مجلة الرسالة/العدد 874/فيرون
→ نظرات في الأدب والفن | مجلة الرسالة - العدد 874 فيرون [[مؤلف:|]] |
أحاديث عن جنوب الجزيرة ← |
بتاريخ: 03 - 04 - 1950 |
زعيم الشكاك اليونان
للأستاذ محمد محمود زيتون
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفضلاً عن ذلك، فأن التوقف لا يؤدي إلى الغاية التي ينشدها فيرون، فإذا كانت تلك الغاية هي السعادة. والسعادة شعور النفس بها عند الانتقال من ضدها وهو الشقاء، فإن انعدام الشقاء انعدام للشعور بالسعادة، وصدق الشاعر (وبضدها تتميز الأشياء). وفيرون إنما سعد ليشقى.
ثم إنه لم يفهم الألوهية، ولم يحاول فهمها، وقد أوتي وسيلة الفهم وهي العقل، وبذلك عطلها وأسقطها من حسابه، أما الخضوع للعرف والدين والقانون خضوعاً آلياً فذلك مما لا يبرره عقل صحيح لأنه إذ يعترف بأنها أمور اتفاقية اصطلح الناس عليها فيما بينهم فقد اعترف ضمناً بأن للفرد حظاً مشتركاً في إقامة صرح القانون، فما أشبه فيرون هنا بعابد الصنم وهو من صنع يده.
وشك عندي في أن فيرون قد تأثر كثيراً بالمذاهب الهندية القديمة، وآية ذلك ما يقوله (فيكتور كوزان (كانت الحقيقة المطلقة عند (كاريكا هي الإفطار المطلق) كما أن الآلام عند البرهميين لا تأتي إلا من الآمال، فالتزموا العزلة، والفارق مع ذلك واضح بين الفيرونية والسفسطائية: كان السفسطائي منكراً لكل شيء، ولكن فيرون لم ينف ولم يثبت. والسفسطة هدم العلم، والشك الفيروني توقف، والسفسطائيون كانوا يبتغون العز والجاه والأناقة وزهد فيرون كل ذلك. وهم لم ينتهجوا نهجاً حين يسفسطون، وهو على نهج واضح حين يشك.
وفيرون كان تلميذاً لمترودور (لا نستطيع أن نعرف شيئاً بل نحن لا نستطيع أن نعرف إن كنا نعرف أو لا نعرف) وهو أيضاً تلميذ لديمقريطس القائل (نحن لا نعرف من الحقيقة إلا ما يعرض لنا بحسب الحالة التي عليها أبداننا، وبحسب طبيعة ما يرد على حواسنا وما يصدر عنها).
والفارق بعيد أيضاً بين فيرون وسقراط. فقد كان كاهن إيليس شكاكاً بينما كان فيلسوف أثينا مؤمناً اعتبر سقراط العلم ورده إلى العقل، ورد إليه الأخلاق. أما فيرون فقال باللاأدرية وردها إلى الحس، ورد إليها تعليق الحكم. وكان سقراط مضطهداً بينما كان فيرون محترماً. وكلاهما - مع ذلك - زهد الحياة، وبشر بتعاليم جديدة أثر الشخصية في بثها أشد وأقوى من الثورة والدعوة، وكلاهما خضع للعرف، ولم يجار العامة في ديانتهم. توسل سقراط إلى السعادة بالعلم والفضيلة، وتوسل لها فيرون باللاأدرية واللامبالاة.
وأفلاطون اتهم الحواس التي لا يملك فيرون غيرها. وأنكر أفلاطون الجزيئات وهي الموجودات عند فيرون، حقائق الأشياء هي المثل عند أفلاطون، وهي غير معروفة إطلاقاً عند فيرون. والسعادة عند أستاذ تيمون في اللامبالاة، وعند أستاذ أرسطو في الموت، وهو التطهير، الخير عند فيرون وتلميذه صريع الشر وهو عند سقراط وتلميذه متحقق في أعماق النفس تحس به.
وأرسطو يقول بالاعتدال في كل الأمور، وفيرون يقول بالتوقف والحياد، وإزاء هذا المذهب الفيروني العجيب يقف تيمون يناجي أستاذه فيقول:
(فيرون: أيها الكهل النبيل! حدثني كيف وبأي وسيلة عرفت سبيل التخلص من نير المذاهب المستعبدة، والتعاليم السفسطائية الباطلة؟ حدثني كيف حطمت قيود الباطل، والاعتقاد التقليدي. وأنت الذي لم يأل جهداً في البحث عن طبيعة الهواء الذي يحيط ببلاد اليونان، وعن طبائع الأشياء وعن غايتها التي تنتهي إليها جميعاً).
ونرى من هذا كيف أن طرافة المذهب الفيروني ترجع إلى جريان المذاهب السابقة عليه في دمه، واستحالتها إلى لون جديد انتبه له المفكرون بعد أن نصلت الأنسجة السفسطائية وبهتت ألوانها.
على أن الشك من مستلزمات الفكر الحر ومن موجبات تقدمه، فأنبياء الله ورسله داخلهم الشك، آمن إبراهيم عليه السلام بربه، ولكن لم يطمئن قلبه حتى رأى من آيات الله ما رأى، وموسى عليه سلام الله ناجى ربه: (رب أرني أنظر إليك) ومحمد عليه الصلوات قال (أنا أولى بالشك من إبراهيم) ونحن ألسنا أولى بالشك من الأنبياء؟. ألم يقل رسول الله ﷺ لا تزالون تسألون عمن خلق الله، فقولوا: إن الله خالق كل شيء، وهو قبل كل شيء، وبعد كل شيء). وإذن فلا تنافي بين الشك والدين، كما لا تنافي بين الشك واليقين، لأن اليقين لا يزال بالشك كما يقول العسكري.
ومن فلاسفة الإسلام من اتخذ الشك المنهجي عكازاً إلى نور اليقين وزعيمهم فخر الرازي، فقد كان أستاذنا المرحوم (كراوس) المستشرق الألماني يعتبره زعيم المتشككين في الإسلام. وقد اصطنع المنهج الشكي أو الشك المنهجي حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كما هو واضح في كتابه أو اعترافاته (المنقذ من الضلال). وعند الواقفية من الجهمية مسحة من الشك في تعاليمهم لاتصال جهم بن صفوان بالشكاك الهنود، وسميت بالواقفية لأنها لم تقل بأن القرآن مخلوق أو ليس.
وكان الغزالي يعمل للعامة اعتباراً فوضع (إلجام العوام عن علم الكلام) وكتب السيوطي (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) وما أكثر تآمر الجهل والجمود على العلم والحرية، فقد اتخذ ديكارت منهجاً للشك بغية الوصول إلى الحقيقة والكشف عن القوانين العامة للعلوم وثار على خزعبلات المشايخ هيئة كبار العلماء في عصره. وكانت ثورته الفكرية قوامها هدم احتكار العلم فافتتح (المقال عن المنهج) بقوله (العقل أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالعدل) وإذ خشي انقضاض العلماء الرسميين عليه قال (من أحسن الهروب عاش سعيداً) وكان لقواعد منهجه في الشك أبعد الأثر في توجيه الفكر الإنساني إلى أبعد الغايات، وتابعه (كانت الذي نقد العقل، وبيكون الذي هدم (أصنام العقل) ليبني على أنقاضها منهجاً جديداً للتفكير والبحث في العلوم. وكذلك (بيل و (مونتني و (هيوم وغيرهم من الشكاك المحدثين والأقدمين.
هذا هو نفوذ المذهب الفيروني في كل ما جد من بعده من أفكار حصرناها على نطاق واسع جداً يضيق المقام هنا عن ذكر تفاصيله وتفاريعه. أما أثر فيرون فقد كان مباشراً في تلاميذه الذين انخرطوا في مدارس للشك لكل واحدة لونها وصبغتها، وإن كانوا يسمون كانوا رواد الحقيقة، فلما حاولوها ولم ينالوها سموا تحيروا وتوقفوا حيالها سموا فعلقوا أحكامهم، فسموا لم يطمئنوا إلى وجود الحقيقة التي أشكلت عليهم.
وكان أركاسيلاس وكاريناد أشهر المدرسة الاحتمالية، وكان أنسيدام وأغريبا أشهر المدرسة الجدلية، ثم جاءت أخيراً المدرسة التجريبية التي اشتهر فيها مينودوت وسكستوس من الأطباء الشكاك أو الشكاك الأطباء الذين كانوا حرباً على الفلاسفة والمناطقة والفيازقة ورجال الأخلاق وانتهوا إلى مذهبهم التجريبي في الشك الذي يقضي بالخضوع لتكاليف الطبيعة والرضوخ لقوانين الوطن وعوائده ومزاولة بعض الفنون، واتباع ما تأتي به الظواهر.
محمد محمود زيتون