الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 887/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 887/البريد الأدبي

بتاريخ: 03 - 07 - 1950


في السرقات الأدبية

كان المغفور له الشيخ حمزة فتح الله مولعا بالغريب في شعره ونثره، حتى لقد أصبح قوله الألغاز والمعميات، وأغرت هذه الخلة به صديقه شاعر الجمال المرحوم إسماعيل صيري باشا، فنظم قصيدة بأسلوبه وعلى طريقته في شكوى شركة (كوك) البحرية، وأعطاها إلى صديقه شيخ العروبة المرحوم أحمد زكي باشا فكتبها مزوراً خط الشيخ فتح الله الذي كان ينزع إلى محاكاة إملاء أهل المغرب، وبعث شيخ العروبة بالقصيدة إلى صحيفة (المؤيد) فنشرتها في صدرها، وأحدثت بطبيعة الحال دوياً، واستمرت رجفتها شهراً كاملا يتناقل الأدباء أبياتها معجبين لأنهم لا يكادون يفهمون منها شيئا لشدة ولع (عميد المفتشين) بالغريت وحواشي الألفاظ. ونذكر من هذه القصيدة العجيبة هذه الأبيات الثلاثة:

أيا يذا (الفضل) المزجى زواجره ... صوب السفين وثوب السوس سربله

أشكوك (كوكك) كي نيكف عن نكب ... إذ كان كلا وكل مل كلكله

أباتني والجرشى حشوها ضجر ... إن مس شقي خشب الفلك قلقله

ولما طلع الشيخ حمزة فتح الله القصيدة في صدر (المؤيد) اعجب بها إعجابا شديداً، وحين هنأه عليها أصحابه لم يقبل التهنئة فقد كان رجلاً ورعاً تقياً وإنما قال (هذا الكلام كلامي ولكني ما قلته). ولما أطلع على أصل القصيدة في إدارة الصحيفة قال (وهذا الخط خطي ولكني ما كتبته) وبقي الأمر سراً حتى توفي الشيخ حمزة وعندئذ أفشاه شاعر الحب والجمال!

ونحن إذ نروي هذه القصيدة إنما نريد منها أن نعرف متانة خلق رجل من أعلام البيان أبى عليه ورعه أن ينسب لنفسه كلاما لم يقله، وما كان ضره لو هو سكت، وبخاصة أن صبري باشا الشاعر لم يكن بالرجل المشنع الكثير الكلام، وقد أراد رحمه الله أن يداعب شاعراً آخر من شعراء زمانه، فأرسل إلى إحدى الصحف قصيدة ممهورة بتوقيعه - توقيع الشاعر لا توقيع صبري باشا - ثم لقيه من غده فهنأه بالقصيدة، فقبل الشاعر التهنئة شاكراً!

فذانك برهانان، تروع الشاعر في أولهما أن ينسب لنفسه ما لم يقله وما لم يكتبه وفي الآخ لم يجد الشاعر باساً من سرقة أدبية هبطت عليه من السماء!

وعندنا أن السرقات الأدبية تسامت إلى حد كبير السرقات المادية واتجاه التشريع إلى حماية الملكية الأدبية اتجاه محمود، وسارق (الدجاجة) الذي يقضي في السجن عدة أشهر. ولو أننا بالغنا في حماية الملكية الأدبية لخلقنا جيلا من الأدباء مهذبا لا يتجانف لإثم سرقة الأفكار والآراء

واحسبني أرسلت في (الرسالة) كلمة قبل بضع سنين أعتب فيها على الدكتور زكي مبارك أن نسب لنفسه هذه القولة (الشهرة كالمال بعضها حلال وبعضها حرام) وقلت له إن هذه المقالة البليغة إنما هي من كلام المرحوم الشيخ يوسف الدجوي، فرجع الرجل إلى الحق وكتب معتذراً ولم يكابر ولم يصاول.

وكان صديقنا الأستاذ كامل كيلاني - ولا يزال - يرى وجوب حفظ الحق الأدبي لصاحبه، ولو كان هذا الحق يتصل بملحة أو نكتة أو (قفشة) فلا ينسب المرء لنفسه كلاماً ما سمعه من أحد، وإنما يرد القول لقائله على طريقة رواة الأحاديث، ولو أن هذه الطريقة اتبعت ما كذب أحد على نفسه ولا على الناس.

يبد أننا منينا في هذه الأيام بالسرقات الأدبية تتري علينا في صورة كتب تنشر أو مقالات تكتب، ولقد كنا نبصر في زمن مضى بالسرقات الأدبية تنصب على الموتى وحدهم، غير أننا نرى في هذه الآونة السرقات الأديبة قسمة قسمة عادلة بين الأحياء والأموات، وما نحب أن نذكر قبل أن يستشري الداء ويمسي العلاج شيئاً بعيد المنال.

ولسنا نعرض للكتاب الذي قيل لمن (مؤلفه) بدل عنوانه ومقدمته وقدمه إلى القارئين على نحو جديد، فقد يكون لصاحب هذا الكتاب مع طابعه شان آخر. ولكن نحب أن نفرض لهذه المقالات التي تنشر في صحفنا الدورية، فكثير من هذه المقالات سبق نشرها في هذه الصحف بعينها منذ سنين، ولكن بتوقيعات أخرى غير هذه التوقيعات التي نراها اليوم. ومن هذه المقالات مقالات مضى أصحابها إلى ربهم وقطعوا صلتهم بهذه الدار الفانية ومنها مقالات كتبها أناس ما زالوا يكابدون أوصاب الحياة، ولكنهم قطعوا ما بينهم وبين الحياة الأدبية، ومنها كتبها صاحب هذا القلم الضعيف في مناسبات مختلفة قبل بضع سنين!

والصحف - ولا شك - لا تلام على نشر ما تنشر لأنها لا تقرا الغيب ولا تقلب صحائفها في الماضي البعيد أو القريب، وإنما يلام أولئك (الكتاب) الذين لا يراعون الأمانة ولا يراقبون الضمير ولا يتوافون لشرائط الأخلاق ومراسم التقاليد!

إن سرقة مقالة أو قصيدة أشبه ما تكون بسرقة متاع من المتاع، وسارق المتاع يعتقل في حالة (التلبس) كما يقولون ويعاقب ويشهر به ويفقد (اعتباره) ومستقبله. ولكن صاحب المقالة أو القصيدة - وهو في الأغلب الأعم له نفس شاعرة - يعز عليه أن يشهر أو يشنع بمن سرق نتاج فكره، أفلا يتقي الله لصوص الأفكار، حتى لا يأخذهم القانون بما جنت أيديهم أسوة بإخوانهم من لصوص المتاع!

منصور جاب الله