مجلة الرسالة/العدد 881/السيدة نفيسة مقامها ومنزلتها
→ قلوب من حجر | مجلة الرسالة - العدد 881 السيدة نفيسة مقامها ومنزلتها [[مؤلف:|]] |
الصحافة المصرية ← |
بتاريخ: 22 - 05 - 1950 |
للأستاذ أحمد رمزي بك
(يا أبا إسحاق لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة
تنزل عليهم ببركتها)
رؤيا المؤتمن
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحى مقفر العرصات
قفا نسأل الدار التي خف أهلها ... متى عهدها بالصوم والصلوات
للحديث عن السيدة نفيسة رضي الله عنها (روعة خاصة) إذ هي ذات المنزلة الرفيعة العالية في قلوب أهل مصر، تهتز القلوب حين تنطق باسمها، وتعلو نفسك ومشاعرك حين تؤم مشهدها وتزور مقامها وتصلي بمسجدها.
ولقد شاءت إرادة الله، وما خطه تعالى في سجل رحمته وعنايته لمصر وأهلها، أن تكون هذه البقعة التي ترقد فيها السيدة الطاهرة، بقعة مباركة تفيض على الوجدان آيات الشعور والإخلاص، ومظاهر الخضوع والشمول.
فأنت إذا دخلت مسجدها ورأيت مقصورتها استقبلتك الآية الكريمة:
(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)
وقليل من الناس مهما قست قلوبهم وتحجرت مشاعرهم من يتمالك عبراته أمام قدسية هذا المشهد، شعر بذلك كل من زارها في الأعصر القديمة، وكل من دخل مقامها في العصور الحديثة، وتحدث كل واحد منهم بما شعر به من النفحات التي تغمر نفس الإنسان، فتجعلها تتذوق حلاوة الإيمان، وتلمس عن قرب عظمة تراث ومجد هذه العزة النبوية، التي جاءت أرض مصر في مستهل عصور الهجرة، فاتخذت بلادنا لها مقاماً ومنزلاً، فشرفتها ورفعت من قدرها وأعلت مقامها فوق كل مقام، ومن وقتها عرفت مصر بأنها من منازل آل البيت الكرام صلاة الله وسلامه ورضوانه عليهم.
وأنا ممن يعرف اختلاف المفسرين في تفسير الآية الكريمة التي أشرت إليها وفي تأويلها، وهم قد يذهبون في آرائهم شيعاً ومذاهب، ولكنني أحملها على ظاهرها وأخذها على النمط الذي أختاره وأرتاح إليه لتستقر الآية في نفسي. فأقول إنني حينما أقف أمام المقام وأرتل الآية الكريمة، أؤدي واجب المودة لقربى هذا النبي العربي الكريم، معجزة الأجيال السابقة واللاحقة والقادمة، الذي بفضله ذقت حلاوة الإيمان وبهديه اهتديت وعلى سنته سلكت، فأصبحت في زمرة أتباعه، وأتباع آله وأنصاره وأصحابه أولئك جميعاً الذي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
هانحن أولاء في أوائل القرن الثالث الهجري وقد ختمت المائة الثانية، فإذا في سماء مصر العربية ذات الفتوح، يلوح اسمان كنجمين لامعين يشقان أضواء الهداية على هذهالأرض الطيبة، هما السيدة نفيسة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله. عاشا في مدينة القسطاط العربية، وحضر الإمام مجلس السيدة العظيمة القدر من وراء ستار، فتناولا بالبحث والمدارسة والمناقشة أمور الدين والدنيا.
وكان الشافعي يؤم صفوف الناس في الصلاة بالمسجد العتيق، وكانت تأتي هي في شهر رمضان فتحضر صلاته، وتقف وراء الصفوف تصلي وراء الإمام الذي أصبح مفخرة مصر ومعجزة من معجزات الإسلام في القرن الثاني الهجري بعلمه وفقهه وبيانه.
ومرت الأيام وجاءت سنة 200 هجرية فمات الشافعي، بعد أن ترك في العالم دويا وأضاء في أرض الكنانة شعلة، تسلمها تلاميذه من بعده ثم أتباعه فتلاميذه أتباعه وحملوها إلى يومنا هذا، تشع منها أنوار الهداية لمذهب باق على الأرض، ما بقيت الأرض؛ فهم إذن سدنة وحفظة ركن من أركان هذا التراث الخالد من مصر العربية الإسلامية حتى يرث الله الأرضومن عليها.
انتقل الشافعي لجوار ربه فحزنت مصر بأسرها عليه وسارت جنازته من المسجد العتيق، مسجد سيدنا عمرو بن العاص، فمرت بالمنزل الذي كانت تقيم به السيدة نفيسة، فصلت عليه ثم سارت جنازته إلى المكان الذي دفن فيه، وقالت رضى الله عنها كلمتها المعروفة (رحمة الله! إنه كان يحسن الوضوء).
ومن مظاهر القرن العشرين وعبقرية رجاله، أن تشغل السيدة نفيسة أهل مصر أكثر من أحد عشر قرناً من الزمن، بكرامتها ومنزلتها وعلمها وسؤددها فيكتب الناس عنها الكتب ويزور مشهدها الملوك والسلاطين والأمراء والقواد والعلماء، ومن كانت تهتز الدنيا بعزائمهم وقوتهم وثباتهم، ثم أسمع منذ مدة أن بعض الكتب تعرض إلى تحقيق تاريخي يخلط فيه بين السيدة نفيسة صاحبة المقام العالي، والسيدة نفيسة الألفية التي عاشت في عهد الحملة الفرنسية. أما السيدة نفيسة الأولى المعروفة النسب الثابتة الأصول فكان أبوها الحسن بن زيد، وأمهاأم ولد. وأخوتها ومحمد القاسم وعلي إبراهيم وزيد وعبد الله ويحيى وإسماعيل واسحق وأم كلثوم، وزوجها اسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فهي شريفة حسينية وزوجها شريف حسيني.
وكان لهما ولدان: القاسم وأم كلثوم لم يعقبا ولكن لزوجها إسحاق عقب من غيرها. ذكر المقريزي أن لزوجها عقباً من غيرها عرف في زمانه بمصر بنو الرقى، وبحلب بنو زهرة.
وقد دخلت السيدة نفيسة الديار المصرية مع زوجها المؤتمن، فأقامت بها وكانت ذات مال وجاه، فأخذت تواسي الناس وتشملهم ببرها وخيرها وكانت عابدة زاهدة. ذكر المؤرخون كيف استقبلت عند مقدمها وأكثروا من الكلام على مآثرها وكرامتها وزهدها في الدنيا.
ولما توفاها الله سنة 208 هجرية عزم زوجها أن يدفنها بالمدينة فتقدم أهل مصر وسألوه أن يدفنها عندهم فدفنت بالدار التي كانت تقيم فيها. ومن يومها أعتز أهل مصر بها وبمقامها بعد أن أضاءت أرض مصر في أيام حياتها بأنوار هدايتها وصلاحها.
وإليك بعض ما ذكره القدماء عن السيدة نفيسة ومنزلتها ومقامها ومشهدها.
يقول شمس الدين محمد الزيات بكتاب الكواكب السيارة في ترتيب الريارة بالقرافتين الكبرى والصغرى (هي السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة ابنة الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام حسن السبط (وهناك إجماع على إنها ولدت بمكة ونشأت بالمدينة وكانت لها صحبة بكثير من النساء اللاتي عشن مع الصحابيات أو سمعن عنهن وتلقين العلم عن طريقهن. وكانت السيدة نفيسة ممن قد أشبع قلبها بالعبادة فكانت لا تفارق حرم النبي ﷺ. وقيل إنها حجت ثلاثين حجة أكثرها ماشية على أقدامها من المدينة إلى مكة. فكانت إذا دخلت البيت العتيق تعلقت بأستار الكعبة وأخذت تبكي بكاء شديداً وتقول (الهي متعني برضاك عني، فلا تسبب لي سبباً به عنك تحجبني) وقالت زينب بنت يحيى المتوج (خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت الليل ولا أفطرت بنهار. كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسيره).
ولا شك في أن الأثر الذي تركته السيدة نفيسة من يوم دخلت مصر إلى أن دفنت فيها كان بالغاً وأن أهل مصر تعلقوا منذ القدم بها وبآل البيت ولذلك أحلوا مقامها المقام الذي يتفق مع قدسية هذا البيت وعظمته في تاريخ الإسلام وأصبحت البقعة التي دفنت فيها بقعة يحيطها الناس بمظاهر الاحترام؛ فهي بقعة تحوي مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن، والسيدة نفيسة بنت زيد، وتحي مشاهد الخلفاء العباسيين والسادة المالكية وكثيرين غيرهم مما ذكرهم السخاوي في كتابه صفحة 125 وما جاء في خطط المقريزي جزء 40. . وذكر ابن جبير الرحالة الأندلسي صفحة 15 قال:
(بتنا بالجبانة المعروفة بالقرافة وهي إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد أهل البيت رضوان الله عليهم والصحابة التابعين والعلماء والزهاد الأولياء والأولياء ذات الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. ومشاهد أهل البيت أربع عشر من الرجال وخمس من النساء) انتهى كلام ابن جبير.
وذكر ابن بطوطة في رحلته صفحة 21 ما يأتي:
(ومن المزارات الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليها السلام، وتربة السيدة نفيسة بنت الحسن وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة مشرقة الضياء عليها رباط منثور) انتهى كلام ابن بطوطة.
وذكر ابن دقماق صفحة 120 جزء 4 (أن العمارة كانت متصلة في زمانه بين هذا الجامع والفسطاط والقاهرة، وحدد أماكن العمارة فقال: كانت إلى حدرة ابن قميحة والى الصليبة والى سوق الجمال بالرميلة والى القبة التي سماها بالصفراء) وقال (إن الجامع أو المسجد الذي أنشئ بالمشهد النفيسي - هو الذي لا تزال قبته فوق الضريح قائمة - أنشأه السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي وكان ذلك سنة 714 وتولى الخطابة فيه القاضي علاء الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي زين الدين نصر الله شاهد الخزانة السلطانية. وأول خطبة خطبها فيه كانت في يوم الجمعة 8 صفر سنة 714 وحضر الجمعة بالمسجد الخليفة العباسي أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولداه وابن عمه والكركي ناظر المشهد النفيسي والأمير سيف الدين كراوش شاد العمائر السلطانية وهما اللذان توليا عمارة هذا المسجد وأشرفا على بناء أروقته والفسقية المستجدة - رحم الله الناصر ورجاله وعصره.
إذن فاعلم أن هذه البقعة الخالدة الطاهرة قدسية النفحات بل هي بين الأماكن المباركة من هذه العاصمة الإسلامية الكبرى، والمصر الأكبر قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وماذا أقول عنها، وقد كان أول ما وعيت في حياتي، إنني حملت يوماً إلى مقام السيدة نفيسة فكانت هذه الزيارة أول شيء وعيته، وأول ما علق بذاكرتي من أمور الدنيا في أيام الطفولة التي تبدأ بالخروج من المهد، حينما كنت لا أفرق بين اللون واللون ولا أعرف مظاهر الأشياء، فكان أن بدأت الذاكرة تحفظ ما أنطبع عليها، فإذا زيارة هذه البقعة الطاهرة والعودة منها إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه هي أول ما وعيت في الدنيا.
ولذلك نشأت وبين هذه البقعة الخالدة ونفسي صلة روحية لا تنقطع ما دمت حياً، فقد قطعت العالم شرقاً ومغرباً واتخذت مقامي ببلاد الغرب أكثر من ربع قرن، وتعرفت إلى مذاهب الملاحدة والفلاسفة وعشت بين أنصار الفلسفة المادية وأتباع المذهب الشيوعي - ولكنني إذا جئت مصر زائراً ولو لمدة أسبوع واحد أركب خصيصاً لهذا المقام وأزوره خاشعاً لأحيي صاحبته وأقرأ الفاتحة لها، وأتقرب إلى الرسول بتقربي إليها، وأتوجه إلى الله تعالى أحمده وأشكره أن منحني الصحة والعافية والتوفيق وأعادني إلى مسقط رأسي لأقف هذا الموقف.
ولما أقمت بعاصمة الديار المصرية، وبعد استقراري بها جعلت من واجبي التيمن بالزيارة كل شهر مرة وأحياناً أراني مدفوعاً بقوة لا تغالب تدعوني إلى زيارة هذه البقعة الطاهرة وأن أتوجه فيها بالدعاء ليقيني بأن الدعاء فيها مستجاب وأن المنازل لله جميعاً ولكن هذه البقعة من المنازل التي أراد الله تكريمها.
وقد تطول بي الغربة بالشرق والغرب فأناجي بلادي وتتمثل لي مصر بأجمل مظاهرها وأهل مصر وشعبها وتاريخها في هذا المشهد النفيسي وهذه البقعة المباركة! وأود لو أتيت طائراً إليها فأحيي الزائرين والواقفين، وكل سائل ومحروم وكل ملح في السؤال ممن تقابلهم على بابها. إنهم جميعاً قطعة من هذه البقعة الطاهرة، وهذه البقعة قطعة من صميم مصر الخالدة. فلا تؤاخذني أيها القارئ ولا تحرجني في موقفي وثباتي ولا تحاسبني على خطواتي وإشاراتي، فما أنا إلا بشر تشبع نفسه حوادث التاريخ وآثار القرون الماضية وأرى الجمال في كل شئ، وأراه ممثلاً في هذه البقعة بالذات. ولست أبالي بما أوصلك إليه عقلك وفكرك وعلمك من أشياء فأنت تقطع نفسك وتتجه الاتجاه الذي يرضيك ويرضي انقطاعك عن ماضيك وتنكره لحاضرك، أما أنا فأعرف نفسي وأعرف الخواطر التي تجول في قلبي فأعبر عنها بهذا الكلام وأضع كل ذلك تحية لصاحبة هذا المقام التي قال عنها القدماء نفيسة العلم السيدة الطاهرة العالية القدر الرئيسة. . .
هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا ... وهم خير قادات وخير حماة
ملامك في أهل النبي فإنهم ... احباي ما عاشوا واهل ثقاتي
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية