الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 879/منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات

مجلة الرسالة/العدد 879/منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات

مجلة الرسالة - العدد 879
منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 05 - 1950


للأستاذ محمد خليفة التونسي

يقول الحكيم الهندي رابندرانات تاجور (إن كل طفل يولد دليل على الله لم ييأس من الإنسانية بعد).

ولا علينا أن تزيد (وكل عبقري ينبغ دليل مائل يكشف حكمة الله في عدم يأسه من الإسلامية).

وما جدوى الإنسانية من البقاء، بل ما جدوى الحياة والطبيعة كلها إذا كان بقاؤنا في ضيقه ورتابته وانحطاطه كبقاء الأرضات في سرداب الأرض المظلمة أو مملكة الظلام كما قال موريس مترلنك الشاعر البلجيكي؟

ماذا في ميلاد طفل؟

إنه دليل على تمسك الله بالإنسانية، إذ لم ييأس منها، وعلى أنها لا تزال أهلا لأن يرفعها باستعدادها لقبول نعمه، ولكن الحكمة في عدم بأسه منها خافية، والدليل على استعدادها عنا مستور.

وماذا في نبوغ عبقري؟

إنه دليل على ذلك كله، وعلى شئ فوق ذلك كله.

دليل على تمسك الله بالإنسانية، واستعدادها لتقبل ما يفيض عليها من نعمة، وصلاحها لأن يرفعها إلى أفق أرفع من أفقها الذي هي فيه عن رضا وطواعية، ودليل أيضاً على قبولها نعمة فعلاً وتحقيق صعودها إلى أفق أعلى راضية طيعة. فحكمة الله في عدم يأسه من الإنسانية هنا بينه، وحجته لنا ظاهرة.

إذا كان ميلاد طفل دليلاً على استعداد خفي في الإنسانية لنعم الله، وعلى حكمة خفية علينا في استمساكه بها، فإن نبوغ عبقري دليل على بروز نعمة وحكمته من عالم الأمر إلى عالم الخلق، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بلغة القرآن الكريم، أو من عالم المثال إلى عالم الحس بلغة أفلاطون، أو من عالم القوة إلى عالم الفعل بلغة أر سطو، أو من عالم الفكرة إلى عالم الإرادة بلغة شوبنهادر.

وشتان في وجودنا المحدود بين الشيء أملالم يتحقق، والشيء نفسه حقيقة قائمة، ومه يتساويان في قدرة القادر، وإبداع المبدع بل في علم العالم أزلاً فليسا سواء في وجودنا الزماني الناقص، وهذا هو ما يعنينا نحن أبناء الزمان الفانين.

نبوغ عبقري دليل على تحقيق بعض الآمال التي ناطها الله بالإنسانية ورفعة إياها من أفق إلى أفق أعلى وأرحب وأجمل، ونسخها من شكل إلى شكل أصفى وأصدق تمثيلا لقدرته وإبداعه، وأفصح تعبيراً عن حكمه، وأشد تحقيقاً للقوى الكامنة التي بثها فيها، وأدنى إلى الغايات التي يجذبها إليها خلال سيرها نحو الكمال المقدور للمخلوقات الفانية في شوقها إلى الله.

إن الخلق هو أعظم النعم ولا ريب كيفما كان.

ولكن تمام هذه النعمة لا يتحقق إلا بالامتيازات التي يسبغها الله على من يصطفيهم من مخلوقاته على مقتضى حكمه، وهو يخلق ما يشاء ويختار. فإذا هؤلاء الممتازين أنس الحياة وجمالها ومسوغها، وحجة الخالق التي يمتحن بها المنكرون، ويزداد بها المؤمنون إيماناً ويقيناً واطمئناناً.

لا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور.

ولا يستوي الذي لا يعلمون والذين يعلمون.

ولا يستوي الأموات والأحياء

ولا تستوي الإنسانية ضالة ضائعة قبل نبوغ العبقري فيها، والإنسانية رشيدة شاعرة بمكانتها بعد نبوغ العبقري.

وإذا استجاب الإنسانية إلى دعوة العبقري طهرت أرواحا من أكدارها، وانكسرت عن قواها أغلالها، وزالت عن أبصارها عشاواتها، وانسلخت عن قلوبها أر كنتها، فشعرت بالصلات الوثيقة التي تربط كل شئ فيها بكل شئ، والصلات الوثيقة التي ترابطها كلها بالوجود كله من وراء تلك الصلات أو من خلالها؛ وانطلقت بهدى العبقرية نشيطه في حياتها، مندفعة نحو الغاية التي أريدت لها، عاملة بكل القوى التي بثها الله فيها. وإنها لتعمل وسعها واو لم تعرف الغاية الصحيحة من وراء عملها أنها مدفوعة إلى العمل بقوى جبارة تنفجر من أغوار النفس البعيدة فلا سلطان لها عليها، ولأنها تجد في العمل لذة اللعب أو الرياضة وجمالها، وحسبها ذلك من غاية لأعمالها، ولتكن عندها من وراء ذلك أو لا تكن غاية ظاهرة أو خفية.

تاريخ الإنسانية هو تاريخ عباقرتها وآثارهم فيها، فلو انتزعوا من تاريخها لم يبق لها تاريخ.

تاريخ الإنسانية عمل فني، عنصر الفن الأصيل فيه وينبوعه هو العبقرية، ولذلك لا يحسن كتابة تاريخها إلا فنان.

تاريخها صور العبقريات المشرقة، وانعكاسها من نفوس الناس.

وتاريخها عزف لأصوات العبقريات وأصدائها في نفوس الناس.

وما لم يكن نور فلا انعكاس، وما لم يكن صوت فلا صدى.

ومن لم يشعر بالتاريخ شعور الفنان لم يع من التاريخ حرفاً، ولو استوعب الزمان والمكان من البدء إلى النهاية. ومن لم يعبر عنه كما يعبر الفنان عن شعوره بما يجيش في نفسه لا يكتب منه حرفاً، ولو أن ما في الأرض من شجر وغيره أقلام، ومياه البحور مداد، والأرضين والسماوات صحائف يسود وجوهها بجهله وغبائه.

لا يستجيش في نفس الإيمان الكامل الخالص شئ في الإنسانية إلا العبقرية.

ولا يستحوذ على أيماني كاملاً خالصاً أحد من الناس إلا العباقرة.

وما ساورني شك في أنه لا توجد نفس إنسانية أبداً تخلو كل الخلو من نور العبقرية أصيلاً فيها، وكل الفرق بين العبقرية الشامخة والعبقرية المطموسة هو الفرق بين نور قوى عظيم يتدفق في النفس فيجرف السدود والحدود؛ ويفيض على الجوانب فيظهر ويبهر، ونور ضعيف ضئيل يبض قطيرة فقطيرة في غور سحيق من وراء سدوده وحدوده المطبقة عليه أطباقا، فلا تراه عين، ولا تسمع بخبره أذن حتى يتلاشى في التراب. وبين هاتين المرتبتين مراتب لا يحيط بها إلا علم الله، تظهر أو تظهر حسب قوتها والظروف المهيئة لها.

إن العبقرية أهل للتقديس على اختلاف مشارقها: كيفما أشرقت، وأينما أشرقت، ومتى ما أشرقت.

لا يختلف في تقديس عبقري عن عبقري باختلاف ميدانه ولا مكانه ولا زمانه ولا آثاره، ولكن بحظه من العبقرية.

وإذا قيل: إنما ينعم الله بالعبقرية لمصلحة الناس، فاتخذنا آثارها التي هي من شأنها سواء أظهرت أم لم تظهر فعلاً مقياساً لتمييزها - لوجب أن نقدم من بين رجالها عباقرة العقائد الذين يؤمنون ويعملون الناس بالإيمان، أو يثيرون في نفوسهم الإيمان.

عبقرية العقيدة من شأن صوتها أن يكون صداه أوسع انتشاراً بين النفوس، وأن يكون أثره في النفس القابلة لترديده أقوى واعمق وأشمل تأثيرا فيها من كل صدى سواه.

1 - فعبقري العقيدة - حين يعلم الناس عقيدته - يفجر في نفوسهم بواعث الايمان، فتتفجر فيها في وقت واحد بواعث الجياة، وبواعث الفضيلة، وبواعث الشعور، وبواعث الفكر، وسائر البواعث الكامنة في بنيتها، ومن ثم يكون أثر العقيدة في النفس أتوى وأعمق وأشمل من سائر الآثار.

2 - ليس لزاماً في المستجيبين للعقيدة أن تكون لهم ملكات إنسانية ممتازة، ولقد تكون الملكات العقلية الممتازة حائلا دون الاستجابة للعقيدة، وبخاصة إذا لم تقابلها ملكات نفسية تكافئها ونحفظ للنفس أريحيتها كي تستجيب للواجب إذا دعاها وتحبب إليها أو تهون عليها البذل والفداء.

وحسب الناس أن تكون لهم ملكات نفسية عادية قابلة للتفجر أو الاستجابة حتى يكون لعبقري لعقيدة أثره في نفوسهم، كي يفجر فيها بواعث الإيمان تلبية لعقيدته، فتتفجر معها شئ البواعث الكامنة في بنيتها في فترة واحدة، كما تتفجر كل الذرات في القنبلة الذرية بتفجر ذرة واحدة فيها.

والملكات النفسية العادية - وهي كل ما يلزم لتقبل العقيدة - موفورة لكثير من الناس العاديين، وما كانوا عاديين إلا لأن ملكاتهم عادية، ومن ثم كان صوت عبقرية العقيدة أوسخ انتشارها في الناس من صوت غيرها.

3 - وإذ أن الدخول في العقيدة لا يستلزم من الإنسان مواهب ممتازة، بل حسب الإنسان فيه تسليم وسلوك بسيطان - فإن اعتناق العقيدة يخول صاحبه فيما بينه وببن نفسه وفيما بينه وبين الناس امتياز يرضي كبرياء، ويشيع غروره، ويمد له في الطموح والرجاء، ويجعله هو ومن هم أسمى منه مكانة بأي سبب من الأسباب متساوين في التعصب للعقيدة والغيرة عليها والتمتع بحقوقها وحمل مسئولياتها، من غير أن يكلفه ذلك أن يكون مستحوذاً على مواهب سامية كمواهبهم، أو كفاية عظيمة ككفاياتهم، بل قد لا يكلفه ذلك إلا مجرد التعصب لها، وحسبه

ذلك الامتياز من جزاء عاجل في الدنيا فضلا عن الجزاء الموعود في الدنيا أو الأخرى أو الاثنتين معاً مادام معتصماً بعقيدته وما أسخى العقائد بالوعود إلى الصبر والمثابرة والعزاء.

4 - معتنق العقيدة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، بل هو يشعر ويفكر ويعمل كعضو في بنية الجماعة، وذلك كفيل بأن يثير فيه كل كفاياته الفردية والاجتماعية معاً ويشعره على الدوام بصلات قوية تربطه بالمجتمع، فيكون أشد شجاعة وصلابة في آرائه ومذاهبه، وأعظم استعداد للبذل والمفاداة، وأدق معرفة بما يأخذ وما يدع من الإنسان الذي يحيا بغير عقيدة، والإنسان يحيا بعقيدة بالية قد فترت وباخت في نفسه، وذو العقيدة يشعر كذلك بالاطمئنان والأنس والعزاء أعظم مما يشعر غير ذي العقيدة إذ يحس نفسه مبتور الصلات بالمجتمع، وأعظم مما يشعر ذو العقيدة البالية الفاترة إذ يحس بتهافت الصلات بينه وبين المجتمع. وفي إحساس هذين النوعين ما فيه، ومعه ما معه من إحساس باللعنة والبلية والاضطراب والتيه، وكله مما يثبط الهمم،، ويغشى البصائر، ويفرى بالجبن والحرص والانكماش. فالإنسان هو - وهو يحس بالمجتمع، ويستجيب لدواعيه - أقوى وأبصر وأشجع منه وهو محروم الإحساس به مصروف عن تلبية دواعيه. إذ لا قوة ولا بصر ولا شجاعة إلا بإيمان.

هذا إلى أن العقيدة تربط الجماعة أقوى مما تربطها رابطة اجتماعية أخرى أساسها الاشتراك في رأي، أو عمل، أو مهنة، أو مكان، أو نحو ذلك مما يشعر الجماعة بوجود مصلحة مشتركة بين أفرادها لا غنى لهم عن التعاون عليها؛ فالعقيدة تثير كل القوى وتستوعبها، وتحدد الغاية والوسيلة، وتتسع حتى تشمل الحياة وقد تمتد إلى ما وراء الحياة، ولا تدانيها في ذلك رابطة اجتماعية أخرى ولا باعث حيوي آخر.

5 - وعبقري العقيدة يعي من خفايا النفوس الإنسانية بداهة أوضح وأكثر مما يعيه غيره بالتفكير الطويل بالغاً ما بلغ من الذكاء والدرية والبصر، لأن ن نفس العبقري صورة شاملة للنفس الإنسانية على اختلاف قواها وأحوالها ونزعاتها واحتمالاتها، ومن ثم يعي هذا العبقري كل صغير في الناس وكبير، ويعي حقه وواجبه الذي ينبغي له. وطريقة الذي يصلح له ويغني فيه، وما يحس معه أو يسوء من السياسات، فيسوس كل نفس بسياستها الخاصة، ويشرع لها شريعتها الملائمة بلا بخس ولا محاباة.

6 - وشخصية عبقري العقيدة وسيرته مثل حي مجسم لعقيدته، فهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا على هذى من عقيدته، ولا يدعو إلى ما دعا نفسه مثله أو أشق منه، وهو في طاقة المستجيب بعد أن أمدته بواعث الإيمان بكل ما في نفسه من استجابة تكفل السمع، وتكفل الطاعة، ومن ثم تكون شخصية عبقري العقيدة وسيرته وأقواله مصدر حياة وإيمان وتشريع، وذلك كفيل باستمرار حياة عقيدته في المستجيبين إليه، وبتنقلها في طبقة إلى طبقة، وفي جيل إلى جيل.

وتتمثل عبقرية العقيدة في الدعاة إلى العقائد الدينية كالأنبياء، والدعاة إلى العقائد الوطنية أو السياسة أو العنصرية كالزعماء، والدعاء إلى العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية كأصحاب المذاهب النظرية ذات النزعات وكل منهم صاحب عقيدة لها مقاييسها الخاصة، وكل منهم مؤمن بعقيدته معتصم بها يدعو الناس إلى الإيمان بها والتزامها في مضمار من مضامير الحياة، وهم جميعا معتقدون، ومعلمون لما يعتقدون.

للكلام بقية

محمد خليفة التونسي