الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 874/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 874/الكتب

بتاريخ: 03 - 04 - 1950


من وحي فلسطين

تأليف الأستاذ أحمد رمزي بك

بقلم الأستاذ كامل السواقيري

كانت مأساة فلسطين، وما ترتب عليها من نتائج صدمة عنيفة للأمة العربية، وضربة قاصمة للكيان العربي دفعت الكتاب والمؤرخين لتحليل أسبابها، وبحث نتائجها ومحاولة علاجها.

وانبرت أقلامهم تصور الفاجعة، وتصف الكارثة، وتلفت أنظار الساسة والزعماء في الأقطار العربية إلى ما يتهدد العالم العربي من أخطار جسيمة بسبب قيام دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا، واحتضنتها أمريكا واعترفت بها وجعلت منها دولة ذات حدود.

ومعظم هؤلاء الكتاب لم يكتبوا عن المأساة إلا بعد حدوثها ولم ينهوا الأذهان إلا بعد أن وقعت الواقعة، ودهمت الكارثة.

ولكن هناك كتاباً كانوا بعيدي النظر، ثاقبي الفكر، درسوا المقدمات، ورتبوا النتائج، وتنبئوا بالأحداث قبل وقوعها، وأحسوا بالخطر قبل حدوثه فكاشفوا أممهم بما في الجو من سحب، وبصروها بما تضمر الليالي، ونبهوها إلى السبيل الذي تنهجه لدرء الخطر، والحيلولة دون حدوثه فلم تشعرهم الآذان الصاغية ولا القلوب الواعية وفي طليعة أولئك الكتاب الاماجد علم من أعلام الأدباء في مصر، وحجة من أفذاذ التاريخ في هذا العصر، وركن من أركان النهضة العربية هو الأستاذ أحمد رمزي بك الذي أتاحت له خبرته ودرايته أن يلم بالمشكلة الفلسطينية، ويستقصي أسبابها ودوافعها ويتنبأ بهذه النتيجة التي وصلت إليها حيث كان قنصلاً عاماً لمصر في فلسطين وشرقي الأردن مدة تقرب من ثلاثة أعوام استطاع في غضونها، وهو العالم الأديب، أن يدرس ويحقق بعقل المؤرخ، وخيال الأديب، ونظر السياسي نواحي المشكلة وأخذ يومئذ ترسل الصرخات في أجواء العالم العربي، ويديح المقالات، ويذيع الأحاديث والمحاضرات ليوقظ الأمة من سباتها، ويحذر الساسة والحكام في هذا الشرق العربي من الخطر الصهيوني الرابض في فلسطين، ويهيب بأشبال العروبة أن يستأصلوا شأفته، قبل أن تمتد جذوره، ولم يكن ذلك الخطر يومئذ قد تفاقم أمره أو استفحل شره على الصورة التي نراها الآن.

ثم جمع الكاتب الفاضل تلك المقالات، وزاد عليها أبحاثاً لم تنشر ونسقها وأخرجها كتاباً سماه من وحي فلسطين.

وقد صدر الكتاب بمقدمة جليلة لمؤرخ نابه الذكر، وسياسي عظيم الخطر هو العلامة الكبير الأستاذ محمد توفيق السلحدار بك. وقد تصفحت الكتاب فوجدت المؤلف يحلق في أجواء بعيدة، ويتنقل في رياض متعددة، ويطرق نواحي مجهولة، ويضيء جوانب مظلمة ويقدم للقراء طعاماً شهياً، وماء نميراً من أدب قيم وفن رفيع، وحكمة سامية وفلسفة عالية وتوجيه سديد وإرشاد نافع، فتقرأه أدبياً يعلو خياله ومؤرخاً يصدق حكمه، وجغرافياً تتضح مصوراته، وفيلسوفاً تصدق نظرياته، ومرشداً تؤثر عظاته، وعالماً يغوص بك في أعماق المجهول.

فهو لا يكتفي بسرد الوقائع - وتسجيل الأحداث، وإيراد الحجج التي تؤيد أقواله، وتدعم آراءه، ولا يقف عند رواية الحوادث وتسلسلها بل يحلل الدوافع، ويحلي ما غمض، ويوضح ما اسبتهم حتى لترى الحقائق ظاهرة أمامك ظهور الشمس في رائعة النهار.

ولعل أهم ظاهرة برزت في ثنايا سفره هي الصراحة المطلقة التي اتسم بها أسلوبه حين نعى على الشرق انحلاله وتخاذله، وتهافت أبنائه على المصالح الذاتية، وتكالبهم على المنافع الشخصية مما أضعف عندهم المثل العليا والقيم الروحية، وجعلهم في معزل عن ضياء العلم، ونور الحضارة فلم يجاروا العصر الذري يعيشون فيه، ولم يسايروا الزمن بل ظلوا جامدين أمام عصر الآلة، قانعين بالسير على الخطوات التي عفا عليها الزمن.

(أن الشرق العربي الذي عاش مدة من الزمن تتناوبه السياسات والأهواء المختلفة نتيجة لتنازع الدول الكبرى والذي استمر أهله ينعمون بتجانس في الميول والآمال والأغراض فقنعوا بالسير على خطوات الحضارة الزراعية البطيئة والاكتفاء بالقليل قد ووجه بحقيقة جديدة هي ظهور الصناعة الآلية المعتمدة على العلم والمال.

إن مجيء الصهيونية تستعمر بلاد العرب كان بمثابة هزة عنيفة لهذا الشرق النائم فهل تكفي لإيقاظه من سباته حتى يقف ويستعد لمواجهة هذا الخطر الجديد ليدفعه بالقوة التي تتفق مع تاريخه القديم وأثره في قيادة هذا العالم).

وهو حين ينعى على قومه تخبطهم في خضم السياسة، وتيههم في صحاري الضلالات وارتجالهم في علاج المشكلات، لا يحاول تثبيط الهمم، ولا إضعاف العزائم بل يريد إيقاظ روح العمل، وبث الكفاح، ويدعو إلى استجلاء العظة والاعتبار بالدروس التي تلفتها هذا الشرق خلال ربع قرن من الزمان.

ويقسو قلم الكاتب، وتلتهب عباراته حين ينكر على الشرق إهمال الكفاءات العلمية والآلات الحديثة التي تمخض عنها القرن العشرون مع أن الحرب في هذه الأيام صراع فكري، ونضال عقلي، قبل أن تكون حرب طائرات ودبابات وقنابل ومتفجرات.

(أننا إزاء قوة تتطلب حشد كل ما لدينا من وسائل تحتم علينا أن نقف لمحاربتها بعقل وفكر وإرادة ولا يكون ذلك بغير العلم. العلم الذي هو قوة ثورية هائلة والذي يمكن صاحبه من القدرة والغلبة والانتصار. نعم سيكون العلم سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم).

ويشفع للكاتب في قسوته صدور كلامه عن قلب مفعم بالوطنية الصادقة، زاخر بالإخلاص للعروبة، فياض بالإيمان الثابت. ولذا نجده يرسم الطريق للوثبة العربية، والنهضة الإسلامية، مذكراً سكان هذا الشرق بمجدهم الغابر، وعزهم السالف وقوتهم المرهوبة يوم أظلتهم جميعاً راية الإسلام، ورفرفت عليهم أعلام الوحدة، وجمعتهم أواصر الدين.

ونورد هنا بعض الأبحاث التي تناولها الكتاب.

1 - فلسطين بين العرب والصهيونية 2 - أثر الكفاح من أجل فلسطين في يقظة العرب 3 - رأس النقب وخليج العقبة 4 - مصر العربية 5 - الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي 6 - العالم العربي والسياسة الدولية 7 - وحدة العالم الإسلامي في البحثين الأول والثاني يعرض الكاتب تاريخ الحركة الصهيونية والدوافع إليها، والأهداف التي ترمي إليها اليهودية العالمية من إنشاء وطن لليهود في فلسطين، ودعائم الاقتصاد اليهودي والوكالة اليهودية، وموقف بريطانيا من العرب واليهود. والصناعة اليهودية في الشرق. ثم يعقد مقارنة بين المعسكر العربي والمعسكر الصهيوني والقوة التي يستند إليها الجانبان. ومدى ما يمكن لكل قوة أن تفعله، وأساليب الحياة عند الجانبين، وإظهار الخطر الصهيوني، ونظرة اليهود للشرق.

يستهل المؤلف البحث الأول ببيان أهمية موقع فلسطين الجغرافي ومركزها الحيوي، وتوسطها بين أجزاء العالم العربي فيقول: (أنه يتوسط العالم وتظهر أهميته للعرب لأنه يقسم بلادهم شطرين الشطر الأسيوي والشطر الأفريقي فهو يتحكم في مصير الأمة العربية، وبوسعه أن يحول دون تحقيق أهداف الجامعة العربية) وينتقل بعد ذلك إلى بيان الروابط المتينة والأواصر القوية التي تجمع بين مصر وفلسطين وهي ناحية على جانب من الأهمية فيقول (من العبث الكلام عن هذا فهو معروف ثابت، وأهم منه أننا في مصر ننسى أو نحاول أن ننسى حقيقة ثابتة واضحة هي أن مصر وفلسطين عاشتا أكثر من ثمانية قرون معاً ولا يذهب المؤلف إلى العهود الفرعونية بل يقول (إن فلسطين عاشت مع مصر طوال الأيام الطولونية والإخشيدية والفاطمية وفي عهود الدول الأيوبية والتركية ودولة الجراكسة).

ويتحدث عن الخطر الصهيوني، ويوجه اللوم للذين يقللون من شأنه، ولا يصارحون الأمة بحقيقته لتقاومه فيقول:

(والحق أن الاكتفاء بالنبوءات لم يعد يكفي في حياة عالم دائم الحركة والتطور والتنقل ومع ذلك وقف جماعة من أهل هذا الشرق يحاولون الإقلال من شأن الحركة الصهيونية ومراميها وأهدافها وكان الواجب عليهم وضع الحقائق ظاهرة واضحة أمام جماهير الشعوب العربية، وكان فرضاً عليهم تفتيح الأذهان والعمل على جمع الشمل وحشد القوى المبعثرة، وتركيزها جميعاً نحو غرض واحد هو محاربة الصهيونية بأسلحة القرن العشرين. وكان أول عبء على المخلصين هو تفهم هذه الحركة ومراميها ثم الانتقال مرة واحدة إلى العمل المجهد الشاق وهو الأخذ بأسلحة الخصم لإمكان التغلب عليه. ولم يكن هذا السلاح سوى الأخذ بأنظمة جديدة لكيانها الاقتصادي أي الخروج من الحياة التي ألفناها إلى تنسيق نظام صناعي ومالي وثقافي يتفق مع القرن الذي نعيش فيه لكي ندخل المعركة ونحن على قدم المساواة في التنظيم والتعبئة والتسليح وهذا ما لم نوفق في الوصول إليه) وعن نظرة الصهيونية للشرق وسخريتهم من استقلال شعوبه يستشهد بما أدلى به موسى شرتوك وزير خارجية إسرائيل حالياً ورئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية في عهد الانتداب أمام لجنة التحقيق سنة 1946.

(البلاد العربية فقيرة، وعدد سكانها قليل، ولا صناعة فيها، وزراعتها متأخرة جداً ومواردها غير مستغلة، فاستقلالها السياسي إذن لا قيمة له ولا معنى؛ لأنه لا تطور ولا نماء فيها، والاستقلال الحقيقي هو استمرار النماء والبناء والتطور.

وعن رأيهم في أقطار الشرق يقول: (أن هناك حقيقة يجب أن ندركها تماماً وهي أن الصهيونيين ينظرون للشعوب العربية والشرقية كافة نظرة الأوروبي للشعوب التي لم تنضج بعد ولم تستكمل وعيها وفهمها لحقيقة الأشياء).

وهكذا يمضي الكاتب في كتابه متنقلاً من بحث إلى بحث ومن موضوع إلى آخر في أسلوب يمتاز برشاقة الألفاظ، ورصانة الكلمات، وجمال التعبير، ودقة الأداء ويقدم للقراء ثمار دراسته العالية، وثقافته الواسعة.

وبعد فأظنني قد قدمت للقراء لمحة عن هذا السفر الجليل وما به من عرض تاريخي، وتوجيه سياسي، ولا يسعني في ختام كلمتي إلا أن أعرب لحضرة المؤلف الفاضل عن تقديري لمجهوده العلمي فيما رجع إليه من أسانيد، وما قرأ من مراجع وأوجه لحضرته جزيل شكري على ما قدم لأمته من آراء، وما رصع به جبين العروبة من حلي، وما ألبسه للوطن العربي من حلل لن تبليها الأيام.

كامل السواقيري

ليسانس كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول