الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 885/صورة رمزية

مجلة الرسالة/العدد 885/صورة رمزية

بتاريخ: 19 - 06 - 1950


رسالة إلى امرأة!

للأستاذ غائب طعمه فرمان

(الصراع بين الواقع والخيال صراع خالد. . فكثيراً ما يهرب المرء من واقعة المرير مع أحلامه إلى عالم الخيال الرحيب. . ولكن. . لا يستقر فيه إلا قليلاً حتى يرى الحياة في رحابه الفسيحة قاسية!!. . فيرجع إلى أحضان واقعة ليراه أشد مرارة من قبل!. . .)

هاأنذا جالساً لوحدي والدجى يرسم أمام ناضري عالماً رهيباً. . . هاأنذا صامتاً كأنني انتظر ساعة مفزعة، أو أرتقب حكماً قاسياً، والكون من حولي أخرس سكران بخمرة السكينة، والهواء البارد يلفح وجهي، ويبث القشعريرة في كياني، فأحس من أعماق نفسي بهمسة حائرة مضطربة، وتضطرب في نفسي لواعج وأشجان، وتختلج في رأسي أفكار وصورة قاتمة!.

هاأنذا جالساً على صخرة تعرفني، حبيبة إلى، عزيزة على نفسي. . . وقد صرخت من أعماق روحي قوة تدفعني إلى أن أقبلها وأبلل جسمها البارد بدموعي، وأركع تحت قدميها أستجدي الذكريات!.

والنهر أمامي يتهادى بسكون كأنه في موكب عزاء، وعلى سطحه لآلاء مرتجف كأنه مآل اليائس، وقد شعرت برهبة وخشية، فكأنني واقف على شاطئ مسحور. مجهول. . مبهم. . تلفه الأسرار، وتوغل في أرجائه أصداء مبهمة كأنها أرواح ضائعة تنشد أجسادها بين الرمم، أو كأنها أسئلة ليس لها ردوداً. وعلى يساري تلك الشجرة الأمينة كقلب أبيض، تصلي معي بخشوع وضراعة في محراب الوحدة المقدس، وقد سجدت أغصانها على النهر تقبله، وقد داعبتها نسمة حنون، فراحت تميل بطراوة!.

كل ما حولي عميق لأنه يطوي تأريخ قلبين فرقهما الدهر، فتاها في متاهات الحياة حائرين يبحثان عن مأمن رحيم. . . كل ما حولي حزين كأنه يبكي على مأساتنا، ويندب حضنا العاثر، ويبعث إلى قلبين ضالين سلوه وعزاء، وكل شيء يمر على ذاكرتي واضح المعالم، مؤثراً، مرهقاً، عميقاً، ويتجسم في هذا الفضاء اللانهائي لي شبح الماضي الجميل الكئيب! وتبرز لي ذكريات الأيام الماضية، تلك التي طمرها القلب، وأخرجها الإحساس المتوثب، وصرخ بها الضمير الغصوب!.

يا لها من ذكرى. . . تلك التي انطوت على شواظ من نار، ولفت ريقاً من العمر كان القلب، والعاطفة، والضمير قضاته العادلون.

إنني لأذكره. . وأنا وحدي أحييه، وأبعثه من أعماق قلبي على القرطاس، وأحاول أن أبث فيه من حياتي. روحاً، ومن جوانحي قبساً، ومن اضطراب فكري حركة!.

وأنت أيتها المرأة التي أخاطبك - أتمثلك جالسة وحدك على الشاطئ. . . شاطئ العالم المهجور، كأنك تنتظرين غريباً يؤوب إلى وطنه، أو أملاً يولد مع موج الأحلام المسحور!. . . أتمثلك غارقة في الظلمة كأنك تناجين الأطياف، وأتمثلك ساهمة كأنك تصلين، وأتمثلك غارقة في لجج الصمت الذاهل!.

أتذكرين ذلك اليوم الكئيب الجميل، القاتم المنير، الباكي المبتسم؟!. . عندما تقدمت إليك مدفوعاً برهبة وخشوع عظيمين، مدفوعاً برغبة وشوق آسرين، كأنني مدفوع إلى عالم المستقبل المكنون!!.

جئت إليك، وقد نفضت يدي من العالم، ومن كل رغبة من رغبات الحياة، ومن كل خفقة من خفقات الأمل، ومن كل شوق من أشواق النفس في الخوض في غمار الحياة!.

وكنا قد تواعدنا على القدر، واتفقنا على موعد! وقد هربت من جحيم حياتي، وإسار رقبتي. . إليك. . وأنت تعرفين أن الماضي الذي أتكلم عنه شيء قاس مؤلم.

تقدمت إليك بقلب واجف. . كأنني في حضرة من ملك حياتي، فرأيتك جالسة غريقة في بحر لجي من الهواجس والظنون ويدك ممتدة إلى الظلمة، أو إلى شعرك الفاحم!

وخيل إلي أنني أمام امرأة ساحرة تلفها الأسرار، كأنني لم أعرفك، ولم تتواشج الأواصر الروحية بيني وبينك. . . وسمعتك تتمتمين كأنك تقرئين تعويذة لطرد الأشباح المحيطة بك كأنها الأقدار. . وسمعتك أخيراً تقولين:

- أهذا أنت؟!

فأجبتك: - نعم. . أنا الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم! فنظرت إلي كأنك تنظرين إلى شيء غريب. . بليد. . مبهم لا يعرف أمراً من أمور الحياة وقلت:

- هل ارتكبت الحماقة؟. .! هل اشترتك مملكة الشيطان!؟ - نعم. . لقد فعلتها وأنا لست بنادم ولا خزيان. . نعم لقد فعلتها بكل إرادتي. . فإنني لا أحبها، ولا أشعر بميل نحوها بل أنا أمقتها كما أمقت الشيطان!.

وساد الصمت، وكلانا لا يعرف ما يقول. . كأن السكينة ألفت إسارها علينا. . ومشينا على الشاطئ. . ونحن مطرقان. . قلت:

- ولكنها زوجتك. . أم أولادك. . إن ضميري ليعذبني!!

- وليكن. . فأنا لا أقبل منطق الحياة الأعوج، فأنا أكره زوجتي أشد الكره

- ليتني ما عرفتك!!

- أتريدين الحق؟! إنني يئست من حياتي لولاك. . ومن يدري!. لولاك لفارقت لا حياة منذ زمن بعيد!.

يالك من امرأة غريبة كالجباة، غامضة كالموت. إنني لم أشعر بالإهانة والضعة مثل شعوري بهما في تلك اللحظة. . لقد حملتني الجريمة وحدي، وهربت أنت لائذة بالعفة والطهارة. . وليس هناك جريمة في الوجود يشترك فيها شخص واحد. . حتى السارق في جنح الظلام يشترك معه المجتمع في سرقته!.

قلت لك: - لا تثيري الماضي. . فالذي تلفه الأكفان لا تستقر فيه الحياة مرة أخرى. إنني ضحيت بكل شيء من أجلك. . أنت يا صورة أحلامي ولحن هواي. ضحيت بامرأتي وهي مخلوقة يائسة ضعيفة. . وضحيت بأولادي وهم محتاجون إلى من يأخذ بأيديهم. . . وضحيت بكل شيء من لأجلك. . فقد ضقت ذرعاً بحياتي الرتيبة، ودنياي الكثيرة الأوحال. . لقد ضقت ذرعاً بهذا الواقع المليء بالمتناقضات. . هذا العمر الذي يذبل بذلة. . واشتقت إلى عالم ثان اكثر بهجة وأنظر وجهاً. . وأنت جناحي الذي أحلق به في الأجزاء السامقة وارتفع به عما ينخر في جسمي ويستبد في فؤادي. . فتعالي معي ولا تثيري شجني لنتسلق هذا التل لعله يقضي بنا إلى العالم الجديد!.

وعندما تسلقنا المرتفع لنبلغ المدينة كنت تستندين إلى ذراعي وقد أيقضت حرارتك في روحي نشوة نائمة، وخيل إلي أن هذا الطريق طويل. . وهو طريق حياتنا. . وأنا أساعدك على السير فتغلبني العزة برجولتي، وأستجيب إلى دواعي نفسي، وأنصت إلى ذلك الإيقاع الروحي. . . إلى صوت قلبينا!. ونزلنا من الجهة الثانية ونحن صامتان. . . وبدت لنا المدينة كبيت مهجور مخيف تسكنه الأفاعي والوحوش!.

أيمكن أن ندخل هذه المدينة؟! إن الناس سيعرفوننا، وسيقولون هذا رجل لا ضمير له، فقد ترك زوجته ليعيش حياة مخجلة. . وتلك فتاة لا حياء لها فقد هربت مع رجل متزوج!. أما نحن فنصمت أمام تلك الأقوال الجائرة. . لأننا لا نملك القوة على مجابهة المجتمع والحرية في التعبير عن عواطفنا. . غير أننا يجب أن نصرخ في وجوه هؤلاء: إن الحياة أرفع من أن تعاش مع الملل، وأسمى من أن تذبل في صمت. . الحياة سر مقدس لا يكون في الأوحال، ولا أن ترهق تحت أعباء من أوضارنا. .

أنا رجل شقي يعرش حياتي الملل، ويستبد بي ضجر عميق. إن عيني ترى دائماً أشباح السآمة، وطيوف الضيق المهيمن على روحي. . فماذا لو حاولت أن أمسح عن روحي الملل، وأنقذ حياتي من دنيا الطيوف والأشباح؟!. . ماذا لو هربت بذلك السر المقدس إلى ملكوت من الصفاء والحرية؟! ماذا لو صرخت في عنصر الفناء صرخة الجريح المستغيث؟!.

غير أن الناس جروا على عادة سخيفة كأنهم شعروا بتفاهة أنفسهم فحاولوا أن يقنعوا أنفسهم بأن الحياة تافهة لا تستحق أية تضحية، ولا تستأهل أي أقدام!.

وأخيراً دخلنا المدينة، فراحت عيون الناس تلتهمنا، وتصعد فينا، كمجرمين هرباً من السجن، وعليهما شارته، وفي سيمائهما بريق الذل، وفي نظراتهما افتقار النفس إلى عزة!.

وقد تحيرنا إلى أين نذهب؟. . ونحن لا نملك الوقود الذي نحرقه قرباناً للمجتمع!. .

لقد حاولنا أن نعيش، وأن نتكئ على العاطفة التي أسرتنا، وأن نجعل الحب نبراساً يضيء لنا الطريق. . لقد حاولنا أن نعيش في أجوائنا السامقة دهراً، وأن ننسى الماضي والناس جميعاً، وأن نتغذى بالعاطفة المضطربة، ونسترشد بالإحساس المشترك، ونقيس الأشياء بمقاييسنا نحن. . تلك المقاييس التي صغناها من رحيق نفوسنا. . غير أن الهوة كانت سحيقة ظلت تصرخ فينا: مجرمون. مجرمون!.

وحاولت أن نتشبث بأسباب الحب. . غير أن حبل الحب قد رث ولم تبق أمامنا إلى حياة مظلمة. . وإذا الحب عملة زائفة في سوق المراوغة والخداع!.

ونحن - دائماً - نركض وراء الحب. ذلك المعبود الوهمي. . حتى يضنينا التعب، وينال منا الجهد. . حتى إذا ظفرنا به في النهاية. . رأيناه قائماً على منطق أعوج، وأدركنا أننا ارتكبنا في سبيله حماقة صارمة.

ولما لم نستطيع الحياة معاً حين بلغ بنا اليأس مبلغاً بعيداً. . تنصلت مني، وتنصلت منك. . وتركنا الحب كأثر من آثار الجريمة!.

ولم نملك حتى كلمات الوداع. فكأننا شعرنا بأن عاطفتنا أصبحت من التفاهة بحيث لا تقيم جملة من جمل الوداع!.

وهكذا انفصلنا. ورجعت إلى نفسي أحاسبها بعد رحلتي الطويلة. . وأخذت أستعرض الماضي بكل ما فيه من أشجان وآلام. . ورأيتني أمام صور واختلطت ألوانها، وتشابكت خطوطها. . وأصبحت لا تعبر إلا عن الخيبة!.

أتذكرين عندما التقينا أول مرة؟!. . لقد خيل إلي في ذلك الحين إنني سأضع حداً لاضطرابي وواقعي المر، وأبني حياة أكثر بهجة وائتلافاً. . وهكذا أنا أتمنى كل يوم أن أحيا حياة جديدة. أن عمري ملئ بالأخطاء حتى لأتمنى دائماً أن تكون لي القوة على نسيان الماضي جميعه، وتغيير مجرى عمري!. . فعندما رأيتك حطمت بكل جبروتي ماضي كله، ونسيت بما أملك من قسوة واقعي جميعه. . فلم أشعر بالدنس لأني متزوج، ولأن لي أولاداً. . ولكنني شعرت بالغبطة تطفح على وجهي، وأنت تتراءين لي أينما قلبت ناظري. . وكنت أتملى طيفك كأنني أرتشف روح السكينة!.

عندما عرفتك أنقلب بيتي إلى جحيم، وصارت امرأتي في عيني شيطاناً مريداً، وران التذمر على روحي، وضج الضجر في كياني.

أنني عندما أسترجع الماضي يهز نفسي ما تضمنه من خيبة جارحة أورثتني عدم الثقة في نفسي، وزرعت في بذور السخط الطائش!.

كنت أقول دائماً أن قلباً من غير حب كهف يرن في أرجائه فراغاً أبله. . ولكن متى ما يعلق الحب في قلباً يصبح كالطائر الجريح يخفق في جناحيه كأنه بنعم بالغبطة وكأنه لا يعرف أن قواه الخائرة ستهبط به من حالق!.

وهكذا أنا. . عندما علق حبك في قلبي لم أكن أشعر إلا بوجودك. . وطفقت أسعى لكي أدبر شيئاً في سبيل سعادتي ولو على حساب الآخرين!. . وكنت أنت تشجعينني وتذكرينني بالإسار الذي يطوق عنقي.

ومرة رجعت إلى بيتي بعد لقاء معك. . وكانت عندي فكرة ظالمة، فقد نويت أن أصرخ في وجه زوجتي: أنني لا أحبك بل أمقتك اشد المقت!!.

صدقيني لم تكن لي رغبة في مثل هذه الحياة، ولا في مثل هذه الزوجة. لقد كنت أتوق إلى حياة أرفع من هذه الحياة المليئة بالمتناقضات. . لقد كنت دائماً أحلم بالحوريات، وأغرق في نشوة حلمي. . لقد كنت دائماً أتصور تصورات زاهية مزهرة. . وابني القصور في مخيلتي. غير أن حلمي لم يتحقق، فقد جاء أبي بجبروته يمسخ حلمي، ويهدم تصوراتي. . فزوجني بامرأة بلهاء لا أحس نحوها بأية عاطفة!.

دخلت بيتي. . العالم الذي أمقته أشد المقت. . لكم هو كريه إلى نفسي ثقيل على قلبي مليء بالأشباح!!.

وكنت أنت يا من تصورتك حورية من حوريات أحلامي تزيدين كراهيتي لبيتي، ونفوري منه، وسخطي عليه. . وكنت أنا الهائم الذي لا يستقر على قرار. أمنيك، وابعث في نفسي الحرارة والقوة لكي أهم حياة أسرتي الآمنة. في سبيلك أنت يا من تركتني وحيداً منبوذاً في نهاية الأمر!

كان دخان الجريمة يملأ صدري بعد أن عرف الناس حبنا، وأصبحت حياتي في بيتي لا تطاق!.

وجئت زوجتي مرة فرأيت المنكودة تبكي على الحب الذي لم يخلق، ورأيتها تصرخ معولة:

- طلقني. . يا ظالم. يا حقود أنني لأن أتحمل كلام الناس!.

وفي تلك اللحظة وقف خيالك كالشيطان يدبر لي أمراً. . فقلت تلك الكلمة القاسية وخيل إلي أنها ستصنع لي جناحين لأطير بهما إلى عالمي السامي. . وخيل إلي كذلك أنها الكلمة السحرية التي ستنقلني إلى دنيا الحرية والأحلام!

وخرجت من البيت إلى غير رجعة. . وهربت من الجحيم إليك!!. وكان لقائنا في عشنا الأول. . على شاطئ النهر. . وقد ابتدرتني قائلة:

- أهذا أنت؟!.

- نعم!. . أن الوحيد الذي قطع كل صلة له بالعالم

وكانت آمالنا كباراً في أن نحيى حياةً جديدة. . ولكننا لم نستطع. . وحاولنا أن ننسى الماضي ومرارته ولكن الماضي ظل يلاحقنا وينغص علينا حياتنا.

وبعد رحلة طويلة مضنية في عالم الأوهام انفصلت عني، وانفصلت عنك، إذا أنا وحدي أهيم في عالم غريب عني. . فقير إلى الرحمة والحنان الطاهر فقيراً، إلى الأمن والطمأنينة الجميلة، فقيراً إلى الراحة واستقرار الضمير!.

ولم تكن لي وجهة أتجه إليها، ما دمت قد قطعت كل صلة لي بالعالم.

يا ويحي!. . أهذا الحطام يستطيع أن ينهض بي من الهوة التي أتردى بها؟!.

يا ويحي!. أتلك الخطيئة تمحوها كفارة من حيرتي وعذابي؟!.

وأخيراً. دخلت مدينتي. . واتجهت إلى بيتي الذي هدمته بيدي لأشهد حطام حياتي الماضية، ورأيت البيت الذي يخيم عليه السكون!. زوجتي. . زوجتي. . شريكة حياتي، ضحية جبروتي. . أيتها المرأة المحطمة ها هو الجلاد. . جاء إليك. ولكن من غير سيف. . فقد حطمت الحياة سيفه. . لقد جئت إليك أحاول بناء حياتي من جديد. . انظري. . انظري. . ولكنني لم أسمع جواباً. لأن زوجتي تركت بيتها!!. فتسللت من الباب كاللص بعد أن زودت ناظري بمناظر المأساة وجئت إلى الشاطئ. . لا لأنني أحبه. . ولا لأنني مشتاق إليه. . ولكنني لا أملك ملجأً غيره. وها أنذا جالساً وحدي والدجى يرسم أمام ناظري عالماً رهيباً.

(القاهرة)

غائب طعمه فرمان