مجلة الرسالة/العدد 875/مصر بين التكتل والحياد
→ الشعر المصري في مائة عام: | مجلة الرسالة - العدد 875 مصر بين التكتل والحياد [[مؤلف:|]] |
الأزهر في مفترق الطرق ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1950 |
للأستاذ ثروت اباظة
(يا عم واحنا مالنا) تعبير يطلقه قوم منا، يحافظون على جهده وما سعهم الجهد، يكفي الفرد منهم أن يلقي إلى داره نظرة وإلى جيبه أخرى حتى إذا اطمئن إلى قوت يومه ورأى قوت الغد على بعد يحتاج منه إلى أيسر محاولة لوى عنه عنقه وأغمض عينيه وأطلق القولة المستكينة (يا عم واحنا ما لنا).
ونحن اليوم نتساءل أنشارك في المعترك الدولي ونصير دولة تؤيد وجودها بالعمل إلى جانب الأمم أم نقبع، في شمالنا الشرقي من أفريقيا ننظر، فإذا أعجبنا أمر استل كتابنا أقلامهم يمدحون، وإن غضبوا شحذوها ناقدين. نتساءل فيما لا تساؤل فيه إن كنا نريد العالم ليقول عن مصر إن شعارها الأوحد (يا عم واحنا ما لنا) فنوما، أو يقظة المتفرج لا يشارك بغير التصفيق أو السخط. . . وإن شئنا من العالم نظرة ترفعنا إلى مستوى الأمم العاملة في الحياة، المشاركة فيها بالسيف والثقافة، وإن شئنا أن نثبت للعالم أن جيوش الفراعنة ومحمد علي هي هي جيوش الفاروق، وأنها ليست - كما يظنون - جيوشا حسها من القتال السير في التوديع والاستقبال. . إن شئنا ذلك فلهم!
ويا أيها الشباب أني أعيذكم وأنتم بواكير الأمل أن تمدوا إلى الأماني أدرعا مسترخية لينة، فإنها - لا عفاها الله - قتالة الحسن، فتاكة الجمال، تبدو في الملاحة المشرقة وتقتل في السكرة المنتشية والإيناس البهيج، ها هي ذي تشير إلينا نحن الشباب أن نهب خلفها مرددين إن مصر قوية بجيوشها، عتيدة برجالها، جبارة بعتادها. . . كلام إن قلناه فارت منا الدماء وثارت فينا الوطنية بعاطفة حادة لا سبيل لنا عليها - حتى إذا أطلقنا فيها العقل وقيدن منها الثائر وجدنا قولنا قولا لا برهان وراءه، فإن أكبر الجيوش اليوم لا تستطيع مطلقا أن تعتمد على نفسها دون مؤازرة الغير.
إن ميزانية تركيا تقارب ميزانية مصر. وتركيا تنفق على جيشها نصف ميزانيتها، وهذه أكبر نسبة تنفقها دولة على جيشها، وقد استطاعت تركيا بذلك أن تكون جيشا يقف مع أكبر جيوش العالم على قدم، ومع ذلك فتركيا تعترف أن جيوشها لا تستطيع إلا أن توقف العدو حتى يدركها المدد. . . فهي في حاجة إلى مدد، وهي في حاجة إلى سند، وهي بذ تعترف.
أيها السادة، قال القدماء: إن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من ملك ربه، فإذا كان الإنسان هذا المخلوق الصغير لا يستطيع ذلك. فما ظنكم بالدولة؟ هل يمكنها أن تخرج من ملك ربها؟. . . إننا إذا أعلنا هذا الحياد كنا كمن رأى معركة ثائرة تتقاذف فيها الكراسي وتتطاير الأطباق وتتلاحق الهراوات، فجاء هو وجلس بين المتشاجرين، وصاح بأعلى صوته أنا لا شأن لي بعراككم فلا تصلوا إلي بأذى، ثم أغمض عينيه، وأقفل أذنيه، وأطبق شفتيه وأطمئن. هكذا يكون حيادنا. . حياد تحول بيننا وبينه طبيعة الأمور ومجريات السياسة الدولية.
حيادا نريد؟ فما هي الوسائل الواجب علينا لذلك؟ يجب علينا أن نعلن للدول الأخرى بموقفنا هذا، وأصبح لزاماً عليهم أن يخضعوا للقانون الدولي فلا يمدوا إلينا عدوانا. . ولكن إذا اعتدت علينا واحدة من الكتلتين. . . ماذا نفعل؟ نعلم أنه خرق للقوانين واعتداء على الحرمات الآمنة، وانحطاط في المعاملات الدولية. . نعلم ذلك ولكن ماذا نفعل؟. . نرد العدو ونذود عن الحياض، ونمنع الدمار. . ولكن. . وحدنا!! نستعين بالكتلة الأخرى. . لقد كنا محايدين. . سوف نقول لها دافعي عن الحرمات الدولية. . دافعي عن الشرف الحربي. . أدركي السلام العالمي بالحرب المدمرة. . قد تجيب هذه الكتلة وأن يكون الدافع لها واحدا من هذه الأسباب. . ستجيب ولكن لتقتضي الثمن. . الثمن الذي ما نزال نبذله حتى اليوم ولم نوفه. . حريتنا ثم حيادنا. . أي ثمن! تجربة عرفناها. . أنعيدها؟ الأمر لكم.
قد يرد على هذا بأن الأيام غير الأيام، وأن الذي حدث في الماضي لا يحدث اليوم، ولكن ألا ترون إلى موقفنا ونحن نلجأ إلى المدافع عنا كالطفل تمنع عن مساعدة صديقه حتى إذا تعثر صرخ إليه يستنجد فإذا أنجده فإنه لا يلبث ينفض عنه التراب ويسخر منه: (ألم أقل لك. . ألم أحذرك. . أنظر الآن ماذا فعلت بنفسك) كرامة مبذولة. . وخزي كبير!
قد تسارع الكتلة الأخرى إلى النجدة ولن تفعل إلا عن أنانية. . تسارع ولكن هذه المسارعة لن تكون مضمونة النتيجة؛ فهم لم يدرسوا في السلم وسائل الدفاع فرد العدو سيكون أمرا يقرب إلى الاستحالة وحجتهم في يدهم هكذا كان الأمر مع بلجيكا وهولندا.
أيها السادة. . أنحن الآن على حياد؟ أنشارك في كل هذه المؤتمرات ونقتبس من الغرب كل هذه الثقافات ونسمي أنفسنا على حياد؟ أي حياد؟
لعلكم نسيتم ذلك الحياد الذي إلتزمته بعض الدول في الحرب العالمية الأخيرة فكان هتلر يلتهمها الواحدة بعد الأخرى. . إن الأمم المحايدة حبات من الذرة يمر بها الديك فلا يبذل غير نبشة مخلب وانحناءة رأس ليلتقطها. . أما هذا الديك فقد أثبتت الحوادث العالمية وما تزال تثبت أنه ما تكون إلا من تكتل وتضامن.
إن الحياد أيها السادة أصبح تقليدا عتيقا أشبه ما يكون بموظف ترك الخدمة فأصبح ولا عمل له إلا قهوة وطاولة في انتظار الصباح، وجريدة وشيشة في المساء. . فهو يقضيها أيام انتظار بلا أمل. . ويقطعها أمسيات نوم بلا غد. . ولن تصبح مصر أمة على المعاش وشيوخها شيوخها، وشبابها أنتم، ومليكها الفاروق.
ثروت أباظة