الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 882/خواطر جغرافية

مجلة الرسالة/العدد 882/خواطر جغرافية

بتاريخ: 29 - 05 - 1950


للأستاذ محمد محمد علي

إن اعتماد الناس في ممارسة الحرف على ظروف كثيرة. ظاهرة ملحوظة؛ ففي بعض الأقاليم نجد مجال اختيار الحرف محدوداً وفي أقاليم أخرى نجده كبيراً. وفي أغلب مناطق أمريكا الجنوبية حيث يسكن بقايا من الهنود لا يزالون صيادين، ويضيعون وقتهم في تحقيق رغبات بدائية، وهم لا يستغلون كل موارد الثروة في بلادهم. وواضح أن الفرق عظيم بين هذه الحياة البدائية البسيطة والحياة الحديثة في نيويورك مثلاً. وتتميز هذه الحياة بوجود ترابط بين مختلف الحرف، وهذا الترابط ونمو رغبة الإنسان المتزايدة وقدرته على استغلال الموارد الطبيعية.

كان الناس في الأزمنة الغابرة يعيشون في أراضيهم، ويتبادلون مع جيرانهم بما يزيد عن حاجاتهم، أي كان اعتمادهم على الأرض التي يقطنونها. فيمكن القول بوجه عام أن النشاط التجاري ليس بجديد. فالحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والبابلية في العالم القديم، وحضارة الأزت والمابا والانكا في العالم الجديد، أقامت نظماً في التبادل مختلفة. وبانتقال الحضارات من غرب آسيا إلى البحر المتوسط وشمال غرب أوروبا حدثت تغييرات ملحوظة في النظم الاقتصادية. ولقد كان الفينيقيون والإغريق والقرطاجيون والرومان يتاجرون في العطور والأحجار الكريمة ومنتجات الغابات، ووصلوا إلى الشواطئ الغربية والشمالية للبحر الأسود فضلاً عن قيامهم بدور الوسيط بين تجارة الشرق والغرب. فلما كسدت التجارة القديمة في البحر المتوسط جاء الصليبيون في أوائل العصور الوسطى واشتغلوا بالتجارة، ثم قامت جنوه والبندقية وأصبح لهما أهمية تجارية عظمى، وكانت أساطيلهم تمخر عباب كل أجزاء البحر المتوسط. ومع أن سكان أوربا قد عرفوا كثيراً من المنتجات التي كانت مجهولة لديهم من قبل، فإن التجارة لم تكن نشيطة إذا قورنت بما حدث في عصر الاستكشاف، والانقلاب الصناعي. وفي أوائل القرن الخامس عشر واجهت مجموعات المدن التجارية صعوبات متزايدة في الحصول على منتجات الشرق، إذ أن استيلاء الترك على مصر والقلاقل السياسية سبب ركوداً في التجارة. فولى تجار أوربا وجوههم شطر الأطلنطي لعله يؤدي إلى طريق مضمون لتجارة الشرق. وأول من فعل ذلك الأسبان والبرتغال ثم الإنجليز والفرنسيون والهنولنديون. وعلى الرغم من الحروب فقد فاضت خزائن الأوربيين بالذهب والفضة. ثم كانت بذور النهضة الصناعية فترك الصناع اليدويين منازلهم إلى المصانع، وبعد أن كانت الريح والمجاري المائية مصدر للطاقة أصبح الفحم هو المصدر ثم الكهرباء. وقد أدى الانقلاب الصناعي إلى التخصص والتركز، وأدت التغيرات التي صحبته إلى زيادة السكان في العالم من 500 مليون نسمة سنة 1700 إلى أكثر من بليونين في الوقت الحاضر. ولا شك أن أساس الزيادة هو التقدم والارتقاء من جراء التبادل والاحتكاك.

اكتشف الإنسان الموارد الطبيعية واستطاع أن يستغلها؛ ولم تتغير فقط نواحي نشاطه بل إن البيئة الطبيعية اعتراها التغيير؛ فمثلاً تستجيب الحياة النباتية والحيوانية لذبذبات المناخ والاختلافات الجوية. ويمكن للإنسان أن يتغلب على الصعوبات الطبيعية، فهو يجفف البرك ويروي الصحارى ويخصب التربة المجدبة، بل ويستنبت النباتات في البيوت الزجاجية ويشق القنوات ويفتح الممرات ويطير في الهواء!. ولئن كان هذا يكشف عن قدرة الإنسان على تغلبه على البيئة فإن من الضروري أن يكيف نفسه مع ظروفها. فالمناطق المدارية والتندرا لا تزال كما هي بالرغم من كل ما أمكن الإنسان أن يفعل. إذ يستحيل استنبات الموز في مناطق التندرا (الصحارى الجليدية) أو رعى الرنة في الغابة الاستوائية. وإذ يعتبر الإسكيمو نفسه سعيد الحظ إذا حصل على غذاء كاف ومأوى دفئ، فإن ساكن المناطق المدارية يكافح ليحمي نفسه من الوحوش الضارية والحشرات المؤذية والحرارة المرتفعة والرطوبة العظمى.

إن قدرة الإنسان على الاستفادة من الموارد الطبيعية في تغير؛ ففي الأيام الخالية كانت المجاري المائية مورد الغذاء لكنها كانت تعوق حركات السكان، ثم أصبحت طرقاً هامة فمصادر للري والطاقة وهناك مثل حي للدور الذي تلعبه البيئة في الاقتصاد؛ فمنذ أقل من قرن كانت اليابان أمة أبناؤها 30 مليون نسمة. كان معظمهم يكفي نفسه بنفسه. واليوم يقطن اليابان الأصلية أكثر من 75 مليون نسمة بالإضافة إلى ثمانية وعشرين في إمبراطوريتها الاستعمارية. باستثناء منشورياً وما أخذ من الصين (وهذا طبعا كان قبل الحرب العالمية العظمى الثانية) ومع أن البيئة المحلية هي كما كانت منذ قرن فإنها مع تطور التجارة تلعب دوراً خطيراً، لأن اليابان ربطوا اقتصادهم بالبيئة العالمية. وقد استغلوا أنهارهم القصيرة في توليد الكهرباء للصناعات، وهذا مع رخص الأجور وضع أساس النهضة الصناعية. فكان المستورد من الصوف والقطن والمعادن يصنع ويصدر ثانية. كل ذلك جعل من اليابان القوة الوحيدة بالشرق الأقصى.

والجغرافيا الاقتصادية من أهم فروع الجغرافيا، فهي تدرس الحرف المختلفة وتحاول أن تشرح سبب تفوق مناطق خاصة في إنتاج وتصدر مختلف السلع، في حين تتفوق أقاليم أخرى في الاستهلاك والاستيراد. ومن البديهي أن هناك أسبابا طبيعية لنشاط الإنسان في حصوله على حاجياته الرئيسية: الغذاء والكساء والمأوى والوقود. فلن يبحث الصائد عن الدب القطبي في مناطق السفانا المدارية، أو السباع في أقاليم التندرا. ولا تنمو الحبوب في الصحراء المجدبة، إنما يبحث الإنسان عن المياه الضحلة قرب الأرصفة القارية من أجل السمك، وعن حقول الفحم وآبار الزيت وعن الغابات الدفيئة وعن السهول الخصبة المستوية للزراعة. وإذا عرفنا أثر العوامل الطبيعية فلا يمكن أن نتجاهل العوامل البشرية، فالمؤثرات الجنسية والتقاليد الموروثة تؤثر في مختلف نواحي نشاط الإنسان، فالمواهب الفنية للفرنسي، وصبر العامل الصيني، وعادات الفراغ في أمريكا اللاتينية. . هي تؤثر في الزراعة والصناعة والتجارة، ولا يمكن أن تكون أقل أهمية من العوامل الطبيعية.

إذن يمكن القول بوحه عام إن الصلة بين عوامل البيئة الطبيعية والأحوال الاقتصادية من جهة، وبين الحرف المنتجة وتوزيع إنتاجها من جهة أخرى، هذه الصلة هي موضوع دراسة الجغرافيا الاقتصادية. ثم إن الناس اليوم في كل مكان لا يتأثرون ببيئاتهم المحلية فحسب بل يتأثرون أيضاً بالبيئات الأخرى وبالأحوال الاقتصادية في شتى بقاع العالم.

محمد محمد علي