مجلة الرسالة/العدد 88/الليث بن سعد محدث مصر وفقيها ورئيسها
→ - قصة المكروب كيف كشفه رجاله | مجلة الرسالة - العدد 88 الليث بن سعد محدث مصر وفقيها ورئيسها [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 11 - 03 - 1935 |
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به
وقال الإمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث
وقال الإمام الشافعي: الليث أتبع للأثر من مالك
وان ابن وهب يقرأ على الشافعي مسائل الليث فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب لرجل: بل كأن مالكاً كان يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا آله إلا هو ما رأينا أفقه من الليث
وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس
وقال الدراوردي: رأيت الليث عند يحيى بن سعيد وربيعة وانهما ليرجرجان له رجرجة ويعظمانه
وقال الذهبي: وكان من بحور العلم له حشم وافر، وكان نظير مالك
قال ابن عساكر: كان كبار العلماء يعرفون فضله ويشيرون إليه وهو شاب، وقيل له: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك؟
قال: أو كل ما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب!
منزلته عند الخلفاء والولاة
قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟
قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي
فقال: ما بك ضعف معي إلا ضعف بدنك، أتريد قوة أقوى مني؟ ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك، فأما إذ أبيت فدلني على رجل
فقلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة فبلغ ذلك عثمان فحلف ألاّ يكلمني
فلما أردت أن أودعه قال لي: قد رأيت ما سرني من سداد عقلك فاتق الله في الرعية أمثالك وقال يعقوب بن داود وزير المهدي: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد بغداد: إلزم هذا الشيخ، فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه
وقال لؤلؤ خادم الرشيد: جرى بين هرون الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام، فقال هرون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة. ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا. ثم كتب إلى البلدان، فاستحضر علماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا، وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس وهو الليث بن سعد. فسأله فقال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته، فصرفهم. فقال: يدنيني أمير المؤمنين. فأدناه. فقال: أتكلم على الأمان؟ قال: نعم. فأمر بإحضار مصحف، فأحضر، فقال: تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها، ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى (وَلَمِنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنتانِ)
قال: أمسكْ يا أمير المؤمنين، قل: والله. . .
فاشتد ذلك على هرون. فقال: يا أمير المؤمنين الشرط أملك
فقال: والله (حتى فرغ اليمين). قال: قل، إني أخاف مقام ربي. فقال ذلك
فقال: يا أمير المؤمنين، فهما جنتان، وليست بجنة واحدة! (قال) فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر، فقال الرشيد: أحسنت. وأمر له بالجوائز والخلع، أمر له بأقطاع الجيزة، ولا يتصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مكرماً
قال الليث: وسألني هرون الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا إجراء النيل وصلاح أميرها. وإنه من رأس العين يأتي الكدر فإذا صفا رأس العين صفت العين
قال: صدقت يا أبا الحارث
وقال السيوطي: كان نائب مصر وقاضيها من تحت أوامر الليث، وكان إذا رابه من أحد شيء كاتب فيه فيعزله
قال ابن أبي مريم: كان إسماعيل بن اليسع الكندي من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب مذهب أبي حنيفة في إبطال الحبس فأبغضوه، فجاء الليث فجلس بين يديه، فرفع إسماعيل مجلسه، فقال: إنما جئت إليك مخاصما، قال: في ماذا؟
قال: في أحباس المسلمين، قد حبس رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فمن بقي بعد هؤلاء؟
وقام فكتب إلى المهدي، فورد الكتاب بعزله. فأتاه الليث فجلس إلى جنبه، وقال للقارئ: اقرأ كتاب أمير المؤمنين، فقال له إسماعيل: يا أبا الحارث، وما كنت تصنع بهذا؟ والله لو أمرتني بالخروج لخرجت؟
فقال له الليث: والله إنك لعفيف عن أموال الناس
وكان في كتاب الليث إلى المهدي: أنا لم ننكر عليه شيئاً غير أنه أحدث أحكاماً لا نعرفها
ولما أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، بنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة
منزلته عند الناس
كان له أربعة مجالس يجلس فيها كل يوم، فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه. وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول نحو أصحاب الحوانيت فان قلوبهم متعلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس فلا يسأله أحد من الناس حاجة فيرده، كبرت حاجته أم صغرت. . .
وقال منصور بن عمار: كان الليث إذا تكلم رجل في المسجد الجامع أخرجه، فلما دخلت مصر تكلمت في جامع، فإذا رجلان قد دخلا فأخذاني، فقالا: أجب أبا الحارث، فذهبن وأنا أقول: واسوأتاه أخرج من البلد هكذا. . .
فلما دخلت على الليث سلمت، فقال: أنت المتكلم في المسجد؟
قلت: نعم. قال: أعد علي ما قلت، فإعدته، فرق الشيخ وبكى، وقال: ما اسمك؟ قلت: منصور بن عمار. قال: أبو السري؟ قلت: نعم. فدفع إلى كيساً وقال: صُنْ هذا الكلام عن أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين، بعد مدحك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها
وكتب إليه مالك في رسالة: (. . . وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك وحاجة من قبلك إليه. . . الخ)
وقال له يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد رآه يفعل شيئاً من المباحات: لا تفعل، فانك إمامُ منظور إليك
سعة وكرمه
قال شعيب بن الليث: كان أبي يستغل في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفاً، فتأتي عليه السنة وعليه خمسة آلاف دينار ديناً
وقال محمد بن رمح: كان دخله ثمانين ألف دينار في العام وما أوجب الله عليه زكاة قط
وخرج يوماً فقوموا ثيابه ودابته بثمانية عشر الف درهم إلى عشرين ألفاً، وخرج شعبة فقوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر إلى عشرين درهما
وقال أبو رجاء: قفلنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه
قال عبد الله بن صالح (كاتبه): صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض، وكان لا يتردد إليه أحد إلا أدخله من جملة عياله مادام يتردد عليه ويسمع منه، فإذا أراد الخروج زوده بالبلغة إلى وطنه
وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل لمن أكل كثيراً أكثر من صاحبه!
وكان يطعم الناس الهرايس بعسل النحل وسمن البقر في الشتاء، وفي الصيف باللوز والسكر
وكان يصل مالكاً كل سنة بمائة دينار، فكتب إليه مرة أن عليّ ديناً، فبعث اليه بخمسمائة دينار. وكتب إليه مالك مرة إني أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر
قال ابن وهب: فبعث إليه بثلاثين جملاً محملة عصفراً فصبغ منه لابنته، وباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة
قال أبو صالح (كاتبه): كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا (أي احتجب) فقلنا: ليس يشبه هذا صاحبنا، فسمع مالك كلامنا فأمر بإدخالنا عليه، فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد
قال: تشبهوني برجل كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينامنه ما صبغنا به ثياب صبياننا وثياب جيراننا، وبعنا الفضل بألف دينار؟
ولما حج الليث أهدى إليه مالك طبقاً فيه رطب، فرد إليه على الطبق ألف دينار
ولما احترقت دار ابن لهيعة وصله بألف دينار، وصل منصور بن عمار القاضي بألف دينار
وكان يجيء إلى المسجد كل يوم على فرس، فيتصدق كل صلاة على ثلثمائة مسكين، ولم يكن يرد سائلاً:
أتاه مرة سائل فأمر له بدينار، فأبطأ الغلام به فجاء سائل آخر فجعل يلح، فقال له الأول: اسكت. فسمعه الليث فقال: مالك وله؟ دعه يرزقه الله، وأمر له بدينارين
قال منصور بن عمار: كنت عند الليث جالساً فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث إن زوجي يشتكي وقد نُعت لنا العسل. فقال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك. فجاء الوكيل يسارّه بشيء. فقال له الليث: اذهب فأعطها مطراً، إنها سألت بقدرها فأعطيناها بقدرنا (قال: والمطر عشرون ومائة رطل)
واشترى قوم من الليث ثمره بمال، ثم إنهم ندموا فاستقالوه فأقالهم، ثم استدعاهم فأعطاهم خمسين ديناراً وقال:
إنهم كانوا أملوا أملاً فأحببت أن أعوضهم
وقال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فرحلت إلى مصر فدخلتها في هيئة رثة، فزرت الليث، فلما خرجت من منزله تبعني خادم له في دهليزه، وقال: اجلس حتى أخرج اليك، فجلست، فلما خرج وأنا وحدي، دفع إليّ صرة فيها مائة دينار، وقال: يقول لك مولاي أصلح بهذه النفقة أمرك، ولم شعثك، وكان معي في حُجزتي ألف دينار، فقلت للخادم: أدخلني على الشيخ فإني في غنى عن هذه المائة، فاستأذن لي عليه، فأخبرته بنسبي، واعتذرت إليه عن رد المائة، أخبرته بما معي، فقال: هذه صلة وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي هذه العادة، وأنا في غنى، قال: أدفعها إلى بع أصحاب الحديث ممن تراه مستحقا
فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها في جماعة
وفاته توفي الليث يوم الجمعة 14 شعبان سنة 175
قال خالد بن عبد السلام الصدفي: جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ولا أكثر من أهلها، ورأيت الناس كلهم في جنازتهم عليهم الحزن، يعزى بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت: يا أبت كأن كل واحد من هؤلاء صاحب الجنازة!
فقال: يا بني، كان عالماً كريماً، حسن العقل، كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبداً. . . .
قال بعض أصحابه: ولما دفناه سمعنا صوتاً وهو يقول:
ذهب الليث فلا ليث لكم ... ومضى العلم قريباً وقُبر
فالتفتنا فلم نر أحداً
وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن في القرافة الصغرى، رضى الله تعالى عنه وبوأه من الجنة غرفاً
هذا ما بقي من هذه السيرة الجليلة، متفرقاً في شتى الكتب، ومختلف الأجزاء، وقد ضاع سائرها، كما ضاع هذا التراث العلمي الضخم، فرحمة الله على أولئك الأجداد الذين بنوا وشادوا، وألفوا وجمعوا، وعلموا وعملوا، ورزقنا التأسي بأعمالهم، والسير على سننهم. . . وألهمنا إحياء تاريخنا، ونشر ماضينا
علي الطنطاوي