مجلة الرسالة/العدد 878/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 878 الكتب [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1950 |
ساعات السحر
للدكتور أحمد زكي بك
هذا نموذج ناضج لأدب المقالة الدسمة ذات الموضوع الخصب. فليست هذه المقالات من هذا الطراز الذي كل هدفه إظهار المحصول اللغوي ولا شيء وراء هذا لضآلة موضوعها وفجاجته، ولا هي من هذا النمط المتهافت الأسلوب العامي الأداء.
ولكن ما هي السمات التي تطبع أدب الدكتور زكي بك؟
فالمقالة قد تتحد في جودة الأسلوب، ودسامة الموضوع، ثم هي تختلف في لباب الفكرة؛ وتتباين في جوهر الموضوع، فهناك المقالة التي تأخذ سندها قيضها من شاعرية الوجدان؛ وهناك المقالة التي تتخذ المنطق وسيلتها؛ والمقالة التي تستوحي روح العلم وتسير بوحي من هداه. ومن هذا الطراز مقالات هذا الكتاب. والذي أعنيه بروح العلم هو استشفاف روحه؛ واصطناع أسالبيه في البحث؛ فهو لا يسبح بك في تلك الأجواء المزيج من النور والظلام، أجواء الصوفية الوجدانية، ولا بلح الحاح أصحاب المنطق وعشاق التفلسف، بل أنت معه في ضوء العلم ووضوحه، وانآده ورزانته. وليس معنى هذا أنه يدخل بك في ميدان العلم وجفاف موضوعيته؛ كلا، بل هو يستوعب ويتشرب روح الموضوع عن طريق فكرة، ثم يأخذ في التفنن والإبداع الفني في تصوير معانيه وتجسيدها وابرازها وإشاعة الحياة في كل ما يعرض؛ فإذا هي قطع فنية من حيث العرض والتصوير علمية من حيث اعتمادها على دعائم الفكر. فإذا قيل أن بعض الكتاب يؤدب الفلسفة، وبعضهم يفلسف الأدب فالدكتور زكي يعلم الأدب ويؤدب العلم؛ لأنه قد وفق في تطعيم الأدب بروح العلم، أو في عرض العلم بحيوية الفن وجاذبيته. هذه هي السمات التي تطبع تلك المقالات التي جمعها الدكتور زكي في كتابه الأخير (ساعات السحر) فأنظر كيف يتناول موضوع الشباب فيلم به من جميع أطرافه في مقالة (يعجبني الشباب إذا) فيقول: (يعجبني الشباب إذا هو تأنق وترقق في غير أنوثة. فيعجبني فيه الوجه الطليق النظيف والشعر الممشوط، فتلك زينة خليقة بابن آدم. ومع هذا فهو عند العمل يخلع التأنق وينبو عن الترقق، فإن كان العمل زيتا أو فحما انغمس في الفحم والزيت ولم يشح بوجهه عن الأعفرة) وبصور دور الشباب إذا أدرك أن الصبا عهد متعة وكذلك عهد تحصيل. أما المتعة فلأن الشباب أقدر على متعة وأحس لذته، وكل لذة عنده جديدة، وعمره بعد ذلك كعمر الورد قصير. وأما الدرس فلأن الدرس متعة الإنسان لنفسه، وعلى عمد يقيم بناء مستقبله، ومستقبله إذا ساء بكي عليه وبكي وحده وبكى حين لا ينفع بكاء.
ثم لأن الدرس حصة الإنسان في مواصلة المدينة ووفاء بمسؤولية للقبيل وللامة والجيل) وعلى هذا النسق من اتزان الفكر وعمقه وطلاوة العرض ودقته بقدم مقالاته عامة ومقالات هذا الكتاب خاصة.
محمد عبد الحليم أبو زيد
ملائكة وشياطين
للشاعر عبد الوهاب البياتي
ظل الشعر في العراق أقرب فنون الأدب إلى العراقيين. . .
ذلك لأنه قريب من ذلك المزاج العربي الأصيل الذي حفل بالشعر وجعله معبراً عن عواطفه وإحساسه.
وجاءت دوافع السياسة، وبواعث الحرية والاستقلال في أوائل القرن العشرين فأصبح الشعر معبراً عن آلام الملايين وأحلامهم، موقظاً الحماس، راسماً لهم الطريق السوي للانتصار في معركة الحرية، فرأينا موجة الشعر السياسي التي درسها صديقي الأستاذ إبراهيم الوائلي، ممثلة الثلاثة الأعلام من الشعراء العراقيين الكاظمي، والرصافي، والزهاوي. فطغى على سائر أغراض الشعر وظل الشعر السياسي في المقام الأول بعد الثورة العراقية، وإنشاء الحكومة الوطنية، ذلك لأن العراقيين الطامحين إلى حكومة مستقلة تمام الاستقلال، لم يرضوا بحكم تسيره يد خفية وتوجهه وفق مصالحها وأهدافها الخاصة، فضج الشعراء بالشكوى وناضلوا ضد طغيان الحكومات وتدخل الدخلاء، واضطراب الحياة الدستورية. . وما زال بين الشعراء العراقيين من يترصد الحوادث على مسرح الحياة السياسية ليعبر عن رأيه شعر!!
ولا تظن أن العرق أتصل بالثقافة الغربية، والحضارة الأوربية منذ أمد بعيد؛ فالظاهر أن حوادث السياسة، وتناحر الناس، ونضالهم لتأسيس نظام حكومي متقن صرفهم عن التطلع إلى تلك الآفاق البعيدة في محيط الغرب. غير أن الحرب العالمية الثانية في الفكر والثقافة وأمور الحياة. ففتح الجيل الحاضر عينيه على بيئة قاسية على نفسه، بيئة يتراكم في أرجائها ترأت عظيم من التقاليد الشرقية المحافظة. وهو بعد ذلك يسمع ويقرأ مما عبر إليه الآفاق الرحبة، والآماد البعيدة، وثارت نفسه على تلك البيئة التي لم تحترم هواه، ولم تنفس عن أماني نفسه.
فنشأ عندنا الشعر المنطلق في تعبيره، المنطلق في إحساسه.
وهو بعد أثر من آثار الكبت العاطفي، والحرمان الطويل. .
ولا يكلفك التنقيب عن ذلك مشقة. فسأحدثك عن شاعر شاب يمثل تلك الفئة وهو الشاعر الشاب عبد الوهاب البياتي.
وأول ما يبهجني أن ديوان الشاعر يعطيك صورة واضحة لنفسه. صورة تكون لك الشخصية الفنية في أروع صورة، أدق ملامح، وأرهف تعبيراً.
فالشاعر المنعزل لا تفوتك صورته وهو في محراب العزلة حاملاً على عاتقه رفات أحلامه، وأوراقاً يابسة من آماله وأمانيه:
يا قلب ماذا!. . . كل لحن مات في قيثارتي
اليأس والأوهام والحلم الوجيع ودمعتي
حتى خيالات الجنون تنفست في عزلتي
ولهاثها المسنوم أمطار تسيل بظلمتي
هذا اليأس المرير، والنغم الباكي يلاحظان في كل قصيدة من قصائد الديوان.
وفي كل قصيدة من قصائده تجد هذه العناصر مجتمعة: أسى ومرارة وحرمانا وظمأ ولهفة روحية وضيقاً بالواقع، وخيالا نخلقه تلك النفس التواقة إلى الحرية. حتى حبه الذي يطالعنا به الديوان خيال، وجبيبتة فكرة بلورتها تلك اللهفة الظامئة أنظر إليه كيف يصور محبوبته في قصيدة بعنوان (إليها)
فكرت أنت جسمت أشواقي ... وأضاءت بنورها أعماقي
واستحمت من قبل ميلان فكري ... في خيال الطبيعة الخلاق صورة أنت من قديم الزمان ... رسمتها مدامع الحرمان
وشعاع الخلود أضفي عليها ... رائعات الظلال والألوان
فالحب عنده تلك اللهفة إلى المجهول، وذلك الشوق الهائم إلى الصدر الحنون والقلب الرءوم، والنفس الحادية التي تفيض ظلالها العذبة على الشباب المحزون. والديوان كله لا يعطيك صورة لامرأة بعينها بحيث تحس بكيانها المميز، وشخصيتها الواضحة. بل هي فكرة من الفكر. . أو عاطفة من عواطف الشاعر الظامئ إلى صورة مثالية تتكون ملاحمها من الرقة العذبة، والحنان والحب!!
فهذا الحرمان الواضح في الديوان مد الشاعر بقوة على الخلق الفني الممتاز، وأرهف حسه، وجعله يهيم في عوالم من خياله، وانسراح عاطفتهّ. . وفي الديوان رحلات جميلة في عالم الشعور. . . رحلات الحالم المنزوي بصومعة من أحلامه:
وما ذلك الحالم النزوي ... بصومعة الفكر إلا خيال
يحس بصوت الحياة البغيض ... يناديه في قسوة أن تعال
فيمعن في حلمه ساخراً ... بأطيافها الشاحبات الثقال
بمهزلة قيل عنها: الشروق ... بأفكوهة قيل عنها: الزوال!
وأغلب قصائد الديوان صور وهياكل لصور بعضها موقف أعظم التوفيق لنقل الإحساس إليك. ولا تنتظر مني أن أنقل إليك بعض تلك الصور لأنني أود أن تطالعها هناك في الديوان لتطلع على ناحية مشرقة في الشعر العراقي الحديث. . .
إلى هنا أقف مع الشاعر الشاب لأنفذ إلى بعض المآخذ في الديوان!
وأهم تلك المآخذ ذلك الاضطراب الذي تلاحظه في بعض القصائد، وهو راجع إلى تلك الصور المبهمة التي يخلقها الشاعر، وإلى ذلك الانطلاق في التعبير، والانسياق مع عاطفة غامضة، أو شعور يحسبه ولا يبينه. . وأحس صورة لذلك الاضطراب (حانة الشيطان) فهي قصيدة (سائحة!) لا ترتبط مقاطعها برابطة، ولا تنتظم بوحدة من فكر أو شعور. . تقرأها فسرعان ما تحس بتواكب الصور التي تدفعك في اتجاهات مختلفة، وتنقلك من محل إلى آخر وأنت لا تعرف على أي نظام تسير!
ففي بداية القصيدة تصور بعينين (أطلق جفنها السهر) - يقصد جفنهما! - و (فم على الأقداح يحتضر!). . ويختتم المقطع الأول بأن جراح الكأس نكأت فارتعشت (آه) يقص جناحها الضجر! وفي المقطع الثاني يصف هذه (آه) كأنها المصباح في الحان، أو كأنها عينان من حجراً - ولا نعرف الصلة بين المشبه والمشبه به!! - وعلى مثل هذه الرابطة تمضي القصيدة. . .
وليس هذا كل ما يلاحظ في الديوان. فهناك تشابيه متضاربة لشيء واحد مثل قوله:
عيناك عاصفة هبت وما تركت ... على صباي سوى طيف من السقم
عيناك مقبرة في صمتها نسجت ... عناكب اليأس أكفانا من الظلم
ولك أن توفق بين العاصفة والمقبرة الصامته!!
وفي الديوان كثير من التعابير لم أستسغها من نوع (النجم) فيه ضحكة سوداء أيبسها الأوام) و (حيث الأزاهير لا تضيق إلا على همس الطريق) وآه (كأنها عينان من حجراً أهدابها أنفاس سكران)!! ومثل هذه التعابير.
ولكن هذه المآخذ القليلة لا تمنعنا من أن تقول: أنه شاعر موهوب.
غائب طعمة فرحان