الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 884/الاجتهاد في التشريع الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 884/الاجتهاد في التشريع الإسلامي

بتاريخ: 12 - 06 - 1950


للأستاذ محمد بك سعيد أحمد

الاجتهاد هو الأصل الثالث للإسلام ولفظ اجتهاد مشتق من جهد ومعناه لغة: جد وتعب.

وقد كان للعقل واستعمال الفكر والتدبر شأن هام في أمور الفقه والدين كما اثبت القرآن أهميتها في كثير من الآيات الكريمة. والقرآن يرد الناس إلى العقل دائماً ويهيب بهم أن يستعملوه في تصريف أمور دينهم ودنياهم في مثل قوله تعالى (أفلا يتدبرون) (أفلا يعقلون) (الهم عقول يفقهون بها) (إن في ذلك لآيات لقوم يتدبرون) وهكذا لقد شبه القرآن هؤلاء الذين لا يستعملون عقولهم بالأنعام وقال عنهم إنهم صم بكم وعمي قال تعالى (ومثل الذين كدروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل 70 - 179 وقال تعالى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمي الذين لا يعقلون) 8 - 22 وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) 25 - 44

وبينما لا يرضى القرآن عن هؤلاء الذين لا يستمعون عقولهم ويصفهم بالوصف الذي ذكر في الآيات السابقة، إذ يمتدح الذين يتفكرون ويتدبرون ويستملون جوهرة العقل الثمينة فيما وضعت له. قال تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار 3 - 189 - 190

ويرشد القرآن إلى أن الله سبحانه وتعالى يلهم الإنسان أصول العلم والمعرفة وبكلفة باستعمال عقله لفهمها وتدبرها ويرشده كذلك إلى ضرورة الاجتهاد في الرأي للوصول إلى أي حكم من الأحكام. قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) 4 - 83 وكلمة (يستنبطون) مشتقة من نبط البئر يعني (حفرها ليخرج منه الماء) واستنباط القاضي معناه إظهار الشيء الخفي، وبعبارة أخرى (الاجتهاد في الأمر) ومثل ذلك استخراج القاضي ومعناه (الحكم بالقياس) وعلى ذلك فهذه الآية تشير إلى مبدأ الاستنباط الذي يجب الأخذ ب والذي لم يخرج عن كونه الاجتهاد الذي نحن بصدده.

ويعترف الحديث الاجتهاد كأصل من أصول الدين عند افتقاد النص على الحكم في الكتاب أو السنة؛ فقد حدث لما أرسل رسول الله (ص) معاذ بن جبل إلى اليمن أن قال له: بم تحكم فيهم؟ فقال بكتاب الله، فقال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسوله. فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي. فقال النبي أصبت يا معاذ) ويدل هذا الحديث على أن النبي (ص) قد أقر مبدأ الاجتهاد، وأن الصحابة كانوا يعرفون عنه ذلك، وان هذا المبدأ كان يطبق عند الحاجة إليه لضرورة في حياة الرسول.

ومن الخطأ أن نعتقد أن الاجتهاد في الرأي إنما ظهر مع ظهور الأئمة الأربعة المعترف بهم في العالم الإسلامي، فالاجتهاد قد ظهر في عهد الرسول إذ كان من العسير الرجوع إليه في كل أمر من الأمور. ثم ازداد ظهوراً وانتشاراً بأتساع الأرض الإسلامية وزيادة عدد المسلمين مع ما لازم ذلك من الاحتياج إلى التوسع في الأحكام الخاصة بأمور دينهم ودنياهم. كما أن الخلفاء وأمراء المؤمنين لم يحتفظوا بالسلطة كلها في أيديهم فقد كانت لهم مجالس للحكم في أمهات المسائل وكانت تؤخذ الآراء وتصدر الأحكام بأغلبية الأصوات ويقرها الخلفاء ويقبلها الرأي العالم الإسلامي وفي ذلك قال السيوطي في كتابة (تاريخ الخلفاء) عن أبي بكر نقلاً عن أبي قاسم اللغوي عن ميمون بن مهران.

كان أبو بكر يرجع إلى كتاب الله في كل مسألة تعرض عليه ويحكم بما جاء به، فإن لم يجد كان يرجع إلى السنة ويحكم بما جاء بها، فإن لم يجد كان يجمع المسلمين ويسألهم عله يجد من بينهم من يذكر أنه سمع رسول الله في مسألة مماثلة فكان كل واحد منهم يقول ما سمعه عن الرسول. ويقول أبو بكر الحمد لله الذي أوجد بيننا من يذكر كلام الرسول فإن لم يجد في السنة جواباً للمسألة كان يجمع علية القوم في مجلس ويستشيرهم فإذا ما اتفقوا على رأي بأغلبية الأصوات أقره وأمر باتباعه.

وواضح أن هذا المجلس لم يكن مجلساً تشريعياً بالمعنى الحديث إلا أنه يحمل معناه وطريقته فقد كان يتخذ قرارات في كل المسائل الهامة، وكان يضع القوانين عند الضرورة، وكان المرجع الأعلى في كل المسائل الدينية والزمنية وظل الحال كذلك في عهد عمر ين الخطاب الذي كان يرجع إلى الصحابة المشهود لهم بالعلم والمعرفة فيمدونه بآرائهم فيما يعرضه عليهم من المسائل فإذا اختلفت آراؤهم في أمر من الأمور اخذ برأي أغلبيته. وإلى جانب هذا المجلس كان يوجد نخبة من العلماء الإجلاء اللامعة آراؤهم أمثال السيدة عائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم من مجتهدي ذلك العصر وكان الخليفة يعتمد على هذه الآراء ويأمر بالعمل بها على شريطة أن لا تكون مخالفة للقرآن أو للسنة. وقد قدر قضاة الشريعة اللاحقون آراء أسلافهم وحكموا بها بما لم يخالف كتاب الله وسنة رسوله.

وقد ظهر في القرن الثاني للهجرة أئمة وضعوا من القوانين ما يلائم حاجات الناس في ذلك الوقت وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود بالبصرة عام 80هـ (699م) وهو من أصل فارسي ويتبع مذهبه كثرة من مسلمي العالم. وكان مركز نشاطه بالكوفة وتوفي عام 150هـ (717م) وكان القرآن رائدة في الأحكام وأساس قياسه. ولم يأخذ من الحديث إلا ما كان مقتنعاً تمام الاقتناع بأنه صحيح وكان ذلك الوقت لم يكن قد بدء العمل في جمع الحديث ونقده وتدوينه، ولم تكن الكوفة بالمركز الثقافي الهام لدراسة الحديث فكان من الطبيعي أن يكون اجتهاد أبي حنيفة قاصراً على قرآن ولم يأخذ من الحديث إلا النذر اليسير. ولما تم جمع الحديث وتدوينه وأصبح في متناول المسلمين أدخل أتباع أبي حنيفة على مذهبه كثيراً من الأحكام المأخوذة من الحديث، وأشهر هؤلاء الإمام محمد والإمام أبو يوسف ولآرائهما المكانة الأولى في المذهب.

وكان أبو حنيفة مستقل الفكر لا يعمل إلا بوحي ضميره. ولقد آثر في أواخر أيامه السجن والجلد على السير في ركاب الحكومة مخافة أن يؤثر ذلك على استقلال فكرة وحرية ضميره - كما أبى أن يلي القضاء وقد جلد أحد عشر يوماً متتابعة في كل يوم عشر جلدات على أن يلين فأبى إلا حرية الفكر - ومذهب أبو حنيفة أول المذاهب المعروفة وأوسعها انتشاراً ويدين به أغلب المسلمين. وإن آراءه وأحكامه يصح أن تكون دعامة لصرح تشريعي متين ينتفع به العالم الإسلامي لو أن المسلمين في مختلف العصور نهجوا نهجه وسلكوا سبيله في الاجتهاد والتشريع. وكان أبو حنيفة أول من أشاد بفضل القياس في الأحكام ووضع للأمة مبدأ الاستحسان والاستصلاح فاستطاع به وضع أحكام جديدة موافقة للعدالة لمواجهة حاجات الناس المتزايدة وبذلك أمكن استبعاد كل حكم بعيد عن العدالة غير ملائم للبيئة والجماعة. وهو أول من أقر الأخذ بالعرف والعادة. وكان في كل ذلك كما قدمنا مستقل الرأي حر الفكر غير متأثر بغيره مما دعا أتباع المذاهب الأخرى حينذاك أن يصفوه هو وتلاميذه بأنهم (أهل الرأي).

وتبعه الإمام مالك بن أنس الذي ولد بالمدينة عام 93 هجرية (713 ميلادية) وعاش ومات بها وسنة 82 سنة وقد أقام نفسه لدراسة الحديث وفق ما كان سارياً بالمدينة وجارياً بين أهلها فكان أساساً لمذهبه وكان الإمام مالك حريصاً أشد الحرص في أحكامه فإذا تشكك في صحة أمر من الأمور قال (لا أدري). وكتابه الموطأ فريد في بابه وهو من أوثق الكتب في الحديث وإن كانت مجموعته صغيرة وقاصرة على الأحاديث المتداولة بين أهل المدينة.

ثم قفاه الإمام الشافعي وهو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ثالث الأئمة ولد بفلسطين عام 150 هجرية (767 ميلادية) وقد قضى أيام شبابه بمكة وعاش أغلب أيامه بمصر وتوفى بها عام 204 هجرية. وكان الإمام الشافعي واحد عصره في علوم القرآن وأجهد نفسه في دراسة السنة وتحمل المشاق متنقلاً بين مختلف البلدان باحثاً وراءها. وكان يحفظ المذهب الحنفي والمذهب المالكي ويختلف المذهب الحنفي عن المذهب الشافعي بأن الأول كان يستند دائماً إلى القرآن ولم يركن إلى الحديث إلا قليلاً؛ والثاني كان جل سنده الحديث والسنة. ويمتاز الشافعي من مالك بأن مجموعة الحديث التي استند إليها كبيرة ومجموعة من نواح متعددة بخلاف مالك الذي اكتفى من الأحاديث بما وجده بالمدينة وحدها.

وتلاه الإمام أحمد بن حنبل وهو آخر الأئمة الأربعة؛ ولد ببغداد عام 164هـ وتوفى بها عام 241هـ وللإمام أحمد دراسات واسعة في علم الحديث كما هو ظاهر من كتابه الشهير (بمسند أحمد بن حنبل) الجامع لثلاثين ألف حديث - وكان جهد الإمام في جمع الحديث أساساً للمجموعة القيمة التي قام بها ولده عبد الله. وقد رتبت الأحاديث في المسند بحسب اسم الصحابي الذي يرجع إليه الحديث لا بحسب الأحاديث نفسها وغير ذلك فإن الأحاديث الواردة فيه لم يراع في جمعها الدقة التي توخاها البخاري ومسلم في صحيحهما. والواقع أن ترتيب الأحاديث بحسب موضوعاتها يكشف للباحث عن مواطن الضعف ويسهل تعرف أوجه النقد. وهذا أمر غير ميسور إذا كانت المواضيع مبعثرة في مختلف صفحات المجموعة المرتبة أحاديثها بحسب ترتيب أسانيدها؛ وهذا ما جرى عليه أحمد في مسنده فكان بذلك غير موثوق به بالنسبة لمجموعات المحدثين الآخرين وظاهر من مجهود أحمد وطريقته أنه جعل كل اهتمامه في جمع الحديث، ونتج عن ذلك أنه أخذ بأحاديث ضعيفة فإذا قارناً أبا حنيفة الذي جعل القرآن رائدة الأول واجتهد في الرأي مستضيئاً بنوره ومستنبطاً أحكامه من آياته بابن حنبل الذي لم يجتهد في الرأي إلا قليلاً، وجدنا أن هناك فتوراً في الاجتهاد الذي هو أصل من أصول الإسلام بين أول الأئمة وأخرهم هذا فضلاً عن أتباع مذهب أبي حنيفة من قضاة الشريعة الإسلامية لم يترسموا خطى أمامهم في الاجتهاد والاستنباط فأقفل بذلك باب الاجتهاد ووجدت حالة جمود في التشريع الإسلامي. وسنتحدث إن شاء الله في مقالنا التالي عن طريق التشريع المختلفة في للاجتهاد.

محمد سعيد أحمد