الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 884/صورة من الريف

مجلة الرسالة/العدد 884/صورة من الريف

بتاريخ: 12 - 06 - 1950


للأستاذ كامل السيد شاهين

الشيخ محمود العلمي من فقهاء قريتنا، يحفظ القرآن الكريم لا تشتبه عليه آية، ولا يؤخذ عليه لحن. ويروى فقه أبي حنيفة، لا يغيب عنه حكم، ولا تلتوي عليه فتوى. لم يختلف بعد الكتاب إلى معهد من معاهد العلم، فكان أستاذ نفسه في النحو، تنخل كتبه ونفضها. أستاذ نفسه في الأدب، وأستاذ نفسه في الكلام والجدل والتفسير والحديث؛ لكنه كان مع ذلك مستصغراً محتقراً، أسلمه إلى هذا الهوان جنايات تمالأت عليه، من الفقر وإرهاف الحس والحدة الرعناء!.

كنت استفتبىء إلى ظل السابعة، وكان هو مشرفاً على الثلاثين. وكانت معرفتي له آنذاك معرفة الحدثان بالشذاذ، فهم مغرمون بمتابعتهم والتصفيق وراءهم والتندر بهم. كنت لا أراه أنا وأترابي حتى نشد وراءه عدواً، فإذا انقلب إلينا راجعاً، تهاربنا تهارب الفيران، ولاذ كل منا بزقاق أو دار أو مسجد. وكان الشيخ محمود أعمى أو شبه أعمى، لا يفتأ يحدث نفسه وكثيراً ما تظهر انفعالاته في رفع يديه إلى صدره تفرك إحداهما الأخرى زهواً وإعجاباً، أو غيظاً وتحرقاً.

فتن الشيخ محمود بسعد زغلول، وكان سعد عنده أرفع من أن يمدح بالشعر المنظوم أو الخطب المرسلة، ولم يكن يليق به إلا سورة على نهج القرآن، تسير بها الركبان، ويتلوها الناس على مر الزمان.

وأصبح أهل القرية ذات يوم، فإذا الشيخ محمود عند باب المسجد جالساً متربعاً وقد تنحنح ثم سعل، ثم بصق عن يمين وشمال، ثم رفع عقيرته يتلو ويرنم هذه السورة الجديدة. (ع. د، إنك لمن المنصورين، إنا شددنا عزمك المتين، وآزرناك بمكرم المبين، واصطفينا لك النحاس الأمين، وباركنا عليك في الآخرين، سلام على سعد في العالمين، أنه من عبادنا المجاهدين.) ولو يتلو ويتمايل، ويؤتي المدحقة والغنة حقها، ويعدل النحاس مرة، ويميله مرة، ويحقق همزة الأمين تارة، ويخفيها تارة؛ ولو رأيته واضعاً يده على صدغه، مدخلاً سبابته في أذنه، وصدره يعلو ويهبط، وعروق رقبته تبرز وتختفي، لهالك هذا الجلال، ولأخذ بمجامع قلبك أخذاً. فلما فرغ من سورته قال: (صدق محمود الحكيم) فتناول الناس بما خف وما ثقل من عصا أو سوط أو حذاء أو حجر، فمن لم يجد فصفعة بكف، أو ركلة بقدم. فمن لم يستطع فبصقة من فم، أو مخطة من أنف. وكان أمره هذا أحدوثة الموسم. ولكن الشيخ محموداً استوحش فلم يعد يأنس لأحد ولم يعد يأنس إليه أحد.

وشببت عن الطوق، وشدوت شيئاً في المعرفة، واتصلت بالشيخ محمود، إذ كان يختلف إلى أبي ليوضح له مشكلاً، أو يستعير منه كتاباً، أو يقرأ عليه مقالاً، فأكبرت الرجل وعرفت له حقه. وجاء يوماً وقد دس صحيفة في كمه، ثم نشرها وقال: أقرأ، فإذا هو مديح للنحاس وللوفد، جاء فيه:

أستنصر الله للنحاس مأوانا ... نصر النبي الذي بالدين آوانا

وأسأل الله تأييداً لصحبته ... من أصبحوا تحت ظل الوفد إخوانا

لو خير الناس يوم الحشر مسكنهم ... لاخترت بيتك يا نحاس ديوانا

فلما بلغت هذا المكان من القصيدة قال: أكفف!، فكففت، ثم قال: أتظن النحاس باشا يعلم أن كلمة (ديوان) منقولة من الفارسية، وأن أصلها (دوان) قلبت الواو الأولى ياء شذوذاً؟ فأردت أن أمكر به، فقلت: إنا لله! إذا لم يعرف هذه فكيف يصح أن يكون رئيس الوفد، وخليفة سعد؟ ففرك يديه، وجال بعينيه، ثم قال: في الحق أنني أحترم النحاس باشا، ولكني أحب عبد الحميد عبد الحق، وفرق بين الاحترام والحب، فبعد الحميد صفى روحي، وإن كنت لم أره ولم يرني، وقد عتبت عليه ببيتين فقلت:

عبد الحميد كفى! فلست بعالم ... ماذا يثور اليوم في وجداني

والله ما هز الفؤاد وشفه ... إلاك - يا عفريت - من إنسان!

قلت: أو أرسلت بهما إليه؟ قال: سأبلغهما له بنفسي وعلى طريقتي. سوف استحضره الليلة قبل نومي، فإذا عن لي في الحلم، أنشدته إياهما، فيصبح وقد نقشا على قلبه نقشاً.

وكان الشيخ قد مال إلى دراسة الإنجليزية، فلقيته على فترة من السنين، فقلت له: ما أحدثت؟ فقال: أحدثت جللاً!، قلت ذلك هو العهد بك والأمل فيك. قال: نعم، وجدت صغارنا يتعبون في حفظ الإنجليزية، فرأيت أن أضمنها أبياتي، حتى تسهل وتهون. قلت: فعلت، فلله أنت!. ثم اتخذنا سبيلنا غلى بائع (جزر) على حمار، فالتفت الشيخ وقال: فما الامتحان (ببقلاوة) كمثل التي عند (يور فذر)! وما يستوي النابغ العبقري ومن كان يا ابني يبيع (الجزر)! قلت: الله أكبر!، هذا هو النبوغ العبقري لو كان يجد من يقدره، فزفر وقال: آه يا كامل:

لو كان خالي الهلالي ... أو طاهة بن حسين

ما (شخلعتني) الليالي ... وشفت ظهر المجن!

وتضاحكنا، وخبط الأرض برجله مرتين، وأصغينا إلى المذياع، فإذا عبد الوهاب يغني:

أما رأيت حبيبي ... في حسنة كالغزال

يطوف بالحب قلبي ... فراشة لا تبالي!

فطرب الشيخ محمود وكان طروباً وأخذ ينشد ويمطط، ويتأوه ويهز عطفه راقصاً، ويعارض في الأصوات كما يعارض بالأبيات ويقول:

بلى رأيت حبيبي=في (تخنة) كالشوال

إن قلت (ولعت) قلبي ... يقول لي: (ونا مالي)!

ومضت أعوام ثلاثة لم ألق فيها وجهه الكريم، وعدت إلى البلد بعدها، فلم يخف للقائي، ولم يستبشر بوجودي، ولم يعبأ بما كنت أخفض له من جانبي، وكأنه زهد فيما كنت أفيضه عليه من ثناء وأتحفه به من إقبال، وأكرمه به من تحية، فسألت عنه حين لم يسأل هو عني، فجاء متثاقلاً بطيئاً، وألقى تحيته في تعاظم وتكلف، وجلس في اعتزاز واستعلاء، وبدرت في عينه حمرة الشر، فلما استوى به المجلس، بدأت الكلام خائفاً أترقب وصحت بالخادم: هات شراب ليمون مشعشعاً بالثلج!، فقال: يا هذا، ما زلت تذهب إلى مصر وتعود، وأنت في ضلالك القديم، لا ينفتق عقلك عن جديد، وأنا هاهنا قابع في عقر (كفر عليم) ومع ذلك أثب كل يوم فأحك بيافوخي السماء. قلت: لا جرم إذا انحرفت فقومني، قال بلى، إذا طلبت ماء بليمون غلا تقل هات شراب الليمون، وإلا كنت ساقطاً تافهاً ركيكاً كهذا الذي يقول:

أكلت (بطاطة) وشربت ماء ... كأني ما شربت ولا أكلت

ثم يزعم أنه شاعر. ولكن قل هات الماء المليمن، وليمن الماء يا فتى!، وإذا خلط الماء بعصير البرتقال فهو مبرتق، والغلام يبرتق الماء. أما سمعتهم يقولون (الرز المفلفل) (والسمك المملح؟) فلماذا ندعهم يشتقون من الفلفل والملح، ولا نشتق نحن من الليمون والبرتقال؟ قلت: أفادك الله، فما زلت راشداً مرشداً. قال: ليس هذا في شيء وإنما الشيء ما أسوقه إليك، فقد هداني النظر الفاحص إلى ضرب من الشعر يفهمه العربي الذي لا يعرف الإنجليزية، والإنجليزي الذي لا يفهم العربية، واستوى لي ذلك وأنا أنظر في ديوان شعراء الجاهلية، قلنا: وكيف كان ذلك؟، قال: نظرت فوجدتني أقرأ البيت فأجد فيه الكلمة والكلمتين لا أعرفهما، ولم يسبق لي الوقوف عليهما، ثم أعيد النظر وأفحص الكلام، أتشمم فحواه، فأهتدي إلى معنى الكلمتين غير راجع إلى القواميس والمعجم. فقلت في نفسي لو جعلنا الكلمة العربية، وإلى جوارها الإنجليزية، فأنشدنا عربياً وإنجليزياً بيتاً على هذا النسق لفهما جميعاً، اسمعوا إلى قول الشاعر:

لها جسم برغوث وساقا بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح

فلو أتى نظمه هكذا: لها (بودي) برغوث (لجز) بعوضة= (وفيس) كوجه (المنكي) بل هو أقبح

لفهم الإنجليزي والعربي جميعاً، قال قائل: بل لضل الإنجليزي والعربي جميعاً، واستغرقنا ضاحكين، فتحسس العكاز وتلمس الباب، وخبط الأرض بقدمه، وانطلق فما نسمع إلا همهمته (حمير، جهال، سفلة). ونظرنا فلم نر أثراً.

وفي هذا العام سعيت إليه، ولم يسع إلي، فقد كان رهين جدثه ومثواه الأخير، ووقفت على قبره أنشد:

لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأيد

نمدهم كل يوم من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد

كامل السيد شاهين

مبعوث الأزهر بالسودان