الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 888/شهر الكنافة والقطايف

مجلة الرسالة/العدد 888/شهر الكنافة والقطايف

مجلة الرسالة - العدد 888
شهر الكنافة والقطايف
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 07 - 1950


للأستاذ محمد سيد كيلاني

الكنافة أحب شيء عند الشرقيين، وبخاصة في شهر رمضان إذ يتسابق الناس في شرائها والتفنن في إعدادها وحشوها بالزبيب والصنوبر والجوز والفستق. وإذا أقيمت وليمة في هذا الشهر المبارك فإن الكنافة من غير شك تحتل مكان الصدارة على المائدة، ولذلك يسمى شهر رمضان (شهر الكنافة والقطايف)

أما لفظ كنافة فلم يذكره أحد من أئمة اللغة. ولا تجد في الألفاظ اللغوية ما يصلح أن يكون مادة لها. فلعلها كلمة يونانية

روى السيوطي عن أبن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار أنه قال (كان معاوية يجوع في رمضان جوعاً شديداً. فشكا ذلك إلى محمد بن آثال الطبيب فأتخذ له الكنافة فكان يأكلها في السحر فهو أول من أتخذها)

وهذا الخبر يشك في صحته. وذلك لأن المؤرخين المتقدمين لم يشيروا إليه. ولم يذكر لنا أبن فضل الله المصدر الذي نقل عنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنافة ليست الطعام الوحيد الذي يدفع به الجوع. وهي ليست علاجاً حتى يصفه الطبيب أبن آثال. وكان من الممكن أن يقوم الرقاق مقامها ويسد مسدها. فما رواه أبن فضل الله، في هذا الموضوع يجب أن يوضع موضع الشك.

ولو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراءفيما ذكروا من أطعمة. فقد رأينا الشعراء حتى العصر العباسي الثاني يذكرون القطايف والخبيص والفالوذج وغيرها من أنواع الأطعمة، ولم نر في شعرهم أثراً للكنافة وهذا دليل واضح على أنهم لم يعرفوها ولم يسمعوا بها.

وقد لاحظت أن الشعراء المصريين كانوا أول من لهج بذكر الكنافة في أشعارهم وأول من تغنى بها. ومن هؤلاء أبو الحسن الجزار المصري إذ يقول:

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الدر

وتبا لأوفات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري

ففي هذين البيتين نلمح نفسية الشاعر متبرمة ساخطة على أوقات الفقر والضيق الت يأكل فيها سوى المخلل: وفي ذكره كلمة (تبا) ما يدل على حالة نفسية خاصة. أما البيت الأول فهو دعاء للكنافة بالسقيا بماء الورد والسكر. هو يدعو لها لأنه يحبها فهو في دعائه يعبر عن شعور داخلي نستشف منه الجوع والحرمان.

وكان الفقراء من الشعراء يستهدون الكنافة من الأعيان والموسرين بشعر فيه إلحاح كبير ودعابة مضحكة وفكاهة مطربة.

فمن ذلك قول الشاعر المتقدم وهو

أيا شرف الدين الذي فيض جوده ... براحته قد أخجل الغيت والبحرا

لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجولها من سحب راحتك القطرا

فعجل بها جوداً فمالي حاجة ... سواها نباتا فا يثمر الحمد والشكرا

والظاهر أن هذا الصنف من الطعام كان له عند هؤلاء الشعراء المحرومين مكانة لا تدانى. فالشاعر هنا يمهد لطلبه بوصف الممدوح بالكرم ثم يشكو فقره واشتياقه إلى الكنافة. وفي البيت الأخير تتجلى نفسية هذا الشاعر المسكين، فهو يريد من الممدوح أن يعجل بإهدائه الكنافة. وقد خشي أن يعطيه شيئاً سواها وهو لا يريد غيرها. لذلك قال بان الكنافة وحدها هي التي تستوجب عنده جزيل الشكر وعظيم الثناء.

وكان الشعراء يتغزلون في الكنافة ويصفون محاسنها وجمالها ويتمنون دوام وصالها ويتألمون لهجرها وفراقها ويشكون من صدها وإعراضها. ونحن نقرأ ما قالوا في هذا الموضوع فنضحك، ومثال ذلك قول الجزار المتقدم وهو:

ومالي أرى وجه الكنافة مغضبا ... ولولا رضاها لم أرد رمضانها

عجبت لها من رقة كيف أظهرت ... على جفا قد صد عني جفائها

ترى اتهمتني بالقطايف فاغتدت ... تصد اعتقادا أن قلبي خانها

ومذ قاطعتني ما سمعت كلامها ... لأن لساني لم يخالط لسانها

ألا خبروها أنني وحياتها ... ومن صانها في كل در وزانها

ليقبح أني أجعل الحشو مذهبي ... فأفسد شأني حين يصلح شأنها

فالشاعر هنا يصور لنا افتقاره إلى هذا الصنف من الأطعمة في صورة مضحكة. فقد شخص الكنافة وهي معرضة عنه، هاجرة له ثم تساءل عن السر في هذه القطيعة وذلك الإعراض أكان ذلك لأنها اتهمته بحب القطايف والجري من ورائها فاعتبرته خائناً غادراً مجرداً من الوفاء؟ ثم أخذ ينفي عن نفسه هذه التهمة ويتبرأ منها. ويذكر أنه باق على عهده في حبه وإخلاصه لها. وأنه لا يفسد هذا الحب بوصل القطايف. وفي البيت الأخير تورية لطيفة في كلمة (الحشو) فهي بمعنى التشبيه والتجسيم والنسبة إليها (حشوى) وهو الذي ينتمي إلى طائفة (الحشوية) المعروفة وهي تشير في نفس الوقت إلى القطايف لأنها تحشى بالفستق والزبيب وغيره.

وهذا شاعر يتألم ويشكو لأنه لم يذق طعم الكنافة ولم ترها عينه إلا عند البياع في الدكان. قال:

ما رأت عيني الكنافة إلا ... عند بياعها على الدكان

فما أتعس هذا الشاعر المسكين! وما أحوجه إلى العطف والرثاء!

وشاعر آخر يذكر ليالي الكنافة الخالدة في عمره بالخير فيقول:

ولم أنس ليلات الكنافة، قطرها ... هو الحلو إلا أنه السحب الغر

تجود على كفي فأهتز فرحة ... كما انتفض العصفور بلله القطر

فهذه الليالي التي نعم الشاعر فيها يأكل الكنافة اللذيذة باقية في ذاكرته ولن تفارقه مادام حيا. ففي تلك الليالي السعيدة في نظره كان حينما يمسك الكنافة بيده يكاد يجن من شدة الفرح ويهتز من فرط السرور كما يهتز العصفور الذي يبلله القطر.

وأنظر إلى قول هذا الشاعر.

إليك اشتياقي يا كنافة زائد ... فمالي عنى عنك؛ كلا ولا صبر

فما زلت أكلي كل يوم وليلة ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر

فهذا تقديس للكنافة ليس بعده تقديس، ونوع من العبادة لهذا الصنف من الطعام، فالشاعر يعبر عن شوقه الذي لا حد له للكنافة ويذكر أنه لا يطيق فراقها ولا يستطيع عنها صبراً. فهي قبلته التي يتوجه إليها في الغدو والآصال لا يصرفه عنها طعام آخر ولا يلهيه عنها شيء مهما جل وعظم.

ومن الشعراء من وازن بينها وبين القطايف وفضل الكنافة عليها. ومنهم من أظهر الكنافة بمظهر الساخر من القطايف المحتقر لها. ومثال ذلك قول ابن عنين: غدت الكنافة بالقطايف تسخر ... وتقول أني بالفضيلة أجدر

طويت محاسنها لنشر محاسني ... كم بين ما طوي وآخر ينشر

لحلاوتي تبدو، وتلك خفية ... وكذا الحلاوة في البوادي أشهر

ففي هذه الأبيات ترى الكنافة تزهو بنفسها وتشمخ بأنفها وتتيه كبراً ودلالا، وتسخر من القطايف سخرية مرة. وتقول الكنافة هنا إنها أحق بالفضيلة من القطايف لأن محاسن القطايف مطوية وحلاوتها محشوة في جوفها، وهذا يغض من قدر القطايف في نظرة الكنافة التي تمتاز منها بظهور محاسنها وجمالها. فالكنافة متبرجة سافرة تتصدى للناس وتلفت إليها الأنظار ببهائها وحسن روائها فيعرضون عن القطايف وينهالون عليها. فهي ناجحة في كسب الزبائن بما تثيره فيهم من كامن الشهوة. وهذه ميزات ليست للقطايف.

وكان الشعراء يتبادلون الألغاز في هذا الموضوع. مثال ذلك ما كتبه أحد الشعراء إلى صديق له وهو:

يا واحدا في عصره بمصره ... ومن له حسن الثناء والسنا

أتعرف اسما فيه ذوق وذكا ... حلو المحيا والجنان والجني

والحل والعقد له في دسته ... ويجلس الصدر، وفي الصدر المني

فأجابه بقوله:

عرفتني الاسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سره لولا الكنى

يقصد بالكنا (الكنافة)

هكذا تناول الشعراء الكنافة. وكان شعراء مصر أكثر تناولا لها من غيرهم. وقد أصبغوا على ما نظموه في هذا الموضوع الروح المصري الذي عرف بالخفة والمرح؛ وأولع بالدعابة والفكاهة.

أما القطايف فقد عرفت منذ العصر العباسي؛ وجاء ذكرها في شعر أبن الرومي وكشاجم وغيرهما، ومنهم من شبهها بحقاق من العاج، ومنهم من شبهها بوصائف قامت بجنب وصائف. ومنهم من شبهها وقد رصت في الأطباق بالمصلين الذين يسجدون وراء الإمام. فالشاعر الذي يقول:

لله در قطائف محشوة ... من فستق دعت النواظر واليدا شبهتها لما بدت في صحنها ... بحقاق عاج قد حشين زبرجدا

راعي المنظر العام لهذه القطايف ورأى أن كل واحدة منها تبدو في شكل حق له لون العاج بداخله حشو يشبه الذهب الخالص. والشاعر الذي يقول:

وقطائف محشوة بلطائف ... طافت بها أكرم بها من طائف

شبهتها نضدت على أطباقها ... بوصائف قامت بجنب وصائف

لم ينظر إلى لون القطائف ولا إلى شكلها ولا إلى ما حشيت به بل نظر إلى الطريقة التي وضعت بها في الطبق ولذلك قال. (شبهتها نضدت على أطباقها)

ومنهم من تناول القطايف ولا هم له إلا التلاعب بالألفاظ وإظهار القدرة على استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية. ومثال ذلك قول القائل:

وقطائف رقت جسوما مثل ما ... غلظت قلوبت فهي لي أحساب

تحلو فما ثعلو ويشهد قطرها ال ... فياض أن ندى علي سحاب

ففي البيت الأول يصور القطائف رقيقة تكاد تشف عما تحتها. وقد بولغ في حشوها. والبيت الثاني قصد به المدح بالكرم لا أقل ولا أكثر.

ومنهم من جمع بين الكنافة والقطايف، ومن ذلك قول القائل:

وقطائف مقرونة بكنافة ... من فوقهن السكر المدرور

هاتيك تطربني بنظم رائق ... ويروقني من هذه المنثور

والظاهر أن المائدة التي جلس عليها هذا الشاعر كانت في منزل أحد الأغنياء لأنها جمعت بين الكنافة والقطائف، وهذا لم يكن متيسراً في ذلك الوقت ألا للأعيان وأصحاب الجاه. وقد رقص الشاعر طرباً، وكاد يطير من الفرح والسرور حينما رأى الكنافة وبجانبها القطائف. فأخذ يمد يده إلى هذه مرة وإلى تلك أخرى حتى ملا معدته.

محمد سيد كيلاني