مجلة الرسالة/العدد 888/أسامة بن منقذ وشعره
→ صوم رمضان بين العلم والأدب | مجلة الرسالة - العدد 888 أسامة بن منقذ وشعره [[مؤلف:|]] |
من الأدب الغربي ← |
بتاريخ: 10 - 07 - 1950 |
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(تتمة)
ولأسامة نظرات صائبة في الحياة، أوحي إليه بها تجاربه، وطول عمره، وما تلب عليه من حوادث الزمان وعبر الأيام.
يرى أسامة لكل شيء في الحياة نهاية، فلا بقاء لأمر، ولا خلود لحادث، فللسرور غاية ينتهي إليهما، وللأحزان حد تقف عنده، وإذا كانت الحياة تجري على هذا المنوال، فمن الواجب استقبال حوادث الأيام بحسن الصبر، وقلة الأهتمام، فإن الشدائد إذا كانت ستنقضي وتزول، فمن البعث أن يزيد المرء في الآم نفسه:
خفض عليك، فللأمور نهاية ... وإلى النهاية كل شئ صائر
فاستقبل صروف الزمان بالصبر:
رالق إذا طرق ... ن بقلب محتسب صبور
بل إن هذه النظرة تنتهي بصاحبها إلى قلة الاكتراث بما في الحياة من سعادة أو شقاء:
لما رأيت صروف هـ ... ذا الدهر تلعب بالبرايا
يعلو بها هذا، ويهبط ... ذا، وقصرهم المنايا
ورايته مسترجعاً ... نزر المواهب والعطايا
متغاير الأحوال مخـ ... تلف الضرائب والسجايا
لا نعمة فيه تدو ... م ولا تدوم به البلايا
لم أغتبط فيه بفا ... ئدة، ولم اخش الرزايا
والمرء يتغلب على شدائد الحياة بالصبر:
إذا ما عدا خطب من الدهر فاصطبر ... فإن الليالي بالخطوب حوامل
فكل الذي يأتي به الدهر زائل ... سريعاً، فلا تجزع لما هو زائل
وليس الصبر وسيلة لتحمل المكروه، حتى ينقضي فحسب، ولكنه الطريق إلى نيل الأمل، والظفر بالأماني:
أصبر تنل ما ترتجيه، وتفضل من ... جارك شأو العلا سبقا وتبريز أستطيع أن أعد أسامة بهذه النظرة إلى الحياة متفائلا، إذ هو عند الشدة واثق من زوالها، وإن كان الأمر على ذلك، فلا معنى لليأس، ولا خير فيه:
يا آلف الهم لا تقنط فأيأس ما ... تكون يأتيك لطف الله بالفرج
ثق بالذي يسمع النجوى، وينجي من البلوى ... ويستنقذ الغرقى من اللجج
وإذا كان كل شئ في هذه الحياة إلى انقضاء، فمن الواجب ألا يدع المرء فرصة السعادة تمر، من غير أن يأخذ منها بالنصيب الأوفى:
وتغنم اللذات إن ممرها ... مر السحائب
وأوحت إليه تجاربه في الحياة أن القرب من السلطان غير مأمون العواقب، ولا شهي الثمرة، فنادي بالبعد عنه، وإيثار العيش في خمول وهدوء:
أرض الخمول، تعش به في نجوة ... مما تخاف، ومن معاندة العد
أما الحياة في جوار ذوي السلطان ففي خطر دائم ثم، وقلق لا يهدأ:
لا تقربن باب سلطان، وأن ملأت ... هباته غير ممنون بها، الطرق
فإن أبوابهم كالبحر راكبه ... مروع القلب يخشى دهره القلب
وأسامة ممن يؤمنون بالقضاء والقدر، ويدين بالحظ ويرى الرزق مقسوما لا حيلة في تدبيره:
فوض الأمر راضيا ... جف بالكائن القلم
ليس في الرزق حيلة ... إنما الرزق بالقسم
دل رزق الضعيف وه ... وكلحم على وضيم
وافتقار القوى تر ... هبه الأسد في الأجم
أن للخلق خالقا ... لا مرد لما حكم
ولكن الناس جشعون، يتكالبون على الحياة، ولا يزهدون فيها إلا متكلفين مكرهين.
وافرد أسامة في ديوانه بابا للرثاء، خص جزءا كبيرا منه برثاء ولدهأبيبكر عتيق، وكان قد وصفه بين أترابه قائلا:
عتيق كالهلال، إذا تبدى ... لساري الليل من تحت الغيم
تقول إذا به الأتراب حفوا: ... أهذا البدر ما بين النجم وأكاد ألمس في تشبيهه بالهلال يبدو لساري الليل، أنه كان أملا لأبيه، طالما تمناه ليكون رفيقا لولده الآخر مرهف، في جرم كان لموته لذعة ألم في قلبه، أمضته، فمضى إلى شعر يشكو إليه وقدة الحزن، ولا سيما أنه نكب به وقد قارب الثمانين من العمر، لا أمل عنده في خلف يأتي به.
وأسامة يحدثنا عن شغل فؤاده الدائم بابنه الراحل فيقول
كيف أنساك يا أبا بكر أم كيف ... أصطباري، ما عنك صبري جميل
أنت حيث اتجهت في أسودي عي ... ني، وقلبي ممثل، لا تزول
ويصف لنا انصرافه بعد زيارة قبره، يملأ قلبه الأسى والشجن:
أزور قبرك والأشجان تمنعني ... أن أهتدي لطريقي حين أنصرف
فما أرى غير أحجار منضدة ... قد احتوتك، ومأوى الدرة الصدف
فأنثني، لست أدري أين منقلبي ... كأنني حائر في الليل معتسف
وقد أثار فيه هذا الحادث المؤلم ذكرى من مضى من أهله، فأخذ يندبهم، ويتوجع لمصيرهم، بل أثار فيه الألم لحياته القلقة المشردة التي لا تأوي إلى الوطن:
رمتني في عشر الثمانين نكبة ... من الثكل يودي حملها من له عشر
علي حين أفنى الدهر قومي، ولم تزل ... لهم ذروة العلياء والعدد الدثر
فلم يبقى إلا ذكرهم وتأسفي ... عليهم، ولن يبقى التأسف والذكر
وأصبحت لا آل يلبون دعوتي ... ولا وطن آوى إليه ولا وفر
كأني من غير التراب، فليس لي ... من الأرض ذات العرض دون الورى شبر
ولكن أسامة ينتهي بالتسليم للقدر، ما دام ذلك مصير الأحياء أجمعين، وإن الدنيا كلها، ما دام ذلك عقبى أمرها، لا تستحق عناء طلبها، ولا التعب في جمع ما يخرج المرء منها وهو صفر اليدين.
ليس في غزل أسامة هذه الحرارة القوية التي تشعرنا بقلب دلهه الحب، وأضنته لوعة الغرام، ولا أكاد أتبين له إحساسا تفرد به، أو لمحات أمتاز بها، وليس معنى ذلك أنه لم يذق الحب. بل أرجح أنه ذاقه، وإن كان لم يشغل قلبه كله. وقد استعار أسامة تشبيهات الأقدمين وأساليبهم في وصف عواطف الحب. ومما يلحظ على غزله أنه شاك حزين، لا تكاد تلمح فيه ابتسامة سرور، وقد يرق أسامة أحيانا، ويتخذ أوزانا مرقصة، وتحس ببعض نبضات الحياة في غزله كقوله:
قل لمن أوحش بالهجر ... جفوني من كراها
والذي أوهم عيني ... أن في النوم قذاها:
يا ملولا قلما استر ... عى عهوداً، فرعاها
يا ظلوما كلما استعطفته، صد وتاها
زدت في تيهك والشيء إذا زاد تناهى
تتقضى دولة الحسن، وإن طال مداها
راحتي لو سمع الشكوى إليه، ووعاها
غير أن الصم لا تسمع دعوى من دعاها
وهو لو نادى عظامي ... رمة لبى صداها
هذا، وكان أسامة عندما يبدأ غرضاً من أغراض شعره، يجعل روح غزله مناسبة لهذا الغرض، وأستمع إلى غزله في مفتتح قصيدة عتاب إذ يقول:
ولوا، فلما رجونا عدلهم ظلموا ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مر يوما بفكري ما يريبهم ... ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعت لهم عهدا، ولا أطلعت ... على ودائعهم في صدري ألتهم
وعلى هذا النسق مضى، حتى قال:
وبعد، لو قيل لي: ماذا تحب، وما ... مناك من زينة الدنيا؟ لقلت: هم
هم مجال الكرى من مقلتي، ومن ... قلبي محال المنى، جاروا أو اجترموا
وهاك من غزله في قصيدة استعطاف:
أطاع ما قاله الواشي، وما هرفا ... فعاد ينكر منا كل ما عرفا
وعتاب أسامة فيه رقة ورفق بالغ، واستعطافه جدير أن يستل الضغائن من القلوب، تشعر فيه بحرارة العاطفة، وصدقها، يقول لأبن عمه يستعطفه:
هبني أتيت بجهل ما قذفت به ... فأين حلمك والفضل الذي عُرفا
ولا، ومن يعلم الأسرار، حلفة من ... يبر فيما أتى، إن قال، أو حلفا ما حدثتني نفسي عند خلوتها ... بما تعنفني فيه إذا انكشفا
وبعد، فشعر أسامة من النوع الجزل الفخم، لا تكاد تجد فيه من الهنات إلا ما يعد، ويحصى، فهو في عصره يوضع في مقدمة الشعراء الذين جددوا شباب الشعر، وكسوه حلة من الفخامة، والقوة، والجلال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم