مجلة الرسالة/العدد 888/الشيخ محمد مصطفى المراغي
→ الصيف ضيعت اللبن! | مجلة الرسالة - العدد 888 الشيخ محمد مصطفى المراغي [[مؤلف:|]] |
سر التعمير ← |
بتاريخ: 10 - 07 - 1950 |
لمناسبة ذكراه الخامسة
للأستاذ عبد الجواد سليمان
في ليلة الرابع عشر من شهر رمضان المكرم منذ خمس سنوات مضت فاضت إلى بارئها روح المرحوم الأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشريف وشيخ الإسلام حينئذ فكان لوفاته أثر بالغ في نفوس محبي الإصلاح في أنحاء الأقطار الإسلامية لما كانوا يؤملونه على يديه من إصلاح ديني يتوج به ذلك الصرح الشامخ الذي شاد أسسه جمال الدين الأفغاني وأعلى بناءه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
ولد المرحوم (محمد مصطفى المراغي) في قرية المراغة من أعمال مديرية جرجا، وبفضل الشيخ الجليل ومساعي أبنائه الموفقة من بعده ارتقت هذه القرية فأصبحت مركزاً من مراكز مديرية جرجا تتبعه بعض البلاد الأخرى المجاورة؛ وأصبحت بها كذلك مدرسة ابتدائية تقوم على تهذيب النشء ونشر الثقافة بين أبناء البلاد.
نشأ الشيخ المراغي في بيئة علمية؛ فلقد كان أبوه ممن يلمون ببعض العلوم الدينية مما جعله موضع احترام أهل المراغة ومرجعهم في المسائل الدينية، فعمل هذا الأب على أن ينشئ أولاده نشأة علمية حتى يؤدي مالهم قبله من حقوق، وحتى يكونوا بالتعليم - مثله محترمين في أعين الناس.
وقد كان أكبر أبنائه السبعة الأستاذ محمد الذي نحن بصدد الكلام في ترجمته، وقد تربى خمسة منهم في الأزهر جنح أحدهم إلى دار العلوم، وكان الابن الكبير متوقد الذكاء مثابراً على درسه، وظل مثابراً عليها حتى نال شهادة العالمية بتفوق رشحه للتدريس في الأزهر؛ ثم عمل بعد ذلك قاضياً في مديرية دنقلة بالسودان فمفتشاً بديوان الأوقاف، ثم عين قاضياً لقضاة السودان بمسعى أستاذه المرحوم الشيخ (محمد عبده) ثم رئيساً للتفتيش بالمحاكم الشرعية فرئيساً لمحكمة مصر الكلية، ثم عضوا في المحكمة العليا الشرعية، فرئيساً لها سنة 1923 ثم شيخاً للأزهر بعد ذلك من سنة 1927 إلى سنة 1930 ثم أنقطع عن المشيخة مدة عاد بعدها إليها سنة 1934 وبقي حتى لحق بالرفيق الأعلى.
لقد كان الشيخ المراغي من تلاميذ الإمام بل أكبر تلاميذه الذين أشربوا روحه في الإ والتجديد، وقد أظهر في كل هذه الوظائف التي تولاها مقدرة بالغة، وكفاءة ممتازة وإدارة حازمة ومنقطعة النظير بين الشيوخ، شهد له بها رجال العصر من العلماء المواطنين والأجانب. وقد أجمل وصفه الأستاذ العلامة الفيلسوف (أحمد لطفي السيد باشا) فقال يوم تشييعه إلى مقره الأخير: (كان رحمه الله منسجماً في كل شيء، عقله يوازي علمه، حتى جسمه وهندامه).
وأظهر ما نذكر به الشيخ (المراغي) تلك الصفات التي تفرد بها بين الشيوخ الذين تقلدوا قبله مشيخة الأزهر؛ أو بالأحرى مشيخة الإسلام، وأول هذه الأوصاف التي حفظها له تاريخ الأزهر، أن مشيخة الأزهر كانت قبله من الوظائف الروحية التقليدية البعيدة عما يجري في الحياة من تيارات عصرية، فخرج بها الشيخ المراغي من عزلتها، وألقى بها في غمار الحياة فأشعر الناس في الشرق والغرب بأن المنصب له خطره، ونبه إليها الأذهان في العالم الإسلامي، وبذلك ضرب بنفسه المثل الصحيح لرجل الدين، في أنه لم يخلق فقط للعبادة والعيش على هامش الحياة، بل لابد من أن يختلط بالناس فيفيد ويستفيد، وأن يكون له رأي يعتد به في الحياة العامة، يشارك به المفكرين من أبناء عصره ويساهم به في بناء المجتمع الإنساني، ويساعد في رسم الخطوط التي تسير عليها البلاد؛ لذلك رأينا الأستاذ المراغي يعمل على إعادة تنظيم الأزهر على نحو واسع النطاق حتى يتفق وحاجات العصر الحاضر في مصر وفعلا قد صدرت خطة الإصلاح التي وضعها في القانون المعروف بالقانون رقم 49 لسنة 1930، وقد لاقى - رحمه الله - الشيء الكثير من معارضة الإصلاحات التي كان يبغيها فاستقال من المشيخة.
وقد كان الأستاذ المراغي من أسس إصلاحه أن تنظم مناهج الأزهر وتطعم بالعلوم الحديثة لتكون على مثال مناهج المدارس المدنية، وأن تصلح كتب الأزهر، وتشذب مما حشيت به من الخلافات اللفظية التي لا جدوى من دراستها حتى يخفف العبء على الطلبة، وحتى تساير هذه الكتب نظريات التربية الحديثة فيتسنى لقارئيها أن يشاركوا في بناء نهضة بلادهم، وأن يفهموا الحياة على حقيقها، وأنها ليست فحسب تلك المتون والحواشي والتقارير خطت على الصفحات الصفر؛ بل هي عالم واسع المدى بعيد الحدود.
ومن أوصاف الشيخ المراغي فوق جدارته بالزعامة الدينية أنه كان رجلا (دبلوماسيا) يلبس لكل حال لبوسها، وينتهز الفرص السانحة التي يتمكن فيها من النهوض بالأزهر والكسب له، وبذلك تقدم الأزهر في عصره تقدما محسوساً. ولعل في إيفاده البعوث الأزهرية إلى جامعات أوربا أصدق دليل على عزمه الصادق في خدمة الأزهر ليجمع في ثقافته بين القديم والجديد، وليكون العالم في الدين عالما بعلوم الدنيا، والثقافات المعاصرة، فتكتمل له العدة في الحياة.
وفي المراغي صفتان أخريان لعل القدر الذي هيأه لقبول تعاليم أستاذه الشيخ محمد عبده هو الذي منحه إياهما ليكون الوارث الحق لصفات أستاذه؛ أما الأولى فجرأته البالغة الحد في الإصلاح، وجهره بآرائه متى أقتنع بوجاهتها، وعدم مبالاته بما يعترض سبيله من مقاومات ومعارضات من الجامدين المحافظين.
وأما الثانية فهي اعتزازه بنفسه، واعتداده بكرامته كرجل من رجال الدن اعتداداً هون عليه مرة منصبه الخطير فتخلى عنه ثمنا للكرامة.
بهذه الكفاية الممتازة أمكن للشيخ المراغي أن يخلق من أبناء الأزهر جيلا جديداً غير ما تقدم عصره من أجيال أزهرية، جيلاً أقل ما يقال فيه أنه بدأ يفهم تبعات الحياة التي يسأل عنها أمام الرأي العام رجل الدين، وبهذا الإخلاص للأزهر استطاع الشيخ المراغي أن يكون له مدرسة من أبناء الأزهر، يدين تلاميذها بكثير من تعاليمه، وإليهم يعزى فضل كبير في تقديم الأزهر، ومحاولته التطور والارتقاء، ورغبته في المساهمة في مجد مصر الثقافي.
ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة أن ننوه بما لقيه الشيخ المراغي من عطف المليك فقد شجعه ذلك على بث تعاليم الدين الصحيحة، ويتجلى ذلك العطف في دروس الشيخ الدينية التي رغب جلالة المليك في سماعها والتي ألقاها بين يدي جلالته، وهو تشريف جديد لم يحظ به شيخ قبل الشيخ المراغي.
لقد كان الشيخ المراغي كغيره من الزعماء المصلحين، له أنصار ومريدون يمدحونه ويصوبون خططه في الإصلاح، وينادون بمبادئه ويعملون على إذاعة فضله؛ وله إلى جانب هؤلاء حزب معارض مناوئ، لا يرونه رأيه في الإصلاح.
ومهما قيل في هؤلاء وهؤلاء فإن المناوئين للشيخ المراغي يشهدون في قرارة أنفسهم له بالنضوج الفكري والحنكة عند مواجهة الخطوب، ويقدرونه في قلوبهم وإن عجزت ألسنتهم عن إعلان هذه الشهادة. والآن قد أصبح المراغي في ذمة التاريخ، والتاريخ وحده هو الذي سينصفه ويظهر فضله ويبين عن شخصيته التي تمتع بها، ويبين مقدار قوة ذلك الإشعاع الذي كان ينبعث من نفسه، فيحيي الأمل عند بعض الناس في بلوغ الإصلاح وتحقيق ما كان يتمناه المخلصون منهم للإسلام والمسلمين.
ولكن الوفاء للعاملين واجب، فلو أنصف الأزهر شيخه لخلد ذكراه في مؤسسة نافعة تحمل أسمه. ولو عرف الأزهريون فضل شيخهم عليهم وعلى أزهرهم لاكتتبوا في مشروع نافع ينفق ثمرته على جهة خيرية تمجيداً للشيخ وتخليداً لذكراه. رحم الله الشيخ المراغي فلقد كان وفياً للناس، وقد كان من وفائه رغبته الصادقة في أن يخلد ذكرى أستاذه الشيخ محمد عبده فلقد جاء عنه في كتاب (الإسلام والتجديد في مصر) للدكتور تشارلز أدمز ما نصه (وكانت الصحف في سنة 1929 أي أثناء مشيخته للأزهر تكتب كثيراً عن أمر كان له حسن القبول هو تخليد ذكر الإمام، إما بالاحتفاظ بمنزله في عين شمس، وإما بالقيام بأي عمل آخر من الأعمال التي تدل على التقدير القومي، وكان من المتفق عله بشكل عام أن أليق الناس للنهوض بهذا هو الشيخ المراغي إذ هو شيخ الأزهر، وله بالشيخ عبده صلات قوية قديمة.
رحم الله الشيخ المراغي رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار. . .
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج