مجلة الرسالة/العدد 887/من الأشعار العربية
→ صوم رمضان بين العلم والأدب | مجلة الرسالة - العدد 887 من الأشعار العربية [[مؤلف:|]] |
المسند ← |
بتاريخ: 03 - 07 - 1950 |
الشعر العربي في حضرموت
للأستاذ أحمد طه السنوسي
البيئة الحضرمية بيئة عربية قحة، وهذه أول ميزة وأول موجه للشعر الذي يقال فيها وينشده شعراؤها في حيزها، والميزة الثانية قد نتجت عن الميزة الأولى، فنحن نجد أن التخاطب في حضرموت بلهجة تقرب من اللهجة المصرية. ونجد في التخاطب الحضرمي أنه يستعمل ألفاظاً عربية أصيلة كثيرة مما لا نحس له وجوداً في تخاطب البلدان العربية الأخرى، ومما لا يذكر إلا في المعاجم عادة، ويرجع ذلك إلى امتداد الصبغة العربية القحة منذ فجر التاريخ الحضرمي إلى اليوم. ولم يستطع التطور الحديث أن يقتحم بقوته فيقضي القضاء كله على النزعة العربية والصبغة العربية الأصيلة في هذا البلد الحضرمي، على هذا فليس من عجب إذ ما ألفينا الشعر الحضرمي أقرب الأشعار إلى الأشعار القديمة وخاصة الجاهلية، وتلك ظاهرة لا يجد المرء نصبا في استشفافها والوقوف عليها حين اطلاعه على أشعار الحضارمة ولا يغيب عنا أن شاعرنا الكبير امرأ القيس نشأ في زمنه في هذا القطر وقال شعره فيه، فبيئته حضرموت إذا بيئة الشعر منذ أقدم عصوره وبيئة التفنن منذ فجر تاريخه كما إنها بيئة العربية ولهجاتها ومصادرها.
ولا نستطيع أن نقول إن الشعر الحضرمي الحديث قد بلغ شأواً بعيداً وذروة رفيعة من المجد الشعري الحديث على الرغم مما أبداه في عالم اللفظ من جمال وقوة، وما وصل إليه في عالم الوضوح من الرقي والرفعة؛ وذلك أرجعه إلى علل وأسباب أهمها أنه لا يتأثر إلا قليلا بالثقافة الحديثة، وأنه يغرق في اللفظ وضخامته وفخامته ثم يذر للنواحي الأخرى بعض الاهتمام، وهذا البعض يطوح به الأسلوب حينا ويتغاضى عنه الشاعر نفسه أحياناً. ثم إن هذا الشعر الحضرمي لا يمكن أن يجد فيه العربي خارج حضرموت لذة وجمالا، وإنما يجد هذه الأشياء الحضرمي في الذي يعيش البيئة الحضرمية فوق أرضها وتحت سمائها، وهذه البيئة لا يستسيغها بالطبع ذلك العربي خارج حضرموت، وبالتالي فتأثيرها على الشعر جعل هذا الشعر غير مستساغ في الجو العربي الخارجي. وبالرغم من أن هنالك شعراء تخلصوا من هذا الحيز ومن تلك السيطرة فأمكن لنا ولغيرنا أن نجد ف شعرهم لذة وجمالاً وأخذنا نقبل عليه يزيدنا شوقاً إليه أن فيه الروح العربي الصميم مما لا نكاد نجد له المثيل في الإغراق في الشعر العربي الحديث نظراً لتأثر هذا الأخير بالثقافة الحديثة والتطورات الزمنية والبيئة الموجهة
على أننا نجد أن هنالك في حضرموت ككل بلد عربي شعراً شعبياً يدعى (بالشعر الحميني) وهذا النوع ينتشر في حضرموت ويرتقي ويجد رواجاً كبيراً، غير أنه أيضاً قد تأثر إلى حد بعيد بالصبغة العربية القوية للشعر الحضرمي، فلولا اللهجة وتحريفها وأساليبها لأضحى شعراً حضرمياً قحاً.
ثم إننا نلحظ شيئاً هاما في الشعر الحضرمي وذلك هو الصبغة الصوفية والنزعة الفقهية، ونحن لو درسنا الشعب الحضرمي وبيئته واتجاهاته نجد أن هذه الصبغة وتلك النزعة متأصلتان فيه، بارزتان واضحتان في أفكاره ومناحيه، فلا غرابة أن يبرزها إلى درب الشعر لتجد مسلكاً جميلا للبدو والانتشار، ولا غرابة أن يبديهما في ثوب الشعر لتستطيعا أن تجدا طريقهما إلى التأثير الصحيح والفائدة المطلوبة منهما، ولكن هناك فارقا هاما بين هذه الصبغة وتلك النزعة في الشعر الحضرمي وبينهما في الشعر العبي القديم؛ ذلك لأنهما في الشعر الحضرمي لا يزيدان على كونهما غلالة شفيفة تعكس هذا الشعر دون أن تطغى على لباس اللفظ ورداء الشعر وإن طغت في بعض الأحايين على رداء المعنى؛ وذلك لأن المعنى نفسه ليس في المرتبة الأولى إذا قسناه باللفظ في ذلك الشعر، فالمعنى لا يهتم به كثيراً سواء أضاعه اللفظ أو غشته غلالة الصوفية وكسته النزعة الفقهية. . .
لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نغمط الشعر الحضرمي حد الواضح في بلوغ ذروة عالية حين يحدثنا عن الألم ودواخل النفس وتأثرات الشعور فإنه بهذا يجمع إلى جمال الوشي استثارة المشاة ويضفي على الوصف الدقيق وعلى تصوير الدواخل والدوافع والاحساسات جميل اللفظ وبديع الأسلوب فيأتي بشعر جميل يقرأه المرء فيجد فيه صدقاً وإخلاصا في التصوير وتشويقاً في العرض وجلالا وجمالا في الإدلاء والإبداء.
ويقول لشعر الحضرمي في كل الأغراض التي قال فيها الشعر القديم، ويهمه أن يدلف درب ذلك الشعر ويحذو حذوه، ولا ينسى في بعض الأحايين أو يشاركه في الدمن والإطلال والاهتمام بالتجريد وذكر الآلات والأشياء المحيعة من بيئة الحضرمية.
ولعل أهم الأمور التي جعلت الشعر الحضرمي على جلالة قدره ورفعة مرتبته غير معروف وغير مدروس في عالمنا العربي أن أغلبه لا ينتشر ولا يجمع، فهي البيئة الحضرمية التي تتداوله بالرواية وتملي عليه الخمول فلا يأخذ طريقه لنشر أو طريقه لذيوع ودرس في الحلقات الخارجية من الجو العربي. وما ينقصه إلا أن يعترف بأهمية القومية العربية الشاملة في قصائده ويتهم بها أن يقلل من إخلاصه للجاهلية من ناحية وأن يساير ركب المدينة ولا يبخل بالثقافة الجديدة والتطور الجديد أن يلج سدته ويهز سرجه بلجامه إلى الأمام. . . وهاكم بعض الأمثلة:
قال الشيخ عبد الصمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله باكثير الكندي في شكوى الحظ العاثر:
أراني إذا ما الليل جاشت كتائبه ... أبيت وقلبي حائر الفكر ذاهبة
أقضيه بالأشجان والهم والأسى ... ودمع على الأوجان ينهل ساكبه
تبيت أفاعي الهم في غيهب الدجا ... تساور قلبي بالعنا وتواثبه
وقال أيضاً:
يا عاذلي دعني وشأني إن لي ... قلبا بتير الحب لا يستأنس
كيف السلو عن الأحبة بعد ما ... دارت عليّ من الصبابة أكؤس
ويقول متألما:
خذ من قديم حديثي مبتدأ سقمي ... وما أقاسي من الأوصاب والألم
فمبتدأ خبري فعل اللواحظ من ... عيون خشف رمت سهما أراق دمي
رمى فشك الحشا من نبل مقلته ... بغير شك وقد أوهى قوى هممي
فطار يومي وبات همي يقلقني ... ومهجتي لمظي الأشجان في ضرم
وخالف النوم أجفاني وحالفها ... طول السهاد فلم أهدأ ولم أنم
محي الغرام سلوى واستباح دمي ... هوى الأغن فسرى غير منكتم
لي في الظلام أنين كلما سجعت ... ورقاق أرقت فوالهفي وواندمي
يرق لي كل من بالليل يسمعني ... فمن لصب عميد باللحاظ رمى
ويقول السيد شيخ بن عبد الله العيدروسي العلوي في قصيدة رثاء: تقضي فتمضي حكمها الأقدار ... والصفو تحدث بعده الأكدار
والدهر أبلغ واعظ بفعاله ... وكفى لنا بفعاله إنذار
وهو القائل في توسلية له:
يا من لقب بالصبابة ممتلي ... وأضالع يلظي القطيعة تصطلي
من ذا لما بي كاشف إلاك يا ... من قد مددت له أكف توسلي
ويقول السيد محمد مولى الدويلة العلوي:
الحب حبي والحبيب حبيبي ... والسبق سبقي قبل كل مجيب
نوديت فأجبت المنادي مسرعا ... وغطست في بحر الهوى وغدي بي
لي تسعة وثلاثة من تسعة ... والعقد لي وحدي وزاد نصيبي
ويقول محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي الحب الخطيب الأنصاري من محادثاته الشعرية:
تجنب أرضك الوبأ الوخيم ... وجانب سوحك السدم السديم
ومنها:
مجاج مياهها فيه شفاء ... إذا مجت على الأرض الغيوم
نسيم جنوبها أبدا صحيح ... وطبع الجو فيها مستقيم
وطبع مياهها في الصيف برد ... وأيام الشتاء هي الحميم
تعادل حرها والبرد فيها ... فلا برد يصر ولا سموم
وطبع البرد فيها فيه لطف ... بطيب نسيمه تنمو الجسوم
ويقول الأمير محمد على الكثيري:
إن جئت (عينات) فحي ثراها ... واستنشق العرفان من رياها
والصق جبينك بالتراب مقبلا ... شكراً لمن أولاك لضم ثراها
بلد أقام بها الكمال وحبذا ... بلد غدا الغوث العظيم حماها
واستقبل الشيخ المعظم خاشعا=في ذل نفس كي تنال مناها.
ويقول السيد عبد الله الحداد العلوي في حديث نفسي:
ألا يا نفس ويحك كم توانى ... وكم طول اغترار بالمحال
وكم سهو وكم لهو وهزل ... وكم ميل إلى دار الزوال وكم شغل بما لا خير فيه ... وكم حرص على شرف ومال
وكم تلوين عن محمود فعل ... وكم تقعين في قبح الفعال
وقال أيضاً:
أنا مشغول بليلي ... عن جميع الكون جمله
فإذا ما قيل من ذا ... قل هو الصب الموله
أخذته الراح حتى ... لم تبق فيه فضله
راح أنسي راح قدسي ... ليست الراح المضله
هذه بعض الأمثلة من ذلك الشعر راعينا في انتقائها تصوير الواقع وتسجيل الموجود علنا نستخلص من ذلك بعد كل هذا أن في حضرموت شعراً عربياً جديراً بالعناية قمينا بالالتفات والاهتمام.
أحمد طه السنوسي