مجلة الرسالة/العدد 882/رسالة النقد
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 882 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 29 - 05 - 1950 |
بسمارك
تأليف أميل لودوج
ترجمة الأستاذ عادل زعيتر
لا يكاد الشتاء يأزف حتى يشخص إلى القاهرة الأديب العالم الأستاذ عادل زعيتر، ولا يكاد يهبط مصر حتى يتساءل المفكرون والأدباء عما يحمل الأستاذ في وطابه، وكانت رحلة الشتاء هذا العام مباركة، فقد أتحف الأستاذ زعيتر مكتبتنا العربية بكتب خمسة ذات قيمة وفيها نفع جليل، وهي حصيلة عام واحد قضاه في جهد موصول ودأب غير مقطوع؛ إنها (بسمارك) و (الحياة والحب) لأميل لودج، و (السنن النفشية لتطور الأمم) و (روح الجماعات) و (اليهود في تاريخ الحضارات للفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون.
لقد قرأت (بسمارك) وهو سفر ضخم، طبع في مطبعة المعارف، وتبلغ صفحاته 787 صفحة لم أكد أقرأ أولى فصوله حتى رأيتني مسوقاً إلى الانكباب على مطالعته، وإذا حدث أن اضطررت إلى التوقف فما أسرع ما يعاودني الشوق إلى استئناف القراءة. وأشهد أني أسف حين أوفيت على نهاية الكتاب ووددت لو استطالت بي المتعة.
يعرف القارئ أميل لودوج كاتب عالمي شهير، امتاز بأسلوبه الشائق في كتابته سير العظماء، ومن حق القارئ أن يعرف كذلك أن لودوج، حين يعرض سيرة العظيم، يحرص على أن يصل بين حياته الخاصة وحياته العامة وصلاً محكماً، زهو ينقل القارئ إلى صميم بيئة العظيم في غير اصطناع أو تكلف حتى ليحسبن القارئ نفسه صديقا للبطل أو هو من ذوي قرباه، ويكون تجاوب بين القارئ والعظيم، فيحاوره ويبين ما يرتسم على وجهه ويسبر ما ينطبع في ذهنه!
ولقد رأيتني ألمس في الكتاب هواجس بسمارك طفلاً، وأرافقه صغيراً، واجلس على رحلته المدرسية وأزامله رياضياً وأراقبه موظفا، وأرى ما أرى من تعاليه وكبريائه يافعاً، وأحار في تراوح الرجل بين الإلحاد والتقوى، وبين الشك واليقين، ورأيتني أمعن الفكر في التناقض الذي يتجلى في طبيعة بسمارك. . تلك الطبيعة التي لا يرضيها أي مقام. . ثم رأيت بسمارك في اللندتاغ وسمعته خطيباً، تتبعت حيله، وكان يرمضني أن ألحظ في مطلع حياته مناوأته للأحرار، ونزعته البروسية الإقليمية، وكدت أنحاز إلى خصومه لولا ما كان يجذبني إليه من إعجاب بشجاعته وإقدامه، ولولا تلك المتعة التي كنت أظفر بها حين أقرأ رسائله التي اتسمت بالبيان المشرق والقول الساحر ووصفه البليغ تلك المحن النفسية التي كان يعانيها حين يختلف والملك والملكة وولي العهد والشعب والضباط. . ثم قدرته سياسياً بارعاً حين غدا سفيراً لبلاده في بطرسبرج فباريس، وأعجبت أي إعجاب بدوره في قضية شلزويع وهولشتاين وما كان من أمره في حرب النمسا؛ وأكبرته حين قال قولته المشهورة: (أعرف أنني ممقوت ولكن الحظ متقلب تقلب رأي الناس، وأجازف برأسي، وألعب لعبتي وإن أسفرت عن سوقي إلى المشنقة، ولن تبقى بروسية ولا ألمانية كما كانتا ولا بد لهما من سلوك تلك السبيل وصولاً إلى ما يجب أن تكونا عليه، ولا تجد سوى هذه السبيل!).
وجاء نصر الله في سادوا ووثبت الوحدة الألمانية أشواطاً، ورأينا عبقرية بسمارك في حرصه على تجنب ما ينكأ قروح النمسا من الذكريات الجارحة، وأخذه النمسا المغلوبة بالرفق والهوادة، ليحول دون توثيق صلاتها بفرنسة، ذلك لأنه أبصر في الأفق حرباً أخرى سيحمل عليها طوعاً أو كرهاً. . . ورأى التاريخ في أعقاب ذلك من شجاعة بسمارك وصموده لتهديدات المجلس وريب الملك ومعارضة الملكة وأركان القصر ودسائس السفراء ووسوسات المثالين ما دون معه أن هذا العظيم رجل يخضع خياله لواقعيته فيزن كلامه ويهيئ أفعاله، ويؤثر عظائم الأمور على الصور، مستعداً للعمل مع أية أمة وأية دولة إذا ما لاءم هذا هدفه ورأى بسمارك بعد سادوا أن ألمانيا لن تظفر بوحدة أوسع نطاقاً بغير العنف أو بغير خطر مشترك يثير غضب الألمان كلهم، فأعد العدة لحرب السبعين. . . ثم كان الفتح المبين في سيدان وتوج في باريس قيصر بروسيا إمبراطوراً لألمانيا الموحدة في احتفال وصفه لودوج وصفاً أثار فيه الألم لما لقيه بسمارك فيه من جحود سيده. ومن هو بسمارك المجحود المنكور أنه (الرجل الذي يلاعب الدول العظمى في أوروبا ملاعبة الحاوي الماهر) أنه الرجل الذي رأيناه حديدياً في الشؤون الداخلية وامرن الدبلوميين كافة في الصلات الخارجية. وكان لودوج يحلل خلال ذلك نفسية العظيم وآراءه في الكنيسة والبيت والطبيعة والتاريخ وولعه بالغابات والكلاب، ويأخذ القارئ العجب من تنبؤات بسمارك واستنتاجاته حول المستقبل حتى ليظن أنه كان يرى بنور الغيب حين قال عن روسيا: (فالثورة والجمهورية أمران قد يلمان بروسية في أقرب وقت، وفي روسيا أناس كثيرون يعلقون آمالهم على كارثة حربية تصاب بها تخلصاً من النظام القيصري).
والقارئ يخرج من مطالعة الكتاب قانعاً أن ألمانية لو أخذت بآراء بسمارك وسلكت، بعده، سياسته لما أصيبت بما أصيبت به في الحربين العالميتين الكبيرتين. . . ويقنع القارئ كذلك، أن من واجب قادة الحركة القومية، وحملة الفكرة العربية، ودعاة الوحدة العربية أن يقرئوا كتاب بسمارك باني الوحدة الألمانية، ففيه دروس وعبر. وأحب أن أنصف الأستاذ المعرب، فأشيد بالجهد العظيم الذي بذله في نقل هذا السفر الضخم إلى لغة الضاد بلاغة ورواء وفتنة، وأن أنوه باشتقاقاته اللغوية الموفقة وبقدرته على اكتشاف اللفظ الذي يغني عن الجملة، وأن أشير إلى أنه أول من قال دبلمي بدلاً من دبلوماسي أو دبلوماتي، وكلاسي بدلاً من كلاسيكي، والبلطي بدلاً من البلطيكي، فأرجع كل كلمة إلى أصلها واجتنب تكرر النسبة هذا التكرر الذي لا يتنزه عنه كبار الكتاب.
وإذا كان لنا ما نأخذه عليه فهو أغراب في كلمات قليلة في الكتاب لها ما يماثلها في العربية معنى وما يفوقها سلاسة. وبعد فإننا نعتقد ان الأستاذ الجليل عادل زعيتر قد خدم العربية وزود - وحده - مكتبتها بما تنوء بمثله عصبة من الأدباء والفضلاء ذلك لأنه يترجم عن الكتب ما لا تجد لها مثيلات في اللغة العربية، ومالا ينتظر أن يؤلف مثلها كتاب العربية، وفي لغة إن لم تكن في مستواها أعلى من الأصلية فليست دونها في حال. . . فمن حقه إذن أن نهنئه بما أصابه من توفيق عظيم. ومن حقنا أن نتطلع دائماً إلى المزيد من ثمرات جهده الفذ في إعجاب وتقدير.
عربي
تلخيص كتاب النفس
للفيلسوف أبن رشد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لا أنكر أن نشر أثر عربي قديم يحمل من المعنى اللغوي لكلمة النشر ما يحمله البعث بعد الموت من معان وما أحوجنا اليوم إلى الانبعاث من جديد. . . وما أحوج ميراثنا العربي العتيق إلى أن تزاح عنه الأكفان، وينفض غبار السنين من فوقه، فإن العروبة اليوم تقف في ساحة النشور.
وقد كتبت عن هذا الكتاب الجديد للصديق الدكتور الأهواني كتابة باعدتها عن محيط الصداقة، وأدخلتها في دائرة الصدق، خشية أن يضيع شيء منهما على حساب صاحبه. وما أظن في الذي فعلت إخلالا يحق الصداقة، أو إغفالاً لأمر المودة. وما أظن الدكتور الأهواني إلا راضياً بما صنعت، فقد عودنا دائماً أنه يحب سقراط ولكنه يجب الحق أكثر منه.
وفي الكتاب جوانب ما كان يتسع لها مقام محدود في مقال واحد، فإن هذا الكتاب هو في الحق خمسة كتب في كتاب واحد، وما ظنك أيها القارئ الكريم بخمسة مخطوطات في الفلسفة الإسلامية أتيح لها أن ترى النور دفعة واحدة في كتاب واحد؟؟ أليس من حق هذه الكتب علينا - وهي لأربعة من كبار فلاسفة الإسلام - أن نقف معها ونطيل الوقوف ولا نجد في ذلك الوقوف بأساً؟ فإن الشعراء كانوا يقفون على الأربع الأدراس ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يصنعون، ولا بأساً فيما يفعلون. ونحن هنا - أمام هذه المخطوطات العربية الخمسة - نقف على أطلال من الفلسفة الإسلامية أعادها النشر شيئاً جديداً، ورد لها الحياة التي زايلتها حينا من الدهر، ونمر على تلك الديار الخمسة وقد نضر التحقيق شبابها، وأعاد لها رحابها، فنقبل ذا الجدار وذا الجدار، لا حباً في المكان، ولكن شغفاً بالسكان. . . وما السكان هنا! إلا تلك المعاني الفلسفية التي تعبر عن تصور فلاسفة المسلمين للنفس والعقل، وكيف اتصلت العقول بالأجسام.
وأول هذه الرسائل تلخيص كتاب النفس لأبن رشد، وليس التلخيص للدكتور الأهواني ولكنه لأبي الوليد محمد بن رشد نفسه! ومعنى هذا أن وراء هذا الملخص مطولاً، وأن خلف هذا الموجز محيطاً، ويدل عليه قوله. (وهذا كله قد بينته في شرحي لكتاب أر سطو في النفس، فمن أحب أن يقف على حقيقة رأيي في هذه المسألة فعليه بذلك الكتاب). ونبحث نحن عن هذا الكتاب، ونمني النفس أن نجد فيه من البسط للرأي والبيان في الشرح ما تحل به طلاسم التلخيص فإذا الدكتور الأهواني ييئسنا من هذه الغاية ويقطع منها مناط الآمال ويقول (ولم نعثر على هذا الكتاب في العربية). فإذا قام بخاطرك هذا التساؤل الآتي: ولماذا لا نترجم هذا الكتاب المطول في النفس عن اللاتينية؟ وجدت جواب الدكتور الأهواني يرد على هذا التساؤل بقوله: (والرجوع إليه في الترجمة اللاتينية لا يخلو من التضليل، لأن التراجم اللاتينية كثيراً ما ابتعدت عن الأصل ولم تكن أمينة في النقل). وهذه التهمة الخطيرة للتراجم اللاتينية لا أجرؤ على التسليم بها ولا أدعي لنفسي الدفاع عنها، لأنها مما لا يصل إليه جهلي المطبق باللاتينية.
ولست والحمد لله لاتينياً، ولا أمت إلى اللاتين بعرق، فكل ما يجري في دمي عربي صميم. ولكني أكره الاتهام الجزاف لغيري تقية أن أكون أنا نفسي موضعاً للاتها! ولا زلت أذكر أن كثيرا من التراجم العربية للفلسفة اليونانية كان كثير الفساد والقلق والغموض، حتى لقد باعد ذلك بين التراجم العربية وبين أصولها اليونانية، وحتى أصبحت هذه التراجم بعيدة عن الناس غريبة عليهم، وحتى ذكر أحد تلامذة أبن رشد عن أستاذه أنه قال: (استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي. سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطاً طاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل. واني لأرجوا أن تفي به، لما أعمله من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك ألا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطاطليس).
فأبن طفيل يشكو بلسان أمير المؤمنين من قلق التراجم العربية لأر سطو وغموضها، وابن رشد يقر إقراراً ضمنياً بالشكوى بدليل إقدامه على تلخيص ما لخص من كتب المعلم الأول. ولعل شيئاً - قليلاً أو كثيراً - من الاعتداد بالنفس هو الذي حمله هذا المحمل من التلخيص حتى يكون له فضل تقريب الفلسفة من الإفهام بعد أن باعد الغموض بينهما وبين الناس. ولكني أخشى أن أبن رشد كان في التلخيص اكثر غموضاً مما كان غيره في التطويل.! ولعله تنسى قول ابن طفيل له: (يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيداً) وآفة ابن رشد في هذا الغموض إما أن يكون مأتاها من ناحية فهمه أو من ناحية مقدرته على التفهم! وأخشى أن يكون ذلك آفة الفلاسفة جميعاً.
إلا أن الدكتور الأهواني صنع في الحق شيئاً لم يصنعه ابن رشد في التلخيص الغامض! فقد جعل للتلخيص تلخيصاً في المقدمة التفسيرية التي قدم بها بين يدي الكتاب. وهي مقدمة نفيسة وقد زاد في نفاستها أن صديقنا الأهواني استعان فيها بآراء طائفة من كبار المشتغلين بالفلسفة، مثل (جويتيه) و (تيري) و (سلسون) و (والاس) و (بريهيبه) و (دوهيم).
ولعلك تلاحظ أيها القارئ الكريم أعجمية هذه الخفنة من الإعلام التي أخذ عنها الأهواني. فتجزع أن كتاباً في الفلسفة الإسلامية يفيض بهذه الأسماء، وتسأل نفسك: أليس بين هذه الأعلام علم عربي واحد في ميدان هو في الحق حلبة للتراث الفكري عند المسلمين. ولكن الجزع لا يطول بك: لأنك تصادف من مراجع البحث في المقدمة الجليلة للدكتور الأهواني مرجعاً ثميناً باللغة الفرنسية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور. طبع في باريس سنة 1934. وعنوانه مترجماً. (مكان الفارابي في المدرسة الفلسفية الإسلامية).
هذه كلمة حق أخرى في تلخيص كتاب النفس لأبن رشد الذي أخرجه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مع كتب أربعة أخرى تتصل بالنفس والعقل والاتصال والمعرفة. ومن حق كتبنا القديمة أن لا نستكثر عليها كلمة أو كلمتين في مجلة أو مجلتين. أو أن نمن على محققيها بأن نتهم من الصديق عباس خضر بأننا نتبادل الثناء ونتقارض الإهداء، ونتقايض التعريف بآثارنا الأدبية. ولو أطلع (العباس) على كتابي (بين السطور) لرآني محاولاً قدر جهدي أن أنتصف للحق ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم من الأدباء والباحثين، الذين أتشرف بعرض أفكارهم ونقد آثارهم. وكدت لا أذكر هنا صداقة وعداوة، لأن مراد النفوس الكبيرة أكبر من أن نتعادى فيه أو أن ننغص فيه القلوب، بذكر بغيض وحبيب. . .
محمد عبد الغني حسن