مجلة الرسالة/العدد 886/أسامة بن منقذ وشعره
→ دراسات أدبية: | مجلة الرسالة - العدد 886 أسامة بن منقذ وشعره [[مؤلف:|]] |
الأسس الجغرافية والتاريخية للوحدة اللوبية ← |
بتاريخ: 26 - 06 - 1950 |
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
بقية ما نشر في العدد الماضي
- 5 -
يصور لنا شعر أسامة صلته بأبيه وأخوته: بهاء الدولة منقذ، ونجم الدولة محمد قوية وثيقة، يضمر لأبيه الحب وخالص الإجلال، ويعني أكبر ما يعني بأن يكون راضياً عن خطواته وأهدافه. كتب إلى أبيه يستأذنه في فراق شيزر بعد أن ساءت حياته فيها قصيدة طويلة منها:
فاسمح ببعدي عنهم برضاك لي ... إن الذي ترضى عليه موفق
حتى إذا آثر أسامة البعد، كتب إلى أبيه قصائد يتشوق فيها إليه، ويحدث عن آماله في لقائه والحياة معه، حتى إذا سمع أسامة أن تغيراً عليه ألم بقلب والده، بعث إليه يستعطفه ويسترضيه، ومن ذلك قوله:
مالي، وللشفعاء فيها أرتجى ... من حسن رأيك في، وهو شفيعي
أعذبت لي من وجود كفك موردي ... فصفا وأمرع من نداك ربيعي
وبك اعتليت، وطلت من ساميته ... فخراً بمجدك، لا بحسن صنيعي
وقضي ببعدي عنك دهر جائر ... وإلى جنابك إن سلمت رجوعي
وكتب مرة إليه من مغتر به قصيدة منها:
بي لوعتان عليك يضعف عنهما ... جلدي من الأشواق والإشفاق
فالشوق أنت به العليم ... وغالب الإشفاق مما أنت في ملاقي
وقد أثرت هذه القصيدة في نفس والده، فكتب إليه:
أثرت أنى بعد بعدك باقي ... أجزى عن الأشواق بالأشواق
أأبا المظفر دعوة تشفي الظما ... مني، وإن أضحى بها إحراقي
لم أستكن أبداً لخطب نازل ... إلا لبعدك، فهو غير مطاق
فإذا أطعت الوجد فيك أطاعني ... قلبي، وبيدي إن عصيت شقاقي فإذا ذكرتك خلت أني شارب ... تمل سقاه من المدامة ساق
ولعل والده رأى هذه القصيدة غير مبينة عما يضمره قلبه لولده، من لاعج الشوق، فقام أحد مؤدبي أسامة بنظم قصيدة أرسلها إليه، يصف فيها حال هذا الوالد المعذب.
ولما شتت أخوته في البلاد، كانت رسائله إليهم تفيض بالحب وشكوى الفراق، فإذا عتب عليه أحدهم، تقبل عتبة بالعتبى، وصادق الحب والمودة. وحدث أن أخاه محمداً أسره الفرنج، وهو راحل من مصر عقب حركة عباس وابنه نصر فلم يمنعه ما كان بينه وبين ابن عمه بشيزر من صلة مقطوعة، وأن يكتب إليه مستعيناً به على فك أسر أخيه، مبدياً أرق ألوان الاستعطاف، إذ يقول من قصيدة:
أنا ابن عمك، فاجعلني بفك أخي ... من أسره، لك عبداً ما مشت قدمي
ولكن ابن عمه لم يتأثر بالشعر، ولم يسع في فكاك أخيه. أما صلته بعمه حاكم شيزر وابن عمه، فظهر أنه حاول جاهداً الإبقاء على الصلة التي تربط بهما، وبذل في سبيل ذلك ما استطاع أن يبذل من عنت ومشقة. ولعل خير ما يصوره موقفه في تلك الفترة قوله:
وما أشكو تلون أهل ودي ... ولو أجدت شكيتهم شكوت
مللت عتابهم، ويئست منهم ... فما أرجوهم فيما رجوت
إذا أدمت قوارصهم فؤادي ... كظمت على أذاهم، وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيا ... كأني ما سمعت، ولا رأيت
تجنوا لي ذنوباً ما جنتها ... يداي، ولا أمرت، ولا نهيت
ولا والله، ما أضمرت غدراً ... كما قد أظهروه، ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا، وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
وبعد وفاة عمه حاول أسامة أن يصلح ما بينه وبين ابن عمه، وأن يعطفه عليه، ويلين قلبه، ولكن يبدو أن هذا الجهد لم يؤت ثمرته، فظلت النفرة بين أسامة وأهله، حتى مضى زلزال (شيزر) بهم، فبكاهم أسامة كما ذكرنا، وكل هذا يدلنا على ما امتازت به نفس أسامة من حب يضمره لأقاربه، ورغبة خالصة في أن يعيش بينهم يظللهم جميعاً الود والوئام، لو استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا ذنب عليه إذا هو أخفق في جهد كان جديراً به أن ينجح، وأكاد ألمس في شعره أنه لم يسع يوماً إلى فصم عروة مودة بينه وبين قريب أو صديق.
- 6 -
ومن أكبر هؤلاء الذين اتصل بهم أسامة الملك الصالح طلائع بين رزبك، ودار بين الاثنين كثير من المراسلات التي تفصح عن ود مكين بين قلبيهما، وإعجاب كل بصاحبه أكبر الإعجاب، فمضت قصائد الصالح إلى أسامة تدعوه إلى مصر حيناً، وتعتب عليه إيثاره البعد عنها حيناً آخر، وتأخذ عليه أحياناً أنه مقل في رسائله، لا يوالي بعث كتبه، وكثيراً ما حدثه الصالح عما قام به من حروب مع الفرنج، ويطلب منه أن يكون وسيلته إلى نور الدين، كي يجتمعا معاً على حرب الصليبيين، وقد شارك الصالح أسامة فيما نزل به من أحاث قاسية في حياته، وكان الصالح معجباً بمواهب أسامة في الحرب والسلم، ويرى فيه محارباً شجاعاً، وشاعراً مفلقاً، وخطيباً بارعاً، وحكيماً في إبداء الرأي صائباً، ويقول له:
وجهاد العدو بالفعل والقو ... ل على كل مسلم مكتوب
ولك الرتبة العلية في الأمرين ... مذ كنت إذ تشب حروب
أنت فيها الشجاع مالك في الطعن ... ولا في الضراب يوماً ضريب
وإذا ما حرضت فالشاعر المفلق ... فيما تقوله ولخطيب
وإذا ما أشرت فالحزم لا ينكر ... أن التدبير منك مصيب
لك رأي مذ قط إن ضعف الري ... على حاملي الصليب صليب
وهو لذلك يراه من يحمل عبء الرسالة إلى نور الدين، يحرضه على أن يجتمعا معاً على حرب الصليبيين في وقت واحد، حتى تشتت وحدتهم، ولا يستطيعوا الحرب في الجهتين، وذلك كان رأي الملك الصالح. يجهز الاثنان جيشيهما، ويسيران معاً في وقت واحد إلى أرض العدو، وطلب من أسامة أن يبلغ ذلك الرأي إلى نور الدين إذ قال له:
فانهض الآن مسرعاً، فبأمثا ... لك ما زال يدرك المطلوب
والق عنا رسالة عند نور الدين ... ما في إلقائها ما يريب
قصدنا أن يكون منا منكم ... أجل في سيرنا مضروب
فلدينا من العساكر ما ضا ... ق بأدناهم الفضاء الرحيب
وعلينا أن يستهل على الشام ... مكان الغيوث، مال صبيب
فهو يعد هنا بالجيوش والمال، ويرى أن اجتماعهما معاً على حرب العدو كفيل بأن يلقي بهم في البحر، أرسل رسالة إلى أسامة، يقول فيها:
فلو أن نور الدين يجعل ... فعلنا فيهم مثالاً
ويسير الأجناد جهراً، ... كي ننازلهم نزالاً
وبقي لنا ولأهل دو ... لته بما قد كان قالا
لرأيت للأفرنج طرا ... في معاقلها اعتقالا
وتجهزوا للسير نح ... والغرب أو قصدوا الشمالا
وقام أسامة بدوره من تحريض نور الدين على الغزو والاجتماع على رأي الملك الصالح، فكتب إليه أسامة يقول:
بلغ العبد في النيابة والتح ... ريض، وهو المفوه المقبول
فرأى من عزيمة الغزو ما كا ... دت له الأرض والجبال تميل
وكان رأي أسامة كرأي الصالح في الاجتماع، ووحدة الكلمة، ومضى الملكين معاً إلى الحرب، وقصائده إلى الملك الصالح تحث على هذا التضامن والاتفاق، ولكن ذلك لم يخرج عن حد الأماني، ولو أنه نفذ يومئذ فربما كان قد تغير مجرى التاريخ.
كانت رسائل الملك الصالح إلى أسامة كثيراً ما تصف له ما نزل بالقدس من محن على أيدي الصليبيين، وما اتصف به هؤلاء من الغدر الذي لا يحول بينهم وبينه هدنة تعقد، ولا عقد يبرم، وكثيراً ما تحدثت الرسائل عن وقائع الصالح في الفرنج، وغزواته لهم.
ومضت قصائد أسامة تحمل الثناء على الملك الصالح، وتشكر أياديه، وكان الصالح يبره، ويرسل إليه خيره، ولم يكن أسامة يجد عضاضة في سؤال الصالح ولا الشكوى إليه، كتب إليه مرة يقول:
أشكو زماناً قضى بالجور في، ولم ... يزل يجور على مثلي ويعتسف
لحت نوائبه عودي، وأنفد مو ... جودي، وشتت شملي وهو مؤتلف
وقد دعوتك مظلوماً مرتجياً ... وفي يديك الغنى والعدل والخلف
ومن شكر أسامة له قوله:
والندى طبعك الكريم، فما أهـ ... ني نوالاً تنيله وتثيب
جاءني والبعاد دوني كما جا ... بت فيافي البلاد ريح موهوب وعجيب أن الواهب نسري ... ويقيم المسترفد الموهوب
- 7 -
ومدح أسامة غير الصالح معين الدين أنر، حاكم دمشق، عندما كان في كتفه، وبعد أن فارقه، وجاء إلى مصر؛ يثني عليه بالجود الذي تعبده، فيقول:
معين الدين، كم لك طوق من ... بجيدي مثل إطراق الحمام
وحيناً يثني عليه ببلائه في حرب الصليبيين، وانتصاره عليهم فيقول له:
أنت سيف الإسلام حقاً فلافل ... غراريك أيها السيف دهر
بك زاد الإسلام يا سيفه المخ ... ذم عزاً، وذل شرك وكفر
ومدح الوزير الأفضل عباس بن أبي الفتوح وزير الظافر، وابنه نصراً على نعمه، وما أولاه من الفضل والكرامة، وفي ديوانه قصيدة لا أدري لمن وجهها، مدح فيها بتشجيع العلوم وتوطيد أركان العلوم، أما رأيه في نور الدين محمود:
فهو المحامي عن بلاد الش ... ام أجمع أن تذالا
ومبيد أملاك الفرن ... ج وجمعهم حالاً فحالا
ملك يتيه الدهر والد ... نيا بدولته اختيالا
فإذا بدا للناظري ... س رأت عيونهم الكحالا
لكنه أخذ عليه شدة زهده، وحملة الناس على الزهد، حتى لقد أشبهت أيامه شهر الصوم في طهارتها وامتلأت بالجوع والعطش، وأسامة بهذا يدل على رغبة قوية في أن يستمتع بالمباهج الطيبة للحياة.
ومدح أسامة كذلك صلاح الدين، ذاكراً أفضله عليه وعلى الإسلام.
- 8 -
كان أسامة شديد الاعتزاز بنفسه في ميادين القتال، شديد الاعتزاز بأسرته، شديد الثقة بصيرة، وثباته وتجربته، وكان ذلك ينبوع فخره في شعره، فمما قاله مفتخراً بشجاعته:
لخمس عشرة نازلت الكماة إلى ... أن شبت فيها، وخير الخيل ما قرحا
أخوضها كشهاب القذف مبتسماً ... طلق المحيا، ووجه الموت قد كلحا بصارم من رآه في قتام وغى ... أفرى به المهام ظن البرق قد لمحا
أغدو لنار الوغى في الحرب إن خمدت ... يا لبيض في البيض والهامات مقتدحا
فسل كماة الوغى عني، لتعلم كم ... كرب كشفت، وكم ضيق بي انفسحا
وهو يعلم مكانته في السلم رهينة بما يبديه في الحرب من بسالة وإقدام:
إن يحسدوا في السلم منز ... لتي من العز المنيف
فما أهين النفس في ... يوم الوغى بين الصفوف
فلطالما اقدمت إق ... دام الحتوف على الحتوف
بعزيمة أمضى على حد ... السيوف من السيوف
وفي كثير من شعره افتخر بصبره على المكاره، وأحداث الزمان.
(للكلام صلة)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم