الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 876/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 876/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 876
الأدب والفن في أسبوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 04 - 1950


للأستاذ عباس خضر

في مناقشة رسالة جامعية

نوقشت الرسالة المقدمة من السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) للحصول على الدكتوراه في الأدب من جامعة فؤاد الأول يوم الخميس الماضي بكلية الآداب، وكانت لجنة المناقشة مكونة من معالي الدكتور طه حسين بك، وهو الأستاذ المشرف على الرسالة، ومن الأستاذ إبراهيم مصطفى والدكتور زكي حسن والدكتور فؤاد حسنين والأستاذ مصطفى السقا.

وموضوع الرسالة (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري - تحقيق ودرس) وقد بدأت السيدة صاحبة الرسالة بالحديث عن موضوعها، فقالت إن ما حببه إليها واسترعى اهتمامها به هو الحياة الإنسانية عند أبي العلاء، وهي تتجلى خاصة في رسالة الغفران، وذكرت جهدها في جمع النسخ المخطوطة ومقابلتها وتفسير ألفاظها والتعريف بمن جاء فيها من الأعلام وما ورد بها من الأماكن، ثم بينت أهم الموضوعات التي تناولتها بالدراسة، من دراسة حول النص، والمعالم الكبرى في رسالة الغفران، وموضوعات هذه الرسالة، وخصائصها، ومكانها من أدب أبي العلاء، ومقارنة هذا اللون من الأدب بأشباهه في الأدب الأوربي. وما إلى ذلك.

والموضوع - كما ترى - خشن. . . وخاصة تحقيق النص؛ فكان موضع العجب ومثار الإعجاب أن تنهض بأعبائه سيدة ويظهر أن قيامها بهذا العمل قد أغرى بها الأستاذة الممتحنين، فاشتدوا في مناقشتها وحاسبوها حساباً عسيراً أشبه بمواقف الحساب في العالم الآخر الذي تحدثت عنه رسالة الغفران. . . كما يظهر أن هذا الجهد العسير قد حملها على الاعتزاز به - قبل المناقشة والمحاسبة - فكانت تتحدث عنه مزهوة ولم تنتظر حكم المحكمين ولم تعبأ بكل ما قيل عن التواضع ومزاياه. . . فأنبري لها معالي الدكتور طه حسين بك وسلقها على هذا المسلك، ولكنها صمدت له، وكان المظنون أن تنسحب باكية، فكان صمودها موضع العجب ومثار الإعجاب مرة أخرى، وظلت تلاقي المكاره التي حفت بها (جنة الدكتوراه) حتى ظفرت بها أخيراً بتقدير ممتاز وقد بدأ الدكتور طه حسين بك مناقشته بالثناء على هذا العمل الأدبي الذي قامت به السيدة، فوصفه بأنه عمل خطير، قائلاً: إنها قدمت نصاً محققاً ميسر الفهم قد بعد أشد البعد عن التشويه والاضطراب، وقد كانت دراسة أبي العلاء مهملة فحمل عليه كثير من الأكاذيب، وقد أحسنت بهذا العمل إلى أبي العلاء وإلى العلم، وقدمت إلى عالم الأدب خدمة جليلة تستحق عليها شكراً أي شكر وثناء أي ثناء، وتغيرت نبرة معاليه في صوته المعبر وهو ينتقل من هذا الثناء، فيقول: كل هذا لاشك فيه، وإنما الشيء الذي فيه شك هو أنك تشعرين شعوراً قوياً بجلال العمل، وهذا أول ما تؤاخذين به من نقد، فأنت أثرة مستأثرة جئت تلتمسين الموافقة على جهدك وقد وافقت أنت عليه من قبل، ولم تنتظري التشجيع فشجعت نفسك بنفسك، وأثنيت عليها ثناء مسرفاً، وليس أبغض إلى الله من الثناء على النفس لما فيه من الرياء والغرور، وكنت أحب أن تقبلي علينا متواضعة راضية، بما قدمت من جهد منتظرة رأينا فيك وفي عملك، وأنت لا تكتفين بذلك وإنما تهاجمين غيرك في الموازنة بين النص الذي تقدمينه وبين ما نشر قبله. وكان يجب أن تتركي لنا هذا، ولكنك تأبين إلا أن تتناولي النصوص مشنعة، وليس التشنيع من الحث العلمي، وإنما هو أقرب إلى الصحافة وإلى الصحافة المهوشة. . وعسى أن تكون خطورة هذه المسألة من أنك لم تنسى بعد ما يتصف به الطلاب الشبان من الطموح إلى التفوق والحرص على السبق وإرضاء الأستاذ فكأنك حريصة على أن تكون الأولى كما يفعل التلاميذ في المدارس الثانوية. عقلك عالم ولكن خلقك شاب، والشاب الذي لم يجرب هو الذي يريد أن يسبق. والنصيحة التي أقدمها إليك تنحصر في جملة واحدة قد أخذناها عن شيوخنا في الأزهر وهي: من تواضع لله رفعه.

وبعد ذلك لاحظ معاليه أنها تذكر كلمة (المنهج) مطلقة من غير إضافة لشيء كالجامعة مثلاً، وخاطبها قائلاً: مادمت حريصة على المنهج فتعالي أناقشك، وناقشها في عدة مسائل، منها أنها تحدثت عن سياسة العرب الإسلامية أيام رسالة الغفران من أفق عال من حيث التحدث عن الملوك والأمراء، وأهملت عنصر الحياة الشعبية والاجتماعية مع ما لهذا من أثر في أدب أبي العلاء، كتشاؤمه الذي يرجع إلى اضطراب الحياة الاجتماعية واختلاف الطبقات. ومما ناقشها فيه قولها: إن أبا العلاء رجل محروم مكبوت، لأنه لما يئس من العفة تشاءم.

قال الدكتور طه: إن أحداً لم يسيء إلى أبي العلاء كما أسأت إليه بهذا القول، هل كان أبو العلاء حريصاً على الاستمتاع ثم زهد عن عجز؟ تقولين هذا ثم تدعين أنك تكبرينه، ولم تأت بنص واحد يثبت أن كان حريصاً على اللذات، لقد كان أبو العلاء يرى أن اللذات الكبرى هي التي لا ألم وراءها كان يرى الإنسان حقيراً وحياته لا تستحق العناية، كان يقول:

ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسنه

لقد خدعك ما يكتبه الأوربيون عن الكبت والحرمان وقد سمعت في مصر وفي الشام ما قيل من أن أبا العلاء حمل على المرأة لأنه لم يستطع أن ينالها، وهذا ليس من الإكبار لأبي العلاء في شيء.

وأذكر أني قرأت هذا الرأي الذي أشار إليه معالي الدكتور طه حسين بك، في كتاب (رأي في أبي العلاء) للأستاذ أمين الخولي، وقد سمعت ما قاله الدكتور في تفنيده وتفنيد ما جاء متصلا به في الرسالة موضوع المناقشة، فلم تقتنع نفسي بهذا التفنيد، لأن تحقير أبي العلاء للذات الحياة لا يمنع أن تكون رغبته فيها كامنة، ولا أقول بأنه يرائي، إنما كان تحقيره قائماً في شعوره الظاهر على سطح ما استسر في غريزته، وعلى ذلك ليس من الممكنات الإتيان بنص يثبت حرصه على اللذات، وليس ما يقوله في الزهد والإعراض عنها دليلاً على عدم الرغبة لما كبتت ولدت النفور. ولست أدري لماذا لا نأخذ في هذه المسألة بما يكتبه لأوربيون عن الحرمان والكبت والشعور الظاهر والعقل الباطن.

ولولا أن صوت الدكتور طه حسين معبراً لما وقفت عند ذكره الصحافة في مقابل البحث العلمي. ولست أريد أن أعرض لما عساه أن يكون قد قصده من أن اشتغال صاحبة الرسالة بالصحافة غلب عليها في جزء من دراستها وهو الخاص بالطعن والتشنيع على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران، ولكني أقول إن فضل الصحافة في تقديم الأدب إلى الناس لا ينكر، وإن قسماً كبيراً جداً من إنتاج أدبائنا وخاصة كبارهم رآه القراء أول ما رأوه على صفحات المجلات والجرائد، وأقول أكثر من ذلك: إن كل أدبائنا الكبار منسوبون إلى الصحافة وقد كاد العميد الكبير أن يكون نقيب الصحفيين كما يعرف القراء مما جرى في آخر عهد الوزارة السابقة، ولعل اسم معاليه لا يزال إلى الآن مقيد في جدول الصحفيين.

لم هذا الشعر الرمزي؟:

في عدد أبريل الحالي من زميلتنا مجلة (الكتاب) كلام للدكتور بشر فارس، عنوانه (الشاطئ الحافل) وأوله:

أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل

إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر

ذوات الرغبات الخساس

عاجزات، غيارى

فتموت.

وقد كتب تحت العنوان (شعر) لكي يلقى القارئ باله إلى - أن هذا الكلام شعر. . . أو لكي يزول عنه الشك في أنه شعر وإن كانت هذه الكلمة غير كافية لإزالة الشك، فلا أقل من أن يقال: والله العظيم أنه شعر! وقد علق عليه الأستاذ عادل الغضبان بكلمة أنكر فيها نسبة هذا الكلام إلى الشعر، حتى الشعر الرمزي القائم على التعريض والكناية، بل هو (إبراز المضمر واستنباط ما وراء الحس من المحسوس وتدرين اللوامع والبوادء) وماذا يعني؟ والله أعلم! خذ مثلا (إبراز المضمر) هل أبرز في ذلك (الشعر) مضمراً؟ ألست تراه - على العكس - زاده إضماراً على إضمار؟ وأنا أفهم أن ما يقع عليه الحس هو المحسوس، أما ما وراء الحس فكيف يكون محسوساً؟ وأما (اللوامع والبواده) فكل شاعر يدونها، ولكنه كلام غريب! والمطلوب أن يدهش وأن تصرف غرابته عن طلب ما وراءه!

أقصد بعد ذلك إلى الأستاذ إبراهيم الأبياري الذي كتب في بي نفس العدد مقالا بعنوان (الرمز في الشعر العربي) وغاية المراد هي الرمزية في شعر الدكتور بشر فارس، وقد (بدهني) من هذا المقال أن الأستاذ الأبياري تحول فيه من الأغراب اللغوي إلى الأغراب ب (اللوامع والبواده). عرف الأستاذ (الرمزية البشرية الفارسية) بأنها (رمزية الصورة وهي أن ينعقد فكر الشاعر على حقيقة ما فيحليها خيالاً، يختار له صورة تتفق ومعناه ثم يذهب يضم إليها ما يشبع نواحي تلك الصورة المتخيلة إشباعاً) وكل شاعر ينعقد فكره على حقيقة يحيلها خيالاً يصوره ويشبعه إشباعاً، فما الجديد؟

وليقل الأستاذ الأبياري ما يقول، ولينجز ما وعد أو توعد به من إطالة الحديث في هذا الباب والتقعيد له. . إنما أريد أن أقف معه إزاء (الشاطئ الحافل) أو (الشاطئ الحافي) كما ينبغي أن يقال ليكون أشد إمعاناً في الرمزية! ولننظر في الفقرات السابقة التي نقلتها من أول (القصيدة) ما هي الحقيقة التي أنعقد عليها فكر الشاعر. . الخ؟ ولنفرض أننا استطعنا - بعد الكد وحمل النفس على مالا تستطيب - أن ندرك ما يرمى إليه القائل، فما غاية هذا العناء؟ وما محصوله! وهل فيه جمال من جمال الفنون!

لطالما أسمعني الدكتور بشر فارس من أمثال ذلك (الشعر) - عفا الله عنه لحسن نيته! - وأنا أقول له: إني لا أفهم شيئاً، فيحاول أن يبين، وكنت أحياناً أصل إلى أنه يريد شيئاً، ولكن لا أجد هذا الشيء يستحق كل ذلك الشقاء، شقاءه وشقائي. . وقد رثيت لهذا الصديق الطيب وأشفقت عليه مما يعانيه، ولكني أرى العدوى تصل إلى صديق آخر طيب أيضاً، هو الأستاذ الأبياري، وقد بئست من الأول، وبقى لي أمل في الثاني، لعله يبين لنا الحقيقة والصورة وما أكلت منه حتى شبعت، على أن يذكر فائدة هذا اللون من الكلام وهل فيه ما نطلب في الشعر من متعة فنية، أو هو كلام غير مألوف والسلام. . .

شكاية أديب:

(طالعت في كشكولك الأسبوعي قولك (إن الأدباء هم الطائفة الوحيدة التي ليس لها شمل ملتئم، وهم في البلد الذي تنال فيه الحقوق بقوة الجماعات) ولقد أثارني هذا القول، فإن جريدة الأهرام - كما قد تعلم - أخرجتني من وظيفتي بوزارة المعارف لأتفرغ للتحرير فيها، ثم تخلت عني دون مبرر ولا موجب، فلجأت إلى نقابة الصحفيين - وأنا عضو فيها - ولكن النقابة لم تنصفني، بل ولم تأذن لي بمخاصمة الجريدة المذكورة، فهل رأيت في الدنيا موقفاً أعجب من هذا؟! لبثت قضيتي مطروحة على مجلس النقابة أكثر من ستة اشهر، حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، وأخيراً لجأت إلى القضاء مطالباً جريدة الأهرام بتعويض مقداره خمسة آلاف جنيه وسوف تعرض الدعوى على محكمة الإسكندرية الابتدائية في 16 أبريل، فأين يا أخي عباس الطائفة التي تدافع عن الصحفيين بعد أن خذلتني نقابة الصحفيين التي ادفع اشتراكها السنوي وأقوم بالتزاماتها جميعاً؟!)

منصور جاب الله هذا بعض رسالة تلقيتها من الأديب الفاضل والصديق الكريم الأستاذ منصور جاب الله. وأنا حقاً أعلم قصته مع (الأهرام) وهي قصة يعرف مطلعها القراء، من مقالاته وتحقيقاته الصحفية، التي تدل على الاطلاع الواسع والذوق المصقول. وقد كان يوالي الكتابة بالأهرام وهو موظف، وكان المغفور له أنطون الجميل باشا يعرف قدره، وقد طلب إليه في سبتمبر سنة 1947 الانقطاع للتحرير بالجريدة، وكان الأستاذ منصور حريصاً على الإقامة بالإسكندرية لملاءمة جوها لحالته الصحية، فاتفق معه على أن يكون محرراً مقيماً بالإسكندرية، وعلى ذلك استقال من الوظيفة الحكومية، وظل يراسل الأهرام ويكتب إليها من هناك. وفي نوفمبر سنة 1948 أصدرت الجريدة إليه أمراً بالانتقال إلى القاهرة وإلا عدّ مفصولاً، فلما أعتذر بأن هذا مخالف للاتفاق انقطعت عن موافاته بمرتبة ثم قررت فصله.

وأنا لا أريد أن أتعرض للأمر من الناحية القضائية ولا من ناحية النقابة، وإنما أنظر إليه من الناحية الأدبية بالنسبة إلى الصحيفة الكبيرة ذات الماضي النبيل في معاملة محرريها وسائر موظفيها وبالنسبة للأستاذ منصور الذي خدمها متطوعاً وضحى بوظيفته ليكون من جنود صاحبة الجلالة بها، وإذا هو أخيراً يجد نفسه على قارعة الطريق. .

ما كان ضر الأهرام لو أبقته يوالي عمله بالإسكندرية كما كان؟

وليت شعري كيف يضيق صدرها الواسع بكاتب مثل منصور جاب الله؟ لقد عرفنا الأهرام مثالا لحسن المعاملة وتقدير العاملين بها، وكان يضرب بها المثل في ذلك بين الصحف، فماذا جرى؟ ما كان ينبغي قط أن يصل الأمر بينها وبين أحد لا إلى النقابة ولا إلى القضاء.

ولقد ترددت في إثارة هذا الموضوع هنا، ولكن الكاتب الأديب الأستاذ منصور جاب الله في محنة، ومن حقه أن يرفع صوته بالشكوى.

عباس خضر