضية من ضبط النفس عند النصر، والثبات عند الهزيمة، وسرعان ما يندفع المتفرج لمشاركة اللاعب البارع أو الفريق الغالب ثم يهرع إلى منافسته فينعم بنشاط بدني وتفوق عضلي وتوثب نفساني.

ومن مزاياها ترقية الغرائز وتعليتها إلى مستوى كريم: ففي المصارعة عوض عن غريزة المقاتلة، وما ورائها من شرور، واللعب عامة غريزة ملازمة للإنسان في شتى أطواره، وإذا لم تتهذب هذه الغريزة كان الكبار كالصغار يلعبون بالنار.

والمباريات من أقوى عوامل التعارف بين الطوائف والجماعات والطبقات فتسود المساو وتتطود المحبة بين الفرق والشعوب.

وتؤتي الرياضة الشعبية ثمراتها العاجلة في (البيئة المغلقة) المحرومة من جمال الطبيعة، النائية عن مظاهر العمران، ووسائل الترفيهية، ولذا يجب العناية بمثل هذه البيئة والإكثار من الساحات الشعبية بها.

وللفنون الجميلة في الأرواح ما الألعاب الرياضية في الأبدان من صقل النفوس وتهذيبها بالنغم الجميل، واللفظ اللطيف، والمنظر البهيج، وتسريح الخيال الحبيس في ملكوت السماوات والأرض، والترفيه عن الحواس والعواطف.

لهذه تستخدم المصانع الكبرى أجهزة الراديو لإذاعة الموسيقى والأغاني والأناشيد فتبعث في العمال نشاطا يزيد في إنتاجهم، ويقلل من قابليتهم للتعب.

والحفلات عامة ن والقروية منها خاصة، إنما هي جامعة شعبية يديرها شاعر البلد أو زامر الحي، ولهما في نفوس الشعب موقع الماء من ذي الغلة الصادي.

وكثيرا ما يتزاحم أهل القرى النائية على حفل تمثيلي شعبي أو غناء أو رقص بلدي لأن النظارة إنما يحتشدون ليروا في مرآة حياتهم ما ينعكس عليها من عيوب صاغها المؤلف سخرية، واعمل فيها مبضع الطبيب الذي يحرج مريضه ليشفيه تحت تأثير المخدر المشروع.

من أوجب الواجبات إذن دعوة الشعب إلى رحاب الفن لتهذب مداركه وترقى أذواقه، وتتعادل أمياله، ولا يكون كتلك الشعوب البدائية التي لا تتفاهم إلا في الظلام، لأن كل جريمة شنعاء، كما أنه يجعل الأفراد على أبعاد متساوية من الروح القومية، ويتيح للجميع حظا مشتركا من الآلام والآمال، وتخف أسباب النزاع بين المرأة والرجل.

ولما كان الفن في شتى أصباغه وألوانه تعويضا عن الجمال المفقود فمن الفن العملي تنظيم القرى والعناية بتخطيطها وتنسيقها لتكون لقاطفها بهجة في العيون، وراحة في القلوب، وهدوءاً للأعصاب وتدل الإحصائيات على أن القرية الجميلة اقل من غيرها مشاكل، وابعد عن الجرائم من القرية المهملة القياسية المناظر التي لا يرى في أهلها غير التبرم والسخط. والبلديات حين تقوم بالتنظيم والتنظيف إنما تؤدي واجبها في الثقافة الشعبية.

والدين يتحمل هو الآخر واجبه الأكبر في هذا المجال، ولا سيما عندما يوالي العلماء الوعاظ أبناء الشعب بالحكمة والموعظة الحسنة، ووصف الدواء على رغم قد الداء في غير أو ولا عسر، حتى يأطروهم على الحق أطرا كما يقول النبي الكريم.

وعندما ينطبع الفرد والشعب معا بطابع الخير والحق والسلام يكون الدين أسرع العوامل في التثقيف الشعبي، وأعمقها أثراً. والاجتماعات الدينية، فرص مواتية لبث التعاليم الطيبة، والمثل الكريمة وكم من أحقاد وثارات خمدت على اثر موعظة دينية. ولولا كلمة طيبة لحصدت مناجل العصبية كثيراً وكثيراً. وبذلك يعمل الدين في تهدئة الخواطر وتعلية الغرائز وتوجيه العواطف وضبط الأعصاب وامتلاك الزمام، والتزام الوسط العادل في كل الأمور.

ولقد ادى تبسيط العلوم للثقافة الشعبية نفعاً كثيرا، فأصبح من غير العسير تلقين الكهربائية لصغار الأميين كما لمس ذلك الأستاذ أمين كحيل بك مدير عام الجامعة الشعبية سابقاُ لدى زيارته أحد المراكز الثقافية في الصعيد.

نعم استطاعت الجامعة الشعبية تطويع العلوم لعامة الشعب سواء النظري منها أو العملي مما زاد الإقبال على الاستزادة منها عاما بعد عام. واذكر أن قد جمعتنا منذ عشر سنوات مناظرة بكلية الآداب موضوعها (تبسيط العلم للجمهور شر على العلم والجمهور) وكنت من المؤيدين للرأي في صف الأستاذ محمد مظهر سعيد بك، والآن لا أدري كيف أنكر فضل العلوم المبسطة على الثقافة الشعبية، غير أني أذكر قول سقراط (أتوني بغلام ساذج لم يتلق علما بعد، وأنا أستنبط منه نظريات الهندسة جميعاً)

ولقد أسهم الأستاذ علي حلمي بك مدير البحيرة السابق في هذا المضمار بأوفر نصيب، ولقد تمكن من تثقيف الشعب الدمنهوري بسلسلة من المحاظرات عن التربية النظامية، كما وضع تمثيلية تهدف إلى علاج المجرمين وكفاح الجريمة، مستنداً إلى خبر المدير، وثقافة المعلم، فضرب المثل الرائع لحكام الأقاليم في حرصهم على الاتصال المباشر بالجمهور في ساحة الثقافة الشعبية.

وكم يسعد الشعب إذ يرى حكامه وزعماءه وعلماءه ونواره وشيوخه يواسونه بين الحين والحين في المدن والقرى لا بمناسبة الانتخابات، ولكن في كل مناسبة تستوجب التنوير والتهذيب ابتغاء وجه الله والوطن.

كان الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول وعضوا الشيوخ من احرص الأساتذة على إعداد الطلاب لمواجهة الجمهور حتى في اعمق البحوث الفلسفية وكان ذلك من مقاييسه المشهورة في تقدير درجة النجاح

وبعد فقد تبين لنا مم تأتلف العناصر العامة للثقافة الشعبية ومدى أهمية العمل على أذاعتها في الشعب على ضوء الخبرة النظرية والعملية، ولا شك في أن مضاعفة الجهود ستأتي بنتائج مرضية، يتوق إليها المصلحون، ويرضاها الغيورون.

فإذا كان ذلك كذلك وجب تركيز هذه الأفاق في يد مؤسسة الثقافة الشعبية أن ذلك من صميم رسالتها، أما عيرها فيتخذ من هذه الرسالة تكملة لنشاطه، وليس ما يمنع مطلقا من الاستعانة بالخبراء في كل ميدان، وإمداد الشعب والقائمين على ثقافته بكل ما ينهضه بالبلاد إلى أوج الكمال، حتى نكافح المرض بالرياضة ونقضي على الجهل بالعلم المبسط الميسر، ونستأصل الجريمة بتعاليم الدين وروائع الفن فلا ينخدع الفرد بالمبادئ الوافرة، ولا تتسم الجماعات بالأفكار الفاسدة، ولا يحرم الشعب الكريم من جهود ضحايا الفراغ.

محمد محمود زيتون