مجلة الرسالة/العدد 88/بين القاهرة وطوس من بغداد إلى الإسكندرية
→ محاورات أفلاطون | مجلة الرسالة - العدد 88 بين القاهرة وطوس من بغداد إلى الإسكندرية [[مؤلف:|]] |
الله ← |
بتاريخ: 11 - 03 - 1935 |
14 - بين القاهرة وطوس من بغداد إلى الإسكندرية
للدكتور عبد الوهاب عزام
أقمنا ببغداد أربعة أيام، فأحدثنا العهد ببعض مشاهدها، وزرنا مرقد الملك الشهيد فيصل. رأينا في العراء على مقربة من دار البرلمان مقصورة من الخشب ترتفع عن الأرض درجات، وعلى بابها جندي شاهر السلاح. ففتح لنا الباب إلى ضريح مغطى بالورد والزهر: هذا بقية الجهاد من النفس الطماحة، هذا ميراث الخلود من العزائم المريرة، هنا صفحة من مجد الإسلام والعرب، هنا حلقة يصلها النسب والمجد والتاريخ بسيد المرسلين وخاتم النبيين. غاية تتقطع دونها الأعناق، ويعيا بمرامها كل سباق. أترى هذا المصحف على حافة الضريح؟ هذا كتاب الله يشهد للسلف بما قدم، ويدعو الخلف إلى أن يمضي قدماً على سنة الآباء وسنن المجد وهدى الإسلام. فيا بني العرب والإسلام إحذروا غضب الله، وسخط الآباء، ولعنة التاريخ، وسيروا بالراية إلى الغاية، وتبوأوا مكانكم في جبهة الخطوب وصدر الأجيال
فإنا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر قرأنا صحائف المجد والعبر. ثم قرأنا الفاتحة وخرجنا نقول: رحم الله فيصلاً!
وفي اليوم الثاني شرُفنا بين يدي جلالة الملك الشاب غازي بن فيصل! اقتربنا من الحجرة الملكية فرأينا جلالته وافقاً، فلما ولجنا الباب تقدم إلينافحيانا تحية العربي الكريم ضيفانه، وتلقانا كما يتلقى الأخ العظيم إخوانه. وجلسنا فسألنا كيف صحة جلالة مصر، وسألنا عما رأينا في سفرنا وما لقينا في حلنا وترحالنا، وكيف رأينا تقدم العراق بعد زورتنا الأولى، ثم تحدث أحاديث ملؤها الأمل والطموح في مستقبل العراق والعرب والإسلام. قلنا وإنا لندعو الله أن ييسر للملك الهاشمي العظيم السير على سنن آبائه، ويرعاه قرة عين للعرب والمسلمين. ثم خرجنا فرحين مغتبطين، فقلنا قد رأبنا في فيصل صفحات من مجد الأمس! وهذه صفحات من مجد الغد
نبنى كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فصدق اللهم آمالنا، ومهد لنا طريقنا، ويسر لنا غايتنا. وزرنا مسجد الإمام أبي حنيفة والمدرسة الأعظمية ودار الكتب. وزرنا في الفندق كثير من إخواننا البغداديين، وتناف في دعوتنا إلى ضيافتهم، ولكن ضاق الوقت عن إجابة الدعوات، إلا دعوتين سبقتا قبل سفرنا إلى طهران من الأستاذ الفاضل أبي خلدون ساطع بك الحصري مدير كلية الحقوق، والأديب الهمام رفائيل بطي مدير جريدة البلاد، فذهبنا إلى حفلتين نعمنا فيهما بلقاء جمع من زعماء العراق وعلمائه وأدبائه، وسعدنا بأحاديث في الأخوة والمودة، والسياسة والعلم والأدب
وفي اليوم الأخير كانت حفلة الوداع في دار المفوضية المصرية، إذ دعا الأستاذ حافظ بك عامر القائم بأعمال المفوضية جمعاً من أعيان بغداد، ومن المستشرقين الذين رافقونا في حفلات الفردوسي، وسفير إيران ببغداد وغيرهم إلى مأدبة شاي، ولم تكن هذه أول حفاوة حافظ بك والأخ حسين أفندي منصور سكرتير المفوضية
وبرحنا بغداد بكرة يوم الاثنين في سيارة جديدة من سيارات شركة (نيرن) ذات عشر عجلات طولها 25 متراً، وهي نمط جديد مركب من جزأين: القاطرة والعربة. وقد أريد بفصل المقدم من سائر العربة إضعاف الارتجاج، فالسيارة تسير رهواُ في الطريق غير المعبدة. وقفنا قليلاً في الرمادي، فرأينا سيارة كبيرة تقل نفراً من الإنكليز، فيهم أطفال ونساء، وقد كتب عليها ما يدل على أنها سائرة من الهند إلى لندرة، سألت بعضهم متى فصلتم من الهند؟ قال: منذ شهر. قلت: ومتى تبلغون لندرة؟ قال: بعد شهر ونصف، لأننا سنلبث في القسطنطينية وبعض البلاد. فهانت علينا الشقة بين طوس والقاهرة، وأكبرنا هذه العزائم السيارة
بعيد مناط الهم فالغرب مشرق ... إذا ما رمى عينيه والشرق مغرب
وبلغنا الرطبة بعد الغروب فلبثنا ساعتين، جلسنا في فندق هناك نستمع إلي الغناء المصري، ونأكل ما تيسر من الزاد. ثم مشينا في أطراف الصحراء، فرأينا مجرى وادي حوران الذي يسيل من حوارن إلى وادي الفرات، ولم يكن به يومئذ ماء، ورأينا هناك آبارا يستقى منها الأعراب الضاربون في تلك النواحي وقد جاء إليناأطفال الأعراب، فسألهم أحد الرفاق عن أسمائهم فلم يجيبوا، فقلت إن ابن البادية يتحرز من ذكر اسمه واسم قبيلته حتى يأنس، فلما استأنسناهم بالحديث والعطاء صرحوا بالأسماء
طلعت الشمس ونحن في أرباض دمشق، فدخلناها في نضرة الصباح، وأشعة الشمس تموج على ذوائب الغوطة الفيحاء، وما دخلت دمشق قط إلا خفق قلبي لها سروراً وحباً
أوينا إلى فندق أمية يحببه إليناهذا الاسم العربي، ولبثنا به يومين، ووجدنا خدام المائدة هناك من النوبيين فرحبوا بنا وبالغوا في إكرامنا
وهنا لطيفة أضن بها على الترك: جلست أنا ورفيقي الأستاذ العبادي للإفطار، فلما قدمت إليناألوان الطعام طاف بنا طائف من الشعر، فقال الأستاذ:
وقوم في أمية نازلينا ... من العسل المصفى يشربونا
فقلت:
ولو علموا مكانتهم لكانوا ... بصحن بني أمية ينزلونا
قال ما صحن بني امية؟ قلت صحن الجامع الأموي. قال إن النزول به شرف. قلت هذا أردت. والله أعلم بذات الصدور
بادرنا بعد أن استرحنا إلى زيارة أستاذنا العلامة محمد كرد علي بك كما فعلنا حينما وردنا المدينة في طريقنا إلى طهران، ومن فاته مجلس الأستاذ كرد علي في داره المعمورة فقد فاته خير كثير. وكنا نعمنا المرة الأولى بليلة غوطية قمراء سمرنا بها مع الأستاذ والأمير مصطفى الشهابي والأستاذ خليل مردوم وهم كما قال الحريري
(في رفقة غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، ما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يتحفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يميل عنه)
ويوم الأربعاء زرنا الجامعة السورية، فإذا كلية الآداب قد ألغيت. ولقينا الأستاذ مدير الجامعة، فطاف بنا في حجرات الكيمياء والطب، ثم دعانا إلى غرفته فتحدثنا في الاصطلاحات العلمية وتوحيدها في البلاد العربية، ثم خرجنا شاكرين. وذهبنا إلى المتحف العربي لنرى الأمير جعفر الجزائري فإذا المتحف مغلق، وإذا المكتبة التي أمامه مغلقة
وهنا أقول إن دار المتحف العربي هي دار المدرسة العادلية لا دار الحديث الأشرفية، كما ذكرت خطأ في حديثي عن الشيخ الخالدي، وأنا أعترف بأن الغلط كان مني لا من الشيخ، وأنه نبهني إليه حينما قرأ المقال وهو بمصر. (وهذا لا يٌقل من شكري للأديب برهان الدين محمد الداغستاني الذي نبه إلى هذا الغلط في مقال بمجلة الرسالة)
وفي المساء ذهبنا إلى الصالحية فزرنا قبر الشيخ عبد الغني النابلسي ولم نكن زرناه، فوقفت بنا السيارة على حارة هناك فترجلنا ومشينا بجانب بناء قديم مهجور فقيل: هذه المدرسة العمرية التي بناها أبو عمر بن قدامة. وفي هذا الحي مدارس كثيرة كانت مباءة العلم والعلماء في العصور الخالية. وتقدمنا قليلاً ثم ملنا ذات اليسار، فهبطنا مسجداً صغيراً مشرفاً على دمشق. ثم ولجنا باباً إلى اليمين فإذا مصلى واسع، فلما اتجهنا شطر القبلة رأينا في الجدار الذي إلى اليسار مقصورتين عليهما شبابي الحديد إحداهما مرقد الشيخ الصوفي العالم المتفنن عبد الغني النابلسي، والأخرى قبر أحد أبنائه فيما أذكر
وقد رأيت على باب المصلى الذي فيه الضريح هذين البيتين:
زان سورية الوزير نظيف ... بنظام يفوق عقداً نظيما
لمقام الولي عبد الغني مذ ... شاد أرخت (نال أجراً عظيما)
ومعنى ذلك أن والي سورية نظيف باشا عمر هذا المكان سنة 1306 ثم ذهبنا إلى دار العالم الفاضل الأمير مصطفى الشهابي إجابة لدعوته، وهي في أعلى الصالحية تشرف على دمشق كلها.
فتعشينا وسمرنا مع جماعة من الفضلاء، ثم هبطنا بعد هدأة من الليل فمشينا إلى الفندق، وسار معنا الأخوان مودعين فختمت إقامتنا بدمشق على أحسن ذكرى
وأصبحنا نتأهب للمسير إلى بيروت فبلغناها ظهراً. وذهبنا إلى دار القنصلية المصرية فلقينا حضرة القنصل صادق بك أبو خضرة فأبى إلا أن يدعونا للغداء، ثم ودعناه بعد الغداء شاكرين فسرنا في أرجاء المدينة، فلما أرست الباخرة الرومانية (شارل الأول) وضعنا أمتعتنا بها ثم نزلنا فجلنا جولة في المدينة ورجعنا إليها والساعة إحدى عشرة، وفي منتصف الليل سارت الباخرة، فلما أصبحنا بها رأينا أسباط بني إسرائيل مزدحمين في أرجائها، وقد راجت سوق الملابس بينهم، هذا يعرض وهذا يساوم، وهذا يشتري وهذا يأبى. فقلنا لله در القوم!
وقفت الباخرة على حيفا صبحاً، وقد صارت حيفا ميناء كبيراً منذ العام الماضي، فنزلنا إلى المدينة صعدنا في جبل الكرمل وهو جبل عال مزدان بالدور والأشجار مشرف على البحر. ومررنا بقبر الباب صاحب الدعوة البابية، وقبر عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين السابق. وهما في بناء جميل تحيط به حديقة منضدة ينحدر الجبل عنها طبقة بعد أخرى حتى يفضي إلى شارع واسع يستقيم من سفح الجبل إلى البحر
وسارت السفينة بالعشي فما زالت في بحر وهو حتى أقبلت على الإسكندرية المحبوبة قبيل الظهر يوم السبت ثالث نوفمبر. خفقت قلوبنا فرحاً بالأوبة إلى الوطن، وقذيت عيوننا بالمرائي الأجنبية المتزاحمة في الثغر، وزادها قذى منظر زورق الشرطة تعلوه راية كتب عليها من الجانبين كأن البلد لا يعرف اللغة العربية! وبينما تكفهر حولنا هذه المناظر المخزية وقع بصري على كلمة (زمزم) الكلمة العربية الوحيدة في مثلت الأسماء المحيطة بنا، وهذه زمزم إحدى بواخر بنك مصر! هذا كوكب يلوح في هذا الظلام الدامس! هذا برق من الرجاء يشق هذا الليل اليائس! هذه فاتحة المستقبل الوضاء! فاصبري أيتها النفس فان مع العسر يسرا
خاتمة
لم يتيسر لنا المقام في إيران حتى نعرف من أحوالها ودخائلها وسير العلم والأدب بها، وحتى نستقصي آثارها ومشاهدها، وإنما هو السفر العجلان الذي لا يقف ببلد إلا ليسير عنه. فهذه المقالات جهد النظرة العاجلة، ومبلغ الأيام القليلة التي قضيناها طائرين من مدينة إلى أخرى، ومقدار ما وعت الذاكرة دون الاستعانة بالمذكرات، وهو كما رأى القارئ كلام قريب الغور، قليل الجدوى، ولكنه لا يخلو من فائدة
وبعد، فقد سرا من القاهرة إلى طوس فما أحسسنا إنا اغتربنا، بل رأينا أنفسنا بين وجوه معروفة، سنن مألوفة، وتاريخ معلوم، وفي مشاهد حدثتنا عنها كتبنا، وعهدها تاريخنا ونشأ فيها علماؤنا، فالعالم الاسلامي، على اختلاف الأمم، أمة واحدة ألفتها مئات السنين على معنى واحد، وأسلوب واحد، وأورثها التاريخ حضارة واحدة، وآداباً متقاربة، وهذا ذخر لعمر الحق جدير أن يصان على رغم الزمان، وائتلاف ينبغي أن يجنب الاختلاف، وتقارب هو أسعد ما تحظى به الأمم في هذه العصور القلقة المضطربة. فقل للذين يريدون أن يقطعوا الأوصال بما يثيرون من الجدال، وقل للذين يحقرون ماضينا، ويزدرون تاريخنا، ويحاولون أن يهدموا كل قديم ليشيدوا كل حديث، وقل للذين يصدون عن المشرق ليولوا وجوههم شطر المغرب: ألا ساء ما تعملون! لقد أعماكم التقليد عن الحق، وذهب بكم الضلال أبعد مذهب. فان تماديتم في الغواية فستندمون حين لا ينفع الندم والسلام عبد الوهاب عزام