الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 889/من تاريخ الثورة الفرنسية

مجلة الرسالة/العدد 889/من تاريخ الثورة الفرنسية

مجلة الرسالة - العدد 889
من تاريخ الثورة الفرنسية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 07 - 1950


الإرهاب وقانون المشبوهين

للأستاذ محمد محمود زيتون

كان اغتيال لويس السادس عشر ملك فرنسا في 21 يناير سنة 1793 إيذاناً بتقدم الثورة الفرنسية نحو غايتها من غير تراجع وفي هذا المعنى يقول المؤرخ (لودج) ما معناه أن الثورة باغتيال لويس السادس عشر قد حطمت جميع العناصر خلفها وحكم المتطرفون البلاد؛ وتألفت (لجنة الأمن العام) وانتشرت فروعها لمواجهة الخطر الداخلي والخارجي معاً، ورأت اللجنة ومعها (المؤتمر الوطني) أن الإرهاب الوسيلة الفعالة لتثبيط همم المعارضة، بإشاعة القلق والاضطراب في صفوفها، وإرغام البلاد على التسلح ضد الأجنبي عن طريق الخوف حتى لقد قال (بيوفاءن) يجب أن يرف من الآن سيف داموقليس، قال (شومت) (فلنتخذ الإرهاب نظامنا اليومي) أي فلنجعله نظام الحياة اليومية.

وبدأت لجنة الأمن العام تسن القوانين إزاء العبث بالنظام والغلاء المستحكم. ففي 17 سبتمبر أعلنت اللجنة قانون المشبوهين وفي 17 من نفس الشهر أذاعت قانون التسعير الجبري بعد أن هددت المجاعة باريس التي لم يعد للحم وجود في أسواقها، حتى كان من الظريف أن يقترح (فرينو) على اللجنة أن تسن تشريعاً يسمى قانون الصوم الوطني بحيث يسري على فرنسا كلها

وكانت المهمة الأولى للجان الفرعية للأمن العام ملاحظة المشبوهين، وإعطاء الأوامر بالقبض عليهم واعتقالهم بينما كانت (محكمة الثورة) تنعقد في (قصر العدالة بباريس لمحاكمة هؤلاء المشبوهين محاكمة مشمولة بالنفاذ العاجل. ويتألف قانون المشبوهين من اثنتي عشر مادة تنص الأولى منها على كل من ينطبق عليه شرط الاشتباه، وإن كان بصفة عامة ينسحب على كل من لم يفعل شيئاً لصالح الحرية، ولو لم يفعل شيئاً ضدها (والثورة والحرية مترادفتان في عرف الإرهابيين حينذاك ويكون مشبوها كل من تلبس بواحدة أو أكثر من الأحوال الآتية: مناهضة الثورة ومبادئها وتثبيط الهمم عن طريق الخطب والتصريحات والأحاديث في النوادي والمجتمعات العامة.

تشويه الثورة في الأذهان بإثارة آلام الشعب ومصائبه تلميحاً أو تصريحاً أو بنشر الشائعات عن سوء الحال أو بإبداء الحسرة والأسى على مصائر الأمور.

التلون في القول والعمل حسب تغيير الأحوال.

إبداء الأسف على الشدة التي حاكمت بها الثورة كل متلاعب بالأسعار وفق الأسعار التي تفرضها اللجنة على الزراع والتجار والصناع المنتجين.

مخالطة أنصار الملكية والنبلاء والمعتدلين أو من على شاكلتهم سواء كان ذلك سراً أو علناً خصوصاً من كان يجري على ألسنتهم ذكر الحرية والجمهورية والإخاء والمساواة.

التشكيك في دستور الجمهورية أو التهوين من شأنه وتوقع الفشل له.

القعود عن مناصرة الثورة ومبادئها أو على الأقل الوقوف منها موقف الحياد.

وكانت الملكة (ماري أنطوانت) أولى ضحايا هذا القانون فقد نزعت من أولادها الذين سجنوا في المعبد وحجزت هي أكثر من شهرين فيما يشبه الكهف في قصر العدالة، وحكم عليها بالإعدام بعد محاكمة استمرت أكثر من عشرين ساعة ونفذ الحكم فيها بعد ساعات.

والضحية الثانية (بالي) عمدة باريس الأسبق وتلته الضحايا تباعا سراعاً، ومن بينهم (دوق أورليان) الذي عارض اللجنة وقرن أسمه باسم المساواة، ورفع عقيرنه بالاحتجاج على اغتيال قريبه لويس السادس عشر.

وكانت ضحايا هذا القانون الإرهابي لا تقع تحت حصر سواء في باريس أو في غيرها. ففي (ليون) كانت المساجين يقتلون كل مائتين معاً، وفي (نانت) أطلقت لجنة عسكرية رصاصها على أكثر من ألف وخمسمائة سجين، واستعان (كارييه) بعصابة من السفاكين واللصوص على إغراق حوالي خمس آلاف سجين في نهر (اللوار) بدون محاكمة، وذلك في مدى بضعة أشهر وكان منهم ثمانمائة في ليلة واحدة. وألقيت الجثث في بحيرة (نانت) التي أصبح ماؤها مسمما، فاضطرت البلدية منع بيع السمك. هذا والجيش يدفع عن حدود البلاد كل خطر، وعند ذلك رأى (دانتون) وهو من مضرمي النار. أن حركة الإرهاب أصبحت غير ذات موضوع وأنه قد آن الأوان للعودة إلى (عهد القوانين والعدل بين الجميع) ووافقه صديقه ورفيقه الخطر (كامي دي مولان) ومن ثمت تألف حزب المتسامحين أو (المعتدلين) منهما وممن لف لفهما ودار في فلكهما.

وقام في وجه هذا الحزب حزب آخر هو حزب (المسعورين) الذين لم يشبع سعارهم هذا العدد الهائل من الاغتيالات، فأعلنوا عن تنظيمات جديدة للإرهاب وبدأ يقوضون المذهب الكاثوليكي تحت معاول النظرات الفلسفية وقلبوا كل شيء رأساً على عقب؛ حتى الأيام والأسابيع وأسماء القديسين والقديسات استبدلوا بها أسماء الفواكه والزهور والخضروات المذكورة في الأعياد الدينية، وقرروا أن كل من يتسول أو يتعطل في أيام الآحاد والأعياد المسيحية يكون مآله السجن، وطالبوا بخفض أبراج الكنائس لأنها (تتعارض مع مبادئ المساواة إذ تتعالى على سائر المباني) وهددوا كل عبادة ليبنوا على أنقاضها (دين العقل)

وفي 10 نوفمبر احتفلوا بعيد (الحرية والعقل) بكنيسة نتردام ورمزوا لدينهم الجديد بإحدى راقصات الأبرا وعملوا لها تمثال (مريم العذراء) ولم تنقض أيام حتى أغلقت كل الكنائس وطرد القساوسة الذين رفضوا اعتناق دين الثورة وعقيدة الإرهاب

غير أن لجنة الأمن العام أخذت في مطاردة المسعورين في الأقاليم بلا هوادة، وأطلق دانتون على خزعبلاتهم هذه أسم (مساخر لا دينية) وتدخل الطاغية الجبار (روبسبيير) ليضع لهذه المساخر حداً إذ رأى الخطر محدقاً بالمجتمع من جرائها فما كان منه إلا أن شجع (المعتدلين) على التكتل ضد (المسعورين) وإن كان لا يزال ينطوي على أشد انفعالات المقت والحقد لكمي دي مولان. فهو الذي يقلل من انتشار صيته وذيوع إسمه؛ وهو الذي جرح كبرياءه وغروره، وهو الذي يقف حجر عثرة في طريق مطامحه السرية.

لهذا عزم على هدم الحزبين معاً، فلما كان يوم 5 أبريل كانت المقصلة قد أطاحت برأس دانتون، فلم يعد أمام روبسبير من يكبح جماحه، ويصد طاغوته.

ومضى الإرهاب قدماً لا يلوى على شيء ليصل إلى غايته المرسومة له منذ كان وهي خنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.

ومن العجيب العاجب أنهم كانوا يرون في الإرهاب نظاماً يمهد لعهد (الفضيلة) أما المقصلة كما يقول (أولار) فقد استخدمت من أجل تصليح النفوس وعاد هذا النظام المزعوم على (روبسبير) بفائدة مزدوجة إذ تخلص من كل من يقلق باله ويعكر صفوه، كما أنه أصبح يثق في تزايد شهرته منذ ذلك اليوم الذي حطم فيه نظاماً بغيظاً عند الشعب كله، وهو الملكية

ومنذ 8 يونيو، وهو يوم عيد الكائن الأسمى نكست من طراز أعلام الإرهاب والارهابيين، ومع ذلك فإن أنصار روبسبيبر كانوا يعدونه محمد بني الإسلام وكرمويل لأن الفضيلة التي أرادها لفرنسا قد ضمنت (دين الدولة الرسمي)

احتفلت فرنسا بأول عيد للكائن الأسمى سار موكبه من (قصر التوبليه) إلى (الشان دي مارس) وتصدره روبسبيير في ثوب أزرق سماوي، وأمسك بباقة من الزهور والسنابل وأحد القساوسة ينشد، والجوقة تردد دعاءه (يا رب العالمين يا من وسعت كل شيء علماً) وأشعل روبسبيير النار في صنم الكفار.

وابتليت فرنسا بطراز عنيف من الإرهاب سمي الإرهاب الأكبر أستمر سبعة وأربعين يوماً انتهى بسقوط روبسبيير في 7 يوليو؛ وقد أحصيت فيه تحت المقصلة 1376 رأساً منهما (لاقوازبيه) الذي طلب مهلة حتى يتم إحدى تجاريبه العلمية فأجابه القاضي (ليست الجمهورية بحاجة إلى كيميائيين).

واقتيد المتهمون من غير تحقيق أو تثبيت من شخصياتهم حتى لقد كان الفتى يشنق باسم الكهل. وكانت الرءوس تتساقط كالحجارة كما يقول (فوكيه تانفيل) وبانتصار فرنسا على بلجيكا أعلن زوال الخطر الخارجي مما زاد في كراهية الشعب للارهاب، خصوصاً منذ نودي على روبسبير في ساحة المحكمة (فليسقط الطاغية) الذي لم يستطع حيله في الدفاع عن نفسه بعد أن قيل له في وجهه (إنك كرمويل الجديد) وعبثاً حاول أن يبرر أعماله ويضفي على نفسه لقب (عبد الحرية) و (الضحية الحية للجمهورية)

وأستمر الإرهاب عشرة أشهر انتهى بعدها يوم أطاحت المقصلة برأس روبسبيير الذي أجج النيران الحامية وكأنما كان صوت الشعب ينادي: (يا مضرمي النار أصبحتم لها حطباً)

ومن ثم بطل قانون المشبوهين وقانون التسعير الجبري وغيرهما من القوانين، وقام الحزب الملكي الجديد، وأخذ الإرهاب لو جدنا يداً إذ حل الإرهاب الأبيض محل الإرهاب الأحمر الذي ذهب بالدم القاني وأمتزج بماء الأنهار والبحيرات وكان هذا اللون الإرهابي الجديد كرد فعل طبيعي للوحشية السابقة. فأقلق ذلك لجنة الإنقاذ العام. وأتاح لها فرصة اتخاذ سياسة المقاومة في سبيل الجمهورية. فوقفت (ضد ستورد السنة الثالثة) الذي قصد به بطلان دستور سنة 1793 ذلك الدستور الذي وضعته للجمهورية لجنة الأمن العام؛ ولكنهم لم يعملوا به بل أوقفوه وقفاً تاماً واكتفوا بنظام الإرهاب وما تبعه من قوانين

ومع ذلك انهارت آمال الملكيين الذين توسلوا إلى استرجاعها بالعنف، وبالإعلانات ينشرونها في الشوارع: أيها الشعب الفرنسي أسترجع دينك ومليكك تظفر بالسلام والخبز

وفي 5 أكتوبر سنة 1795 تحرك الجيش وقوامه عشرون ألفاً وفي الغد كان نابليون بونابرت - ذلك القائد الذي لم يتجاوز السادسة والعشرين - قد أستدعي ليكون حاكم باريس، فعاد الأمن إلى نصابه. ولم تغرب شمس يوم 26 أكتوبر حتى أعلنت لجنة الأمن العام أنتهاء أعمالها، بينما كان الهتاف يشق عنان السماء (لتحي الجمهورية)

محمد محمود زيتون