مجلة الرسالة/العدد 882/أستاذ جامعي يتبنى تحريف وراق
→ شعر القرن التاسع عشر بين التجديد والتقليد | مجلة الرسالة - العدد 882 أستاذ جامعي يتبنى تحريف وراق [[مؤلف:|]] |
معركة القزويني في الأزهر ← |
بتاريخ: 29 - 05 - 1950 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان الشيخ فرج الله زكي الكردي طالب علم بالأزهر، وقد بدا له أن يجمع إلى هذا الاشتغال بطبع الكتب الأزهرية ونشرها فابتدع في ذلك بدعة جديدة: أن يجمع في نسخة واحدة عددا من الشروح والحواشي الموضوعة على المتن الأزهري، ليسهل على الأزهريين الإلمام بجميع المماحكات اللفظية في تلك الشروح والحواشي، ويزيدوا في هذا على من سبقهم في عصر المطبعة وانتشار الكتب، وسهولة اقتنائها على طلاب العلم
وقد بدا له في سنة 1317 هـ - 1899 م أن يفعل هذا في متن التلخيص، فجمع في نسخة واحدة عدداً من شروحه وحواشيه، وهو الذي يعرف في البيئة الأزهرية بشروح التلخيص فوضع في صلبها شرح المختصر على متن التلخيص للسعد التفتازاني، ومواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح لأبن يعقوب، وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكي، وهي على هذا الترتيب في الصلب، ثم وضع بالهامش الإيضاح لتلخيص المفتاح، وهو لصاحب متن التلخيص، وقد جعله في أعلى الهامش ووضع حاشية الدسوقي على شرح السعد التفتازاني في أسفله، وقد ميز بين هذه الشروح والحواشي بفواصل أفقية، وعنى رحمه تعالى بتصحيح هذه المجموعة، وبوضع هذه الفواصل في كل صفحة منها، في الطبعة الأولى، واختار لها المطبعة الأميرية ببولاق زيادة في الاعتناء
فلما نفدت هذه الطبعة من هذه المجموعة أعيد طبعها بعد هذا في مطبعة السعادة الموجودة بجوار محافظة القاهرة، ولكن الطبعة الجديدة لم تكن جيدة التصحيح كالطبعة الأولى، فوقع بعض التحريفات فيها ونسى وضع الفواصل الأفقية بين شروحها وحواشيها في بعض صفحاتها، وكان هذا سبباً في التحريف الذي وقع في كتاب الإيضاح، وفيما له من هذه القصة الظريفة التي يتبنى فيها أستاذ جامعي ذلك التحريف، فقد قررت دار العلوم وكلية الآداب وكلية اللغة العربية دراسة كتاب للإيضاح في علم البلاغة، فرأى حضرة محمد صبيح أفه دي أن يقوم بطبعه منفصلاً عن تلك المجموعة، لأن تلك المعاهد تريد دراسته وحده، وتريد أن تبعد طلابها عن شروح التلخيص وحواشيه، ليتخلصوا في دراستهم العالية للبلاغة عن مماحكاتها اللفظية، ويتربى فيهم شيء من الذوق والنقد البلاغي يعلو على هذه المماحكات، وهذا الوراق الفاضل من أشهر المشتغلين بنشر الكتب في مصر لكنه يتساهل أحياناً فيختار لتصحيح ما ينشره من غير ذوي الدراية في التصحيح. فلما قام بطبع كتاب الإيضاح اعتمد مصححه على النسخة الموجودة بأعلى هامش تلك المجموعة في طبعة مطبعة السعادة، فلم يرجع في ذلك إلى نسخة خطية من الايضاج، ولم يرجع إلى الطبعة الأولى لتلك المجموعة، فلما وصل إلى آخر الكلام على وصف المسند إليه من الإيضاح لم يجد فاصلاً أفقياً بين الإيضاح وحاشية الدسوقي، وكان ما تحت الإيضاح من هذه الحاشية في تلك الصفحة تتمة لتعليقة في الصفحة السابقة على شرح السعد فأضافها ذلك المصحح إلى كتاب الإيضاح، مع أن سياقه ينبو عنها ومع أنها تتصل بكلام في شرح السعد، فلا تكون إلا من الحاشية الموضوعة عليه، وقد تمت هذه الطبعة من الإيضاح سنة 1342 هـ - 1923 م، وتناولها الطلاب والمدرسون فأثار هذا التحريف من المشاكل بينهم ما أثار، حتى إني رأيت واحداً منهم يرجع إلى نسخة خطية من الإيضاح في دار الكتب الملكية فلا يجد فيها هذه الزيادة الموجودة في الإيضاح المطبوع، فيضع عليها تعليقاً بخطه مرجحاً فيه أن الزيادة التي في طبعة محمد صبيح أفندي من حاشية الدسوقي.
ولما كانت 1353 هـ - 1935 م قمت بوضع شرح على الإيضاح، وكان بين يدي من نسخة طبعة الكردي الأولى في أعلى هامش مجموعته، وطبعة صبيح أفندي، فلما وصلت إلى التحريف علمت أمره، وحذفته من الإيضاح في شرحي عليه، وتوالي طبعه ثلاث مرات وأنا أحذف منه هذه الزيادة في ذلك الموضع، وقد أعاد صبيح أفندي طبع الإيضاح بعد أن نفدت طبعته الأولى، فاعتمد على نسختي، وحذف منه تلك الزيادة في موضعها، إلى تحريفات كثيرة كانت في طبعته الأولى.
وأخيراً قام بعض مدرسي كلية اللغة العربية في هذا العام بوضع شرح على الإيضاح، فلما وصل إلى ذلك الموضع منه وقع أيضاً في ذلك التحريف، وهنا موضع الطرافة في هذه القصة، لأن صاحب هذا التحريف وهو صبيح أفندي رجل وراق، وليس مدرساً في كلية، فلم ير شيئاً في أن يقع في ذلك الخطأ، ولا في أن يرجع عنه بسهولة، فيصححه في طبعته الجديدة، أما مقلده في ذلك التحريف فأستاذ مدرس في كلية، لا في معهد ابتدائي أو ثانوي، فلا يصح أن يسجل على نفسه مثل ذلك الخطأ، ولا يصح أن يرجع عنه بالسهولة التي رجع بها ذلك الوراق، بل يجب أن يتبناه لنفسه، وأن يدافع عنه بما يليق بأستاذ جامعي.
والحقيقة أني استكثرت في أول الأمر مثل هذا على ذلك الأستاذ، واعتراني الشك في خلو نسختي من هذه الزيادة التي تبلغ نحو سبعة أسطر، وكنت قد نسيت بطول الزمن وقوع ذلك في طبعة صبيح أفندي القديمة، فأعدت بحث ذلك من الناحية العلمية، فوجدت سياق حاشية الدسوقي يحتم أنها منها. ولم اكتف بهذا بل أخذت أبحث في نسخة أخرى من شروح التلخيص غير نسختي، فوجدت تلك النسخة التي لم تضع فاصلاً في ذلك الموضع بين الإيضاح وحاشية الدسوقي بمكتبة كلية اللغة العربية. ووجدت بعض من طالعها قام بوضع ذلك الفاصل في موضعه، فعلمت من أين وقع ذلك الأستاذ في ذلك التحريف، ونبهت على ذلك في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - ولكن فاتني أن أرجع أيضاً إلى طبعة صبيح أفندي القديمة، لتنتقل القصة من هذه الطرافة إلى طرافة أعجب منها، ويعلم من بقى من زمننا القديم كيف يكون الإصرار على الخطأ في هذا الزمن الجديد.
فكان نسياني وقوع ذلك التحريف في طبعة صبيح القديمة فرصة سانحة لذلك الأستاذ، ولا يصح أن يترك انتهازها وهو مدرس في كلية، فطلب مني أن أطلع على تلك الزيادة فيها في ذلك الموضع، وإن كان قد جعله في باب التعريف باللام لا في باب الوصف، ولكنه يعرف أن طبعة صبيح ليست حجة في ذلك ولا سيما بعد رجوعه عنه في طبعته الجديدة، فلا بد أن يضيف إلى ذلك نسخة خطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، من غير أن يعين رقمها، وهو ممن يعنى بتعيين أرقام المراجع، لأنه يعرف غفلة الناس في هذا الزمن، وسرعة تصديقهم لكل دعوى حتى صار العلم بيننا غريباً ذليلاً لا يجد من يغار عليه، أو يهمه تحقيق مثل هذا فيه، ولكن كان على الأستاذ أن يعرف مع هذا أنه لا يزال في الناس من لم يصل في الغفلة إلى ذلك الحد. ومن يبعث الشك في نفسه عدم تعيين رقم تلك النسخة الخطية للإيضاح في دار الكتب الملكية، إذا لم يأخذ منه بيقين أنه لا يوجد فيها تلك النسخة.
وقد رجعت فعلاً إلى نسخ الإيضاح الخطية بدار الكتب الملكية، فلم أجد ذلك التحريف الذي أدعى وجوده فيها ذلك الأستاذ، ولا يمكن أن توجد نسخة خطية للإيضاح فيها ذلك التحريف، لأن مصدره معروف وهو طبعة صبيح القديمة، وسبب وقوعه فيها معروف وهو عدم وجود ذلك الفاصل بين الإيضاح وحاشية الدسوقي في نسخة مطبعة السعادة من شروح التلخيص.
ولينظر بعد هذا صديقي الأستاذ عباس خضر في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - فسيجد بين ما فيه من مماحكات لفظية كنت مضطراً إليها كثيراً من مثل تلك القصة الطريفة وسيجد فيه مجالاً لدعاباته العلمية البريئة، كما يجد أن معركة القزويني لا تخلو من فوائد، أقلها حمل بعض الناس على التدقيق في التأليف وتصحيح الكتب وإن كان لها مضار بين الطلاب من جهة ما وقع فيها من الإسفاف، ولو كنت متصلاً بالرسالة في ذلك الوقت لدار فيها ذلك النقد فمضت المعركة القزوينية بريئة بفضل حكمة صاحبها، وضنه بصفحاتها على غير النقد البريء.
عبد المتعال الصعيدي