مجلة الرسالة/العدد 881/لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل
→ الصحافة المصرية | مجلة الرسالة - العدد 881 لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل [[مؤلف:|]] |
من عبث النحاة ← |
بتاريخ: 22 - 05 - 1950 |
للدكتور محمد يوسف موسى
بقية ما نشر في العدد الماضي
وإذا كانت هذه بعض الآثار السيئة للتأثر بالغير إلى درجة التقليد الذليل، وإذا كان التقليد لا بد منه، مع ذلك، في كثير من الأحيان والأحوال، فإن على الأم أو المعلم أو ما كان من ذلك بسبيل واجباً من جهتين:
ا - أن يعني بأن يكون كاملاً في خلقه حتى يكون قدوة طيبة لمن يتأثر به. ومن هنا نرى تشدد الزعماء والمصلحين في أن يجعلوا أنفسهم بمنجاة من المآخذ أو المغامر، وإلا كان عليهم وزر ما يعملون ووزر من يتخذون منهم مثلاً علياً.
ب - أن ينشئ في أنفس من هم بسبيل أتباعه في بعض ما يعمل روح الاستقلال. إنه ليس من الخير في شئ أن يحاول المعلم تنشئة تلميذة على غراره، أو الأب ابنه على شاكلته، بل ذلك شر كله. يستطيع المربي أن يذكر لمن وكل إليه أمره رأيه في هذه المسألة أو تلك، ومذهبه في أمور السياسة أو الاجتماع، وطريقته في الحياة بصفة عامة. ولكن على أن يعنى بتفهيمه بأن ذلك رأي أو مذهب له قد يكون صواباً كما قد يكون خطأ؛ وإذا من الضروري وزنه بتفكيره الخاص، ثم له بعد هذا أن يقبل منه ما يقبل وأن يرفض منه ما يرفض.
بهذين الأمرين يستطيع الأب، والمعلم والمربي بصفة عامة، أن يصل إلى تربية إنسان يقبل ما يقبل من الرأي عن بينة، ويرفض ما يرفض من ذلك عن بينة؛ ولا يأبى أن يقبل بعض ما لدى الآخرين من خير عن اقتناع لا عن تقليد. ولا يكون مادة تنفعل، بل عقلاً يفكر ونفساً لها شخصيتها وإرادتها الخاصة.
ثم، ينتهي المرء من التعليم، ويبدأ التعرف للحياة العملية، يجد نفسه قد صار عضواً في بيئة جديدة، وأصبح عليه أن يجتمع بأناس مختلفين هن وهناك كلما اضطر بسبب عمله للانتقال من بلد إلى آخر. وهو مع هذا كله يستبدل دائماً زملاء بزملاء وأصدقاء بأصدقاء ورئيساً برئيس. هنا، في هذه الفترة وبسبب هذه العوامل، تظهر مسألة الانفصال أو الاستقلال في الفكر تمام الظهور، وتكون عاملاً قوياً في زوال الشخصية أو تكوينه وتقويتها، ومن ثم تكون عاملاً قوياً أيضاً في رجولة الإنسان وسعادته أو ميوعته أو شقائه. والأمر للإنسان، من قبل ومن بعد، في حياته يصوغها كما يشاء، وفي شخصيته يكونها كما يريد.
من الناس من لا يرى أن يعمل عقله ويجهد فكره في المسائل ذوات الطابع الخلافي، أي المسائل التي لا يبين فيها وجه الحق فهي لهذا قابلة للنقاش والأخذ والرد. إن هذا الصنف من الناس يرى حينئذ أن من الأيسر له أن ينحاز لهذا الرأي أو ذاك لأن فلاناً الذي يقول به معروف بسمة العقل وجودة التفكير، أو لأن فلاناً له اسمه الذائع ومركزه المرموق. وهذا نموذج لكثير من الناس، وهو نموذج رديء، كما نرى.
ومن الناس، وهم القليل، من يرى رأيه في هذا الضرب من المسائل، ولا يكتفي برأي غيره إلا إذا رضى به عقله واطمأن له قلبه. وهذا، كما ترى، مثال طيب، لما فيه من أعماق العقل والتفكير، وعدم الاكتفاء بأن يرى الناس له الرأي الذي يرون.
على أن هناك مسائل كثيرة يجب فيها الأتباع. لأنها تقوم على حقائق ثبت منذ طويل صحتها فلا تقبل من يعد جدلاً، وذلك مثل حقائق العلوم المختلفة. ولو راح امرؤ يبرهن بعقله على صحة كل حقيقة من هذه الحقائق، لأتفق عبثاً جهداً كبيراً من وقته ومقداراً ملحوظاً من طاقته العقلية. وليس في هذا شئ من العقل أو الحزم، لأنه لا أحد يفكر في إعادة إنشاء العلوم من جديد
إن الذي نعيبه من الأتباع أو الانفعال برأي الغير، هو ما كان ناشئاً عن كسل عقلي ورغبة في أن يرى المرء بعقل غيره، وما كان في المسائل القابلة للنقاش وأوجه الرأي المختلفة. ومن ذلك مثلاً مشكلة اختلاط الفتى والفتاة في مرحلة التعليم العالي، ومشكلة إعطاء المرأة حق الانتخاب، ومشكلة حل أو حرمة التعامل مع البنوك للحاجة الماسة لذلك مع تعامل البنوك بالربا.
في هذه المسائل، وأمثالها كثير، وهي فيما بينها تتفاضل أهمية وخطراً، يكون القادر على تكوين رأي خاص فيها بتفكيره الخاص، ثم لا يفعل ويكتفي بالتأثر برأي الغير وتقليده، قد آثر الكسل العقلي، ورضي أن يكونإممةتابعاً لهذا اليوم ولذلك غداً، وما ذلك من الرجولة في شيء.
وهناك بعد هذا كله ضرب آخر من الانفعال أسوء عاقبة وأشد أثراً، تعنى به انفعال الأمة بأمة أخرى في كثير من مقومات حياتها وإلهام من أمورها. وقد افرد ابن خلدون هذه الناحية بفصل من مقدمته، هذه المقدمة التي يجب أن تقرأ مراراً ومراراً بالتفات وفهم عميقين:
لقد ذكر مؤسس علم الاجتماع سببين لهذا الداء يرجع ثانيهما للأول، وكلاهما مرده سوء ظن المغلوب بنفسه، وحسن ظنه بالغالب في كل أموره.
وهذا الذي يراه فيلسوف علم الاجتماع صحيح في جملته وتفصيله، صحيح اليوم كما كان صحيحاً في الماضي. على أني أبادر فأقول بأن الغرب قد أخذ عنا الكثير في العصور الوسطى من الفلسفة والعلوم، فلا تثريب علينا أن نأخذ عن أمة أخرى بعض مظاهر حضارتها. ولكن العيب كل العيب أن تفني شخصية الأمة، أو تكاد، في أمة أخرى بما تقلدها في أمور وأوضاع هامة خطيرة وبما تطرح من مقوماتها الأصلية في سبيل ما تصطنع من ذلك عن الأمم الأخرى. وكل ذلك لا لشيء إلا لأنها تحس ضعفها وقوة تلك الأمم فتعتقد فيهم كمال الجنس والتقاليد، متناسية أن الله يداول في الأيام بين الناس، وأن من الممكن الأخذ عن الغير دون الفناء فيه.
إن أول مقوم للأمة من الأمم دينها، وديننا وهو الإسلام هو كما تعرف عقيدة وشريعة، وقد أشتمل على ما يمكن أن تحتاج إليه دولة من نظم وتشاريع. وقد نسي أولو الأمر فينا هذه الحقيقة البديهية فراحوا منذ زمن بعيد يلتمسون لدى الغرب كثيراً من نظمه وتشاريعه؛ مع أن كثيراً من هذه النظم والتشريعات ثبت إفلاسه، ومع أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عما إذا كان الإسلام يحتوي خيراً منها أم لا.
إن هذا الصنيع، أي الأخذ عن الغرب وأتباعه في كثير من الأمر لم يقف في حدود ما هو ضروري مثل الصناعات والأمور الفنية، ولكن تعدى إلى العادات والتقاليد التي ترجع في أسسها إلى الدين، كما تعدى إلى الشرائع والقانون كما أشرنا إليه من قبل.
حقاً، لقد فشا عندنا منذ زمن بعيد عادات وتقاليد ليست في شيء من الإسلام أو من تقاليدنا المستمدة من التاريخ، وهي آخذة في الانتشار والذيوع من طبقة إلى أخرى، وكل هذا ليس من شأنه إلا أن يحط منا كأمة لها دينها وتاريخها وتقاليدها الخاصة بها. ولست أراني في حاجة إلى بيان هذه التقاليد الأجنبية والضارة التي استشرت فينا، ويكفي الإشارة إلى الحفلات الراقصة، والخمر تقدم في كثير من المناسبات في أوساط إسلامية معروفة.
وفي خارج مصر نجد الأمر يزيد شناعة وخطراً، نجد التشبه بالغرب إلى حد الأنمياع فيه يكاد يكون التقليد لوحيد لممثلينا هناك، وذلك أمر تحققناه بأنفسنا في تلك البلاد. حقاً أن أكثر ممثلي مصر بأوربا لا يكاد يشعر الواحد منهم بأنه يمثل أمة إسلامية شرقية لها تقاليدها الطيبة التي يجب أن تحرص عليها. كما تحرص كلأمة أخرى على الطيب من تقاليدها، والتي بدونها لا تكون لها شخصية أو تكون شخصيتها مذبذبة لا لون لها، وليس بهذا نستوجب احترام الأمم الأخرى التي نعيش فيها ممثلين لمصر الشرقية الإسلامية!
هذا، وإذا كان لا بد لكل حديث من نهاية، ولكل بحث من غاية، فإني احب أن أجمل هذه الغاية في كلمات:
ا - لو لم يكن من غرائز الإنسان أو من طبيعته التأثر بالغير وتقليده، لكان عسيراً كل العسر إن لم تقل لكان متعذراً في كثير من الحالات، أن يصل الإنسان وهو يجتاز مراحل حياته واحدة بعد أخرى إلى كثير من المعارف وإتقان من الأعمال. ولولا هذه الغريزة الطبيعية، أو الظاهرة الاجتماعية، لعز على المربي أن يبلغ بطفله أو تلميذه إلى ما يريد له من كمال.
ب - ولكن ينبغي أن نحذر في الإفادة من هذه الغريزة فلا نسرف في الانفعال بالغير والتأثر به إلى حد تقليده بلا تفكير أو اقتناع. ذلك إثمه أكبر من نفعه، وحسبنا أنه ينتهي بمحو شخصية المقلد وصيرورته تابعاً لغيره في تفكيره وطرائق حياته الاجتماعية على الأقل.
وليس لأحد منا أن يتعلل بما يذكره بعض الأخلاقيين من أن سعادة الإنسان هي أن يحسن التكيف بما تكون عليه بيئته، أي في القدرة على هذا التكيف وإحسانه في غير عتت أو مشقة. إنه لا ينبغي لنا هذا، لأنه فرق كبير بين رعاية الوسط الاجتماعي فيما هو خير، وبين الانفعال بهذا الوسط خير وشره كما هو ملحوظ في حالات كثيرة هذه الأيام. إن هناك من الناس من يغير الواحد منهم رأيه في هذه المسألة أو تلك، بعدد ما يغير من جلساته مع غيره.
ح - وأخيراً، من الواجب، ونحن في نهضة وطنية واجتماعية، ألا يكون الواحد منا مادة تنفعل بغيره وبما يكون من ذلك الغير من أحداث. بل يجب أن يكون في نفسه قوة تفعل، قوة لها أثرها الطيب المحمود هنا وهناك.
أن عامة الغربيين يرون فينا، معشر الشرقيين جماعات لم يعد لها كيان مستقل ولا شخصية خاصة، ما دام الكل يرى في الغرب مثله الأعلى، يقلده في كثير من أوضاع الاجتماع وطرائق الحياة. أما الخاصة من رجال الغرب، أعني العلماء الذين لهم بصر يتجاوز ظواهر الأمور إلى حقائقها واللباب منها، فيرون أن هذا الأتباع من الشرق للغرب أتباع ظاهري، ولكن للشرق وراء هذا روحه الخاصة به، هذه الروح التي لا تلبث أن تظهر من جديد ناصعة قوية يفيد منها الشرق والغرب معاً، بعد أن صار هذا الأخير - وقد أنهكت قواه الحضارة المادية بحاجة إلى بعث جديد يقوم على روح ومبادئ جديدة يلتمسها لدى الشرق والإسلام.
فلنبين إذا لعامة الغربيين خطأ ما يعتقدون من أن الشرق أضاع روحه وشخصيته في إتباع الغرب وتقليده، ولنحقق للخاصة منهم، وهم العلماء الذين لهم بصر نافذ وبصيرة ألمعية، ما يلتمسونه لدينا من خصائص في الطابع والشخصية والروح! خصائص لا قوام للشرق بدونها، ولا غنى للغرب عن الإفادة منها.
بهذا، يعود من الممكن لنا أن نحتفظ بما لنا من كيان خاص، وأن نساعد العالم على اجتياز الأزمة أو المحنة التي تطحنه طحنا هذه الأيام. وبهذا نكون قد ساهمنا في تقدم العالم وسعادته، والله ولي التوفيق
محمد يوسف موسى