مجلة الرسالة/العدد 879/سيرة عالم
→ صحائف مطوية في السياسة العربية | مجلة الرسالة - العدد 879 سيرة عالم [[مؤلف:|]] |
في الصداقة والصديق ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1950 |
للدكتور سامي الدهان
كان عامة الجمهور في (حلب) يعجبون لهذا الرجل الغريب، يجدونه عند كل حجر عتيق من أحجار المدينة، يتسلق الضخر، ويعلو الجدران القديمة، والأسوار المتهدمة، وبيده ورقة وقلم، يخط سطوراً، لا يبالي بالهامس حين يمر أو الساخر حين يتحدث إليه ساعات من نهار، يستنطقه عن الماضي القديم، ويستخبره عن الأجيال السالفة.
وكان منظر الرجل يثير كذلك دعابة حينا ودهشة حيناً آخر، فقد أرسل لحيته، ولبس البسيط من الثياب، وجلس جلسة ابن البلد إلى الحجر والتراب، يقتلع العشب عن الحجر، ويمسح عنه الغبار، كأنه شحيح ثناياه عن كنز مدفون وثروة مخبوءة. على أن الناس يمرون بهذا الصخر والحجر عشرات المرات لا يبالون ولا يأبهون، فقد ألفوا أن يروا في سبيلهم كتابات عريضة لم يحاولوا أن يقرءوها، وتواريخ مسطورة لم يجربوا أن يفهموها، ومالنا ولهذا الجنون الأوربي إذ يكلف بالغريب ويعكف على العجيب؟
وكان الرجل على ذلك كله ماضياً في عمله لا يهمه تهامس الناس حوله، ولا نثنيه نظراتهم المريبة شكلهم الملح، فهم يرمونه بالجهل إذ يضيع أيامه بما لا ينفع الحياة ولا يجلب المال.
وظل على ذلك سنين انتهى بعدها إلى كتاب صغير نشره بالفرنسية صور فيه الأبنية الأثرية، ورسم مصوراً لهذه الأبنية، وخلص إلى نظرية جديدة هزت المستشرقين طرباً، فقد وقفوا على صورة (حلب) كما كانت قبل ألف عام، أو تزيد، وحدد أماكن الجدران والأسوار من هذا المصور. وبين مواقع المساجد والجوامع والتكايا، وكأنه قد بنى المدينة على الورق من جديد، ولم يبق إلا أن يرسم هؤلاء الذين عاشوا بين جدرانها تتقلب عليهم الحروب، وتهزهم الغزوات، وأن يعين أماكنهم وحاراتهم.
وعرف المؤرخون الغربيون عن حلب ما لم يكونوا يعلمون؛ فقد رسم لهم المستشرق (جان سوفاجه) مواقع المعارك التي دارت خلف الأسوار، وصور لهم بلاط الحمدانيين والمرداسيين والأيوبيين والأتراك.
واشتركت مصر في تعريف هذا الجهد! فنشرت للرجل في مجموعاتها ما عثر عليه من كتابات، ونشرت إلى جانبها الترجمة الفرنسية والتعليقات العلمية. وتنبه المؤرخون كذلك إلى ما تحويه حلب في حاضرها من بناء قديم يرى المستشرق أنه أقدم ما بقي في سورية من الآثار، حتى أنه اكتشف على أحد جدران المباني كتابة هيروغليفية يعود تاريخها إلى ألفي سنة سلفت.
ولم يقف عند هذا حتى كتب رسالة للدكتوراه درس فيها تطور البناء في حلب على مدى الأجيال. فعرض للمدينة في عهد اليونان والرومان والعرب؛ وتوجت هذه الرسالة بكثير من الثناء، وهتف المستشرقون للدارس الباحث، وقد قضى شطراّ من عمره في بلد الشام يتقرب إلى تاريخه، ويتفهم ماضيه العمراني. ونشرت الرسالة في جزأين كبيرين أولهما في دراسة هذه المدينة والثاني في المصورات والصور التي تتحدث - على عادة الغربيين - عن ماض قديم قربه الرجل أوفر الرجل ما يستطيع عالم أن يفعل.
ولما سكن سوفاجه دمشق كتب كذلك عن أبنيتها وحاول أن يصنع لها ما يضع لشقيقها حلب، ونشر بحثاً وبحوثاً عن الأبنية في دمشق على عهد الأيوبيين.
وتابع دراساته، وواصل نشر كتبه حتى بلغت العشرين، فنقل رمن الربوع التي أحبها، وعاش بين جدرانها، إلى باريس وعين أستاذاً في (الكوليبح دفرانس) وهي مرتبة لا يبلغها إلا الصابرون المجاهدون من العلماء في فرنسة وعين كذلك مديراً للدراسات العليا في التاريخ الإسلامي بالسوربون. ولم تحبسه محاضراته وواجباته الجامعية عن متابعة التأليف والترجمة، فنشر كتابا بالفرنسية يعد أقوى مرجع في التعرف إلى (مصادر التاريخ الإسلامي) ذكر فيه الكتب العربية والغربية المخطوطة والمطبوعة التي تبحث في تاريخ الإسلام. ثم نشر كتاباً عن أخبار الصين والهند بالعربية وترجمة إلى الفرنسية. وأرسل إلى المطبعة منذ شهور ترجمة لأحد مؤرخي حلب في القديم. والكتاب ما يزال في سبيله إلى النور، بينما كان مترجمة يقاسي غصص الموت ويتوجه إلى الخلود.
وكأني بالعالم المؤرخ - وهو يبلغ الخمسين من عمره - قد أنهكه الدرس وحطمة الجهد، وأخذت منه المؤلفات ما أخذت من عباقرة الباحثين فنال منه المرض، ولم يثنه نصح الأطباء ورفق الأصدقاء حتى اختطفه الموت وهو يترجم ويصحح كتبه عن الشام والمسلمين، فقضى (وملازم المطبعة) بين يديه وترجمة التاريخ الإسلامي تحت وسادته، وأغمض عينيه على مصور الشام الذي صنع يزين غرفته وهو أشد ما يكون اطمئناناً إلى أنه مات بعد أن قضى للربوع التي أحب ما وجب، وللتاريخ الذي عشق ما استطاع.
فبكاء أصدقاؤه الذين عرفوا فيه التسامح والإخلاص، وبكاه طلابه الذين رأوا فيه دماثة الخلق وتواضع العلم وتفاني الأستاذ. ولاشك في أن حلب الشهباء ستجزيه أجر ما عمل، وتفيد من درسه، وتقتبس من بحثه، فتكمل ما لم من نص، وتنشر ما لم يتم من مخطوط. ولاشك في أن المؤرخين والباحثين عندما سيجدون في سيرته سيرة تحتذي وأسلوباً يقتفى وطريقة تتبع.
الدكتور سامي الدهان
القاهرة