الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 875/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة/العدد 875/صور من الشعر الحديث في العراق

بتاريخ: 10 - 04 - 1950


للأستاذ إبراهيم الوائلي

الرصافي

وفي قصيدة للرصافي (رقية الصريع) استعراض لموظفي الأتراك والطرق التي يسلكونها لبلوغ المراكز الحكومية والوصول إلى كراسي الوظائف. وتبدأ هذه القصيدة بالحنين إلى العدل الذي طال انتظاره وضاق الصبر عنه، وبالسخط على هذه الحكومة التي انحرفت عن الطريق المستقيم فنشرت الفظائع وكتبت صكوك العدل حبراً على ورق، وجعلت الوظائف سلعة تباع وتشترى، فلا يستطيع شراءها إلا الغني الجاهل بما نهب وارتشى، ويعجب الشاعر من أن هذه السوق التي تباع بها الوظائف وتشري تسمى دار الخلافة:

يا عدل طال الانتظار فعجل ... يا عدل ضاق الصبر عنك فأقبل

كيف القرار على أمور حكومة ... حادت بهن عن الطريق الأمثل

في الملك تفعل من فظائع جورها ... ما لم نقل ونقول ما لم نفعل

ملأت قراطيس الزمان كتابه ... للعدل وهي بحكمها لم تعدل

أضحت مناصبها تناع وتشترى ... فغدت تفوض للغنى الأجهل

تعطى مؤجلة لمن يبتاعها ... ومتى انقضى الأجل المسمى يعزل

فيروح يسري ثانيا وبما ارتشى ... قد عاد من أهل الثراء الأجزل

فيظل في دار الخلافة راشيا ... حتى يعود بمنصب كالأول

سوق تباع بها المراتب سميت ... دار الخلافة عند من لم يعقل؟!

ويعود الشاعر إلى رأيه السالف في هذه الحكومة المستبدة:

أبت السياسة أن تدوم حكومة ... خصت برأي مقدس لم يسأل

مثل الحكومة تستبد بحكمها ... مثل البناء على نقاً متهيل

ويتفق الرصافي مع الزهاوي في مروق الخليفة العثماني عن هدى النبي وتركه أحكام القرآن. ينفقان في الفكر والأسلوب والاستفهام الذي ينطوي على استنكار شديد لأعمال هذا الخليفة، فقد رأينا الزهاوي يثور على الخليفة ويشجب أعماله وذلك بقوله:

أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والنبي المبج ونرى الرصافي هنا يعيد هذه الثورة:

أيكون ظل الله تارك حكمه المنصوص في آي الكتاب المنزل؟

أم هل يكون خليفة لرسوله ... من حاد عن سنن النبي المرسل

وقصيدة عنوانها (آل السلطنة) وقد نظمها على اثر المرسوم الذي صدر بزيادة رواتب البيت المالك ومن يمت إليهم بالمصاهرة والقرابة في الوقت الذي كانت تركيا تعاني فيه نقصاً في الخزانة ومن هذه القصيدة:

هم يعدون بالمئات ذكورا ... وإناثا لهم قصور مشاله

أما حياة هؤلاء فإنهم:

يأكلون اللباب من كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالة

وهم في حيتهم هذه قد:

حملونا من عيشهم كل عبء ... ثم زادوا أصهارهم والكلالة

وهذه الحالة تدعو إلى الألم:

هي منهم دناءة وشنار ... وهي منا حماقة وضلاله

وقصيدة عنوانها (تنبيه النيام) وهي لا تقل ثورة وسخطا على القصائد التي مرت:

عجب لقوم يخضعون لدولة ... يسوسهم بالموبقات عميدها

وأعجب من ذا أنهم يرهبونها ... وأموالها منهم ومنهم جنودها

ولا نريد أن نطيل الأخذ من قصائد الرصافي أيام الاستبداد العثماني فهي كثيرة وكلها على وتيرة واحدة في الحث على النهوض وتحطيم الأصفاد وأغلال العبودية، وفي وصف الظلم الذي كان يقع على العراق وغير العراق من الخلفاء العثمانيين وولاتهم.

والآن ننتقل إلى المرحلة الثانية من شعره السياسي هي مرحلة الدستور. وسنجد الرصافي في هذه المرحلة باسم الثغر مطمئن النفس، هادئ الأعصاب لا جموح ولا ثورة، ولا سخط ولا تذمر لأنه استقبل عهداً جديداً كان يتمناه الأحرار ويعملون من اجله فجاءت الأمنية ناضجة دانية القطوف.

ونحن أن نجتزئ من شعره في هذه المناسبة ما يسمح به البحث وما يكفي في مجال الشاهد. قال في قصيدة عنوانها (بعد الدستور): سقتنا المعالي في سلافتها صرفا ... وغنت لنا الدنيا تهنئنا عزفا

وزفت لنا الدستور أحرار جيشنا ... فأهلا بما زفت وشكرا لمن زفا

ولاحت لنا حرية العيش عندما ... أماطت لنا الأحرار على وجهها سجفا

وهي قصيدة طويلة يتعرض بها لكامل باشا الصدر الأعظم الذي لم يعط هذه الصدارة حقها واختص بالحكم أنصاره ومعاونيه ونسي البلاد وأهلها حتى اغضب الدستور والأمة فثارت عليه.

نحا أن يتم الدست فيها لحزبه ... علينا وظن الأمر فيما نحا يخفى

لقد اغضب الدستور فعلا ونية ... ومن أعلنوا الدستور الشعب والصحفا

ثم يخاطب الصدر الجديد ومجلس النواب ويذكره بالعراق وما يجري به:

فيا أيها الصدر الجديد اتعظ به ... فإياك أن تطغي وأن تثني العطفا

ويا مجلس النواب سر غير عائر ... إلى المجد لا تلقي كلالا ولا ضعفا

ولا تنس مغبر العراق وأهله ... فإن البلاء الجم من حولنا احتفا

وقصيدة أخرى عنوانها (تموز الحرية) وتموز هو شهر يوليه وفيه كانت عودة الدستور:

إذا انقضى (مارت) فاكسر خلفه الكوزا ... وأجفل بتموز إن أدركت تموزا

أكرم بتموز شهرا إن عاشره ... قد كان للشرق إكراما وتعزيزا

شهر به الناس قد أضحت محررة ... من رق من كان يقفو إثر جنكيزا

ومن المصادفات الجميلة أن شهر تموز كان فيه انتصار الفرنسيين على الحكومة وهدمهم سجن الباستيل، فالرصافي يتحدث عن هذه المصادفة ويقارن بين انتصار الفرنسيين الثوار وبين انتصار الأحرار الدستوريين في تركيا:

سل أهل (باريز) عن تموز تلق لهم ... يوما به كان مشهود لباريزا

كانت لهم فيه لما ثار ثائرهم ... بسالة هدت الباستيل مبزوزا

وأن تموز شهر قام فيه لنا ... على البقاع لواء العز مركوزا

في شهر تموز صادفنا لم وعدت ... بيض الصوارم بالدستور تنجيزا

هي المساواة عمتنا فما تركت ... فضلا لبعض على بعض وتمييزا

ويستمر الرصافي على هذا النسق في مدح تموز حتى يتمنى أن ينظم النجوم ويخلطها بأقلام من الماس ومداد من الذهب على الأفق الرحيب مدحاً لهذا الشهر المبارك.

وقصيدة (المجلس العمومي) وفيها يشير إلى مجلس النواب التركي الذي كان انعقاده نتيجة للدستور:

يا شراق بشرك أبدى شمسك الفلك ... وزال عنك وعن آفاقك الحلك

أضحى بك القوم أحرار قد اعتصموا ... من النجاة بحبل ليس ينبتك

والقصيدة طويلة يدعو فيها الشاعر إلى نشر العلم والتعليم وتشييد المدارس لأن كل مدرسة تهدم سجنا لمن افسدوا في الأرض أو فتكوا.

ولا نستطيع بهذه المناسبة أن نغفل الإشارة إلى قصيدته: (وقفة عند قصر يلدز) وقد نظمها بعد خلع السلطان عبد الحميد ونفيه إلى سلانيك. وهنا يظهر الشاعر كل ما في نفسه من حنق وغيظ إزاء هذه القصر الذي شهد كثيراً من مصارع الأحرار كما شهد أقصى درجات البذخ والترف:

لمن القصر لا يجيب سؤالي ... آهلات ربوعه أم خوالي؟

مشمخر البناء حيث تراءى ... باليا مجده بللا الأطلال

لم تصبه زلازل الأرض لكن ... قد رمته السماء بالزلزال

ثم يخاطب القصر:

قصر عبد الحميد أنت ولكن ... أين يا قصر أين عرش الجلال

أين خاقانك الذي كان يدعى ... قاسم الرزق باعث الآجال

ويشير إلى فترة الثلاثين سنة التي مرت بين إلغاء الدستور وعودته:

قد تخونتنا ثلاثين عاماً ... جئت فيها لنا بكل محال

تلك أعوام رفعة للأداني ... تلك أعوام حطة للأعالي

وبعد وقفة طويلة إلى جنب القصر يودعه بمثل ما حياه:

فابق يا قصر عانس الوجه كيما ... ينهض العدل ناشطا عن عقال

إنما نحن أمة تدرأ الضيم وتأبى أن تستكين لوالي

ويلاحظ أن الرصافي حين يتحدث بضمير المتكلمين في كل قصائده مما يدل على أن ميله للدستوريين وانحيازه إلى جانبهم لم يكن في حدود الشعور والتفكير فحسب وإنما كان في مجال العمل والسعي أيضاً.

هذه نماذج استعرضناها شاهدا على موقف الرصافي من الدستور وهي جزء مما نظمه في هذه المناسبة وقد دلت على ميله الشديد إلى الدستوريين وتأييده لمواقفهم.

هذا الشاعر الذي ثار على الاستبداد غير هباب ولا جل وحمل معول الشعر يهدم به صرح عبد الحميد مع الهادمين حتى استتبت الأمر وأعلن الدستور فاستبشر به وفرح وغنى مجد وجدناه إلى جانب ذلك يمدح الأتراك ويتقرب إلى بعض ولاتهم، وهذه هي النقطة الثالثة التي نحب أن نشير إليها عند الرصافي وندرسها على ضوء شعره لنرى إلى أي حد كان يميل إلى العثمانيين وفي أي نطاق كان يمدحه منهم. الذي تجب الإشارة إليه أن المدح الذي نقصده هنا لا يعني شعره في عودة الدستور الذي كان يستلزم أن يمدح به أنصار الدستور من الأتراك أنفسهم وإنما يعني المدح الذي قاله في غير هذه المناسبة حتى نستطيع أن نعد هذا الشعر مرحلة قائمة بذاتها ولونا يتميز عن الألوان الآخر.

للرصافي في مدح الأتراك قصائد نظمت في مناسبات خاصة كانت تستدعي الشاعر أن يستجيب لها ولم يكن في هذه القصائد كما يبدو - مدفوعاً بدافع الطمع أو الزلفى ولا مأخوذا بالمدح المجرد بل اتفق أن وجدت بعض الحوادث التي هزت إحساس الشاعر وأهابت به إلى أن ينظم فيها. ومن هذه القصائد قصيدة في مدح (حازم بك) والي بغداد وعنوانها (السد في بغداد) وكانت مناسبتها انكسار أحد السدود وتسرب المياه إلى بغداد وقد بذل هذا الوالي أقصى ما تستطيع لدرء الخطر عن المدينة ولم نحد في هذه القصيدة إلا وصفا للسد وحوادث الغرق التي نجمت عن انكساره؛ وفيها بعض الأبيات التي تشير إلى ما بذل الوالي من جهد يستحق التنويه به. وليس في القصيدة أي مدح للدولة العثمانية.

وقصيدة عنوانها (عند سياحة السلطان) نظما في مدح السلطان رشاد عندما ساح في بلاد الألبان ومقدونية إبان الفتن التي كانت تشعلها الأقطار البلقانية وكان للعرب نصيب كبير في إخماد تلك الفتن فكان أن تعرض الشاعر لهذا الحدث ومجد العرب ومواقفهم:

أما بنو العرب فالإخلاص يرفعهم ... إلى مقام على الأقوام ممتاز

إذ هم عماد لعرش أنت ماسكه ... فاضرب بغاث العدا منهم بأبواز

ولم يكن الشاعر ليمدح السلطان إلا لأنه كان متمسكا بالدستور: ماذا على ملك الدستور من وطن ... لو جال منه بأطراف وأجواز

فالقصيدة أذن مستوحاة من العقيدة الدينية والعاطفة القومية والمبدأ الدستوري وهذه المنابع الثلاثة تكفي لأن يبرر موقف الشاعر هنا.

وقصيدة عنوانها (الوطن والجهاد) قالها عندما الدولة العثمانية في الحرب العالمية الكبرى وقد دعا فيها العرب والمسلمين إلى الجهاد وقد شاركه في هذه كثير من الشعراء آنذاك، ولا لوم على الشاعر في هذه الصرخة ما دام المهابون هم الإفرنج وما دامت البلاد المغزوة هي بلاد المسلمين، وما دام الحكم التركي دستوريا:

يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا ... فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا

إن لم تموتوا كراما في مواطنكم ... متم أذلاء فيها ميتة الجبنا

لا عذر للمسلمين اليوم إن وهنوا ... في هوشة ذل فيها كل من وهنا

ويندد بموقف السلطان حسين كامل ووزيره حسين رشدي باشا في مصر لأنهما شايعا الإنجليز في هذه الحرب ولم يساعدوا الحكومة العثمانية في حربها مع الأعداء:

قل للحسيني في مصر رويدكما ... قد خنتما الله والإسلام والوطنا

شايعتما الإنجليز اليوم عن سنه ... فالله ما كان هذا منكما حسنا

كما ندد حافظ بثورة الهاشميين على الأتراك بتأييد الإنجليز.

وقصيدة عنوانها (نواح دجلة) وقد نظمها جواب على عتاب الشاعر التركي سليمان نظيف وكان هذا الشاعر قد نظم قصيدة يعاتب بها بغداد على أثر سقوطها بيد الإنجليز فأجابه الرصافي عليها، وقصيدة الرصافي هذه على ما بها من مدح للعثمانيين يبررها كونها مجاملة شاعر لصديقه وكونها نظمت بعد احتلال الإنجليز الذين لم يستقبلهم الشاعر - كأي شاعر آخر - إلا كما يستقبل أي فاتح مستعمر. ويظهر شاعرنا في هذه القصيدة بمظهر الوفي المحافظ على العهود فدجلة بعد العثمانيين قد أصبحت نهبه للعدو الجديد فلا مساؤها مساء ولا صباحها صباح وإنها تتمنى لو يغيثها أولئك الذين ألبسوها تاجاً من فخارهم ووشحوها براية الهلال:

كيف يغضون عن إغاثة واد ... زانه من ودادهم اوضاح

فعليه من فخر عثمان تاج ... وله راية الهلال وشاح ومع هذا فان الرصافي لم يترك عاطفة الوفاء تتغلب على نزعته الواقعية التي كانت تهاجم الأتراك وتثور على سياستهم بين حين وآخر؛ فهذا نهر دجلة يتحدث على لسان الشاعر قائلا:

أنا باق على الوفاء وأن كان ... بقلبي ممن احب جراح

فإليهم ومنهم اليوم اشكو ... بلغيهم شكايتي بأرياح

وإذا كان لا بد أن نقف لحظة مع المنددين بمواقف الرصافي إلى جانب الأتراك فإنما نقف معهم في قصيدته يمدح بها (مصطفى كمال) عندما انتصر على اليونان سنة 1923م أي في الوقت الذي كان يعيش فيه الرصافي تحت ظل الحكم الوطني في العراق وليست مآخذنا على الشاعر أن يمدح مصطفى كمال وهو محرر تركيا من استبداد السلاطين، ولا أن يمدحه في هذا الوقت والعراق ينتقل من استعمار إلى آخر وإنما نأخذ عليه اندفاع العاطفة في أقصى أشواطها إلى تهجين اليونان ونكران تاريخهم القديم وفضلهم على العقل البشري فيقول:

هم اليونان ألأم كل قوم ... وأخوف في الوغى من فرخ قبج

أرق سجية منهم وأرقى ... حمير الوحش سارحة بمرج

فلا تغررك أوجههم بياضا ... فان طباعهم كطباع زنج

وقد يكون عذر الشاعر أن هؤلاء الذين حاربهم مصطفى كامل هم من أوشاب اليونان.

هذا هو الرصافي في مواقفه السياسية؛ وهذا هو الرصافي الشاعر العاطفي كما عرفناه في حدود العاطفة التي لا تخضع لمقياس ولا تسير في خط واحد بل هي كصفحة الغدير تتموج في موكب النسيم وتثور في هبوب العاصفة وتهدأ حين تصفو الأجواء.

ولو أننا درسنا الرصافي في نطاق المتزمتين والسطحيين لأخرجنا الشعر عن طبيعته والشاعر عن مكانته، وليس هذا من النقد النزيه في شيء ولا من حق الشاعر في مكان.

إبراهيم الوائلي