مجلة الرسالة/العدد 880/البريد الأدبي
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 880 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1950 |
تعقيب
كتب صاحب العزة أحمد رمزي بك مقالاً في العدد الماضي من الرسالة بعنوان (محاضرة عن الإسلام) وهي المحاضرة التي كتبت عنها قليلا في كتاب (حياتي)
وقد فصلها الأستاذ تفصيلاً دقيقاً وافياً وصحح لي أسم المدرسة الإسلامية التي ألقيت فيها محاضرتي الأولى وعتب على أني لم أذكر ما قامت به القنصلية المصرية في القدس من مجهود مشكور.
وإني أبادر - أولاً - بشكره على تنبيهي إلى خطئي، وثانياً قبول عتبه وإعلاني شكره على ما بذل من مجهود لإنجاح هذه المحاضرة.
وإني أؤكد لحضرته أنه لم يحملني على هذا التقصير إلا النسيان وبعد العهد واعتمادي على ما بقي من الحادث في ذاكرتي. بينما اعتمد حضرته - على ما يظهر - على مذكرات يومية دونها، وأخيراً أقدم لحضرته شكري ومعذرتي وسلامي.
أحمد أمين
معركة القزويني في الأزهر:
لا أوافق صديقي الأستاذ عباس خضر على تصوير ما دار بيني وبين الأستاذ الشيخ محمد خفاجي بأنه معركة حول كتاب الإيضاح يفضها أحد أمرين: أن تلغى دراسته من كلية اللغة، فيرفع اللحاف بين المتنازعين عليه، أو يرجع به إلى أحد أحفاد صاحبه بقزوين لأنه أحق به منهما. فالمعركة ليست بهذا التصوير، وإنما هي معركة بين عمل متواضع في الإصلاح قمت به في شرح الإيضاح، وعمل لا يؤمن بحاجة الأزهر إلى إصلاح في علوم البلاغة أو غيرها، ويقول صاحبه إنه جد فخور بحشوه بمماحكات الحواشي اللفظية، ويصفها بأنها بحوث علمية خصبة في رأي كل دارس للبلاغة وباحث فيها، وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة.
وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل لإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجري غالباً في طريقهما. وإن كان متأثراً بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات، وقد قصدت من هذا الشرح أن أمهد الطريق لعمل يكون أتم في الإصلاح، ولا يرجع بنا القهقري إلى مماحكات الحواشي، وهذا كله قليل من كثير ذكرته في كتابي - دراسة كتاب في البلاغة - وسأترك لصديقي الأستاذ عباس نسخة منه في إدارة الرسالة الغراء، وله شكري على قبول هذا الإهداء.
عبد المتعال الصعيدي
وفاة الأستاذ أمانويل مونييه
أصيب الأدب الفرنسي ولا نبالغ إن قلنا الأدب العالمي بوفاة أحد كبار الكتاب العصريين بفرنسا وواضع مذهب الأستاذ أمانويل مونييه
ولد هذا الفكر المشرق الوضاح بمدينة جرونويل سنة 1605 وما عتم أن عين مدرساً للفلسفة وظهرت على حداثة سنه شخصيته الحرة القومية الجذابة.
وقد تمكنت هذه الشخصية القوية من جمع نخبة من الكتاب حولها فأبرزت مجلة (الفكر) الذائعة الصيت
وذهب مونييه يذيع في مجلته أفكاره وآراءه في مشاكل العصر الحاضر واضعاً أسس مذهبه العامة الذي أسماه (بمذهب الذاتية) وإن لم يكن راضياً على هذا اللفظ مضطراً لاتخاذه تعبيراً أقرب من كل عبارة أخرى للدلالة على جوهر مذهبه الفلسفي العام.
وهذا المذهب الفلسفي الجديد الذي أثر وما زال يؤثر تأثيراً بعيداً في اتجاه الشباب المثقف في فرنسا وخارج فرنسا يعتمد في جوهره على اعتبار الإنسان في ذاته وشخصيته أولاً وقبل كل اعتبار آخر؛ فالإنسان في نظر مونييه محور كل شيء في هذه الحياة؛ وهذا الإنسان في نظره ذات شخصية قبل أن يكون فرداً وقبل أن يكون جزءاً من أجزاء المجتمع
فمذهب مونييه غير مذهب ومذهبه أيضاً غير مذهب الشيوعية المطلقة التي تعتبر - في نظره - الإنسان جزءاً من المجتمع لا شخصية لها مميزاتها تعيش في المجتمع.
وعلى هذه القاعدة يخالف مونييه ويقاوم الرأسمالية نتيجة الفردية المبالغة ويخالف أيضاً مذهب ماركس. وعلى هذه القاعدة قضى مونييه جل حياته في تفكير عميق واجتهاد متصل محاولاً أن يضع حسب تعبيره أسس مذهب خاص به يوفق بين وجود الإنسان وجوداً شخصياً وحياة نفس هذا الإنسان في مجتمع لا بد له من الامتثال لسننه وقوانينه.
وقد وفق مونييه إلى حد بعيد إذا ما اعتبرنا أنه أولاً نجح في وضع الأصول الكبرى لمذهبه، وثانياً في نشر مذهبه وتكوين أنصار له من الكتاب في فرنسا وخارج فرنسا قادرين على المسير بمذهبه في طريق الاكتمال بفضل مجلة (الفكر).
رسالة إلى ولدي
ها أنت ذا تبلغ العام الأول يا بني: عاماً ككل الأعوام التي تمر من حياة الناس مليئة بالاصطخاب والتنافس والتنازع، طافحة بالشهوات والنزعات والرغبات.
عاماً من أعوام هذا العصر الحاضر المشبع بأوضار المادة والمفعم بسموم النزاع: ومنذ اللحظة الأولى التي تفتحت فيها عيناك على النور ذهل البيت الآمن الوادع: وتغيرت في الحال منه وجهة الطريق، فأنقلب النظام وتغير الجو وتبدلت الغايات.
كان يشق طريقه يا بني في عتمة الأزل لا يهتدي إلى غايته المتوخاة: ويدرج في دروب الحياة لا يرى الساحل الأمان، وينتظم في صفوف القافلة لا يحس نهاية الغاية، حتى أتيته يا بني وولدت فيه وانتظمت في أسرته فإذا به غناء وشعر وطفولة، وإذا به رسالة وجهاد وأبوة
لقد كشفت للبيت السبيل يا بني فهديته إلى غايته في لحظة، وأنرت للبيت الطريق فوجهته في سهولة، وبعثت فيه الحياة والحماس والفتوة فأندفع كالسهم المراش يمضي ويمضي نفاذاً لا يلوى على شيء.
لقد رطبت طفولتك يا ولداه جو البيت فلان بعد قوة، وتلطف بعد تحجر، واستندي بعد يبس: وهذه الطفولة السحرية العجيبة غيرت وجه التاريخ من دون عناء، وبدلت لون الكون من غير تعب، واستبدلت بقلوب الآباء والأمهات قلوباً أخرى تنبض بالحب بعدما كانت تنبض بالدم؛ وتجيش بالعطف بعدما كانت تجيش بالرضى والغضب، وتقبل على الوجود بالتضحية والفداء والإيثار بعدما كانت تقبل عليه ملأى بالحرص مغمورة بالأثر والمنفعة وحب الذات؟!
لقد بدلت يا بني لون هذا العام الذي مر من حياتك وحياتي فهو عام كغيره محشو بالأيام كما تحشى سنابل القمح بحباتها، ولكن لون أيامه تغير وشكل لياليه تبدل فلم يعد هذا الصخب الذي مر ذكره يصل إلى مسامع البيت، ولم تعد هذه المادية تكبله بسلاسلها القاسية وتضرب حول فنائه ألف نطاق
فقد طهرته طفولتك يا ولداء وسكبت عليه من إكسيرها بلسماً يعطى منه السقيم فيبرأ ويداوي فيه العليل فيشفى
لقد أوضحت لي يا بني كثيراً من معاني الحياة، وكشفت لي جوانب من أسرارها فاستوضحتها بعد إبهام، وتبينتها بعد لبس، فلم تعد الوطنية معاني معقدة الفهم ضعيفة المدلول كما كانت في فجر الحياة، ولم تعد الحياة ملهاة قليلة الشأن بسيطة القيمة كما كانت في مطلع الشباب، ولم يعد المستقبل غموضاً وضرباً من الخيال والوهم كما كان في أبان الطفولة.
لقد علمتني يا بني كثيراً وألقيت علي دروساً ذات قيمة كما أنك هذبت نفسي وقلبي وصقلتهما صقلاً جميلاً مصقولاً!! ترتسم عليهما الصور بسهولة. ولولاك يا بني لبقي العقل ضالاً جاهلاً قدسية الأسرار العليا؛ ولبقى القلب حجراً قاسياً ما أكثر ما يحتاج إلى تهذيب.
لقد أصبح قلبي وهو مهدك خزاناً يعج بأسمى العواطف، وبركاناً يجيش بأقدس النزعات. لقد طهرته من الرجس وأزلت عن جنباته أدران الصدأ. لقد علمته أنشودة الأبوة الرقيقة الحواشي البديعة النغمات فغداً صباحه شعراً وأمسى مساؤه موسيقى.
ولو أدركت يا بني كم في نظراتك الطاهرة وحركاتك البارعة من سمو إلهام لقلبي وارتياح لخاطري ونشوة لنفسي لنطقت قبل أوان، ولعقلت قبل رشد ولأحسست قبل إحساس
لو أدركت يا بني وعلمت ما يخامر الآباء من حب وعطف وحنان حيال أطفالهم الصغار لتمنيت أول ما تتمنى ولطلبت أول ما تطلب وعياً ومعرفة ورشداً لتذوق معنى السعادة التي يسعى إلى تذوقها الضالون ويهيم في طلابها المدجلون
إن طفولتك يا بني شعر، بل هي أسمى من الشعر إنها عروس من عرائس الخيال للشاعرين يندفعون في الدنو منها محاولين الوصف، ويحترقون في الاقتراب منها معالجين القريض، فإذا بهم يتخبطون ويحترقون كما تحترق الفراشات المتواثبة حول النور!
لست أدري يا بني لم تتزاحم الصور والمعاني أمام خاطري حينما أنظر إليك، ولست أدري لم هذا النهم كله في حبك، ذلك أن فيضك يا ولدي وسع آفاق قلبي كثيراً وبسط جوانب نفسي كثيراً وزودني بأعماق بعيدة الغور لا يدرك لها مدى ولا تحدها حدود!!
لو عرفت يا بني كيف يدفع التعب، وكيف تهون المشقات، وكيف يسهل الصعب، وكيف تقرب الغاية لعلمت أنك دواء من الله لم تحتوه صيدلية ولا ركبه العلم، يعين به الله الهمة المجهدة ويرشد به الله البصيرة الضالة! ويحل به العزيمة محل الخور والأمل بعد اليأس والرجاء بعد القنوط
ثم ها أنت ذا يا بني تدلف إلى عامك الثاني تسرع الخطى وعندما تضحي على أعتابه يا بني سيكون لي معك حديث وأي حديث.
بنت جبيل - لبنان
حسن محمد عبد الله شرارة