الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 873/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة/العدد 873/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة - العدد 873
صور من الشعر الحديث في العراق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 03 - 1950


للأستاذ إبراهيم الوائلي

الزهاوي

ويحتج الشاعر على هذا المنع:

بأي كتاب أم بأية سنة ... أصد مهاناً عن طريقي وأمنع

ولكن هذا الاحتجاج الصارخ لما يقابل بشيء غير التجسس ورفع التقارير إلى السلطات الحاكمة:

فما نبسوا لي بالجواب وإنما ... أعدوا جواسيساً ورائي تتبع

تراقب أفعالي وكل عشية ... إلى (يلدز) عني التقارير ترفع

ويتضح لنا أن الشاعر كان قد ذهب إلى تركيا مع رفاقه مطالبين بالحرية ورفع الظلم عن البلاد العربية وبخاصة العراق وقد كان لهذه المطالبة صدى معكوس في الدوائر الحاكمة. ويتضح لنا أيضاً أن الشاعر كان ذا خطر يخشى منه الحكام ويخافونه فلم يأمنوا جانبه إذا بقي في تركيا هو ورفاقه ولم يأمنوا جانبه إذا عاد إلى بلاده حراً طليقاً لذلك أعدوا له الأرصاد وبثوا له العيون وضيقوا عليه منافذ عيشه حتى أرجعوه محوطاً بالقوة التي لا ترحم وبالجواسيس الذين لا ذمة لهم، ولم يكن نصيب أصحابه بأقل من نصيبه فقد نفي كل واحد منهم إلى مكان وأبعد إلى منأى وعومل بمثل ما عومل به الشاعر. وهنا نترك مجال التعبير للشاعر نفسه يحدثنا عن مشهد من أشق المشاهد وأفجعها عليه وهو مشهد التوديع وما يبعثه من أسى ولوعة، مشهد الشاعر يودع أصحابه بقلب واجف مضطرب ودمع سخي متدفق، ومشهد أصحابه وهم يودعونه بمثل ما ودعهم به وكل واحد منهم محوط بفريق من الشرطة يسرعون به في طريق النفي والإبعاد:

أودعهم والقلب ممتلئ لهم ... حناناً وجفن العين بالدمع مترع

يشيعهم قلبي يسير وراءهم ... وقلبهم يمشي ورائي يشيع

يحيط بنا من كل صوب وجانب ... فريق من (البوليس) يسعى فيسرع

نبعد منفيين كل لبلده ... وما ذنبنا إلا نصائح تنفع

إذاً فلم يكن ذنب الشاعر حين لاقى ما لاقاه هو وأصحابه إلا الدعوة إلى الإ الحيف عن الشعوب المكبلة بالأغلال.

وتنتهي هذه القصة المؤلمة بالاستنكار لهذا الوضع الجائر ولتحمل الأذى والظلم، ووصف ما كان يلاقيه الشاعر من تهديد بالموت الذي هو خير من هذه الحياة الداكنة:

إلى أي وقت نعبد الظلم خشية ... فنسجد للقوم البغاة ونركع

حملنا الأذى حتى حنى من ظهورنا ... وقيل لنا لم يبق في القوس منزع

يهددني بالموت قوم وأنه ... لدون الذي من عسفهم أتجرع

وللموت خير من حياة مهانة ... يرى الحر وجه السوء فيها ويسمع

ويرسم لنا الزهاوي صورة أخرى لهذا الظلم. وقصة من تلك القصص التي تتجدد كلما تجدد والي أو حاكم. قصة الأحرار المشردين، والسكاكين التي تشحذ كل يوم، والرعية التي تساق سوق الأغنام، والرشوة التي قضت على معالم العدل وغيرت مجرى القوانين. كل ذلك نجده في قصيدته (الظلم والعدل):

تأن في الظلم تخفيفاً وتهويناً ... فالظلم يقتلنا والعدل يحيينا

يا مالكاً أمر هذي الناس في يده ... عامل برفق رعاياك المساكينا

لهوت عنا بما أوتيت من دعة ... فابيض ليلك واسودت ليالينا

ثم يستعرض بكاء الأرامل وتقتيل الشباب، وقسوة الولاة والرشوة وضياع العدل:

كم من نسوة قتلت ظلماً بعولتها ... فصرن يهملن دمعاً قبله صينا

وكم شباب من الأحرار قد هلكوا ... وللإرادات قد صاروا قرابينا

قست قلوب ولاة أنت مرسلهم ... كأنما الله لم يخلق بها لينا

تراهم أغبياء عند مصلحة ... وفي المفاسد تلقاهم شياطينا

وضاع في الملك عدل يستظل به ... ما بين إغماض مرشي وراشينا

إن الرعية أغنام يحد لها ... عمالك المستبدون السكاكينا

ولكن:

ما جاءنا الشر إلا من تهاوننا ... ما عمنا الظلم إلا من تغاضينا

إن في ديوان (الكلم المنظوم) كثيراً من هذا النغم الثائر الحزين الذي يتدفق عن حرارة ولهفة وينبع من أعماق النفس، وكله لا يختلف من حيث العاطفة المشبوبة والموسيقى اللفظية. ونكتفي بهذا القدر الذي سقناه مما نظمه الزهاوي أيام الاستبداد لنتحدث عن شعره بعد إعادة الدستور ولنرى موقفه من هذا الحادث العظيم في تاريخ الدولة العثمانية.

لم نجد للزهاوي قصائد كثيرة في مناسبة الدستور وإنما كل الذي وجدناه لا يصل إلى ما وصل إليه ذلك الذي نظمه أيام الاستبداد؟ وهذا المقدار القليل كاف لأن يفسر لنا مذهب الشاعر وموقفه حيال الدستور وهو موقف الفرح المستبشر والراضي المطمئن. ففي (الكلم المنظوم) قصيدة عنوانها (التعاون) قالها بعد إعلان الدستور - أو بالأحرى إعادته - وتلاها يوم انعقدت جمعية الاتحاد في بغداد، والقصيدة لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتاً نجتزئ منها ما يأتي:

حزب التعاون في الدنيا هو الناجي ... نمشي على ضوئه في ليلنا الداجي

قد أفلحت أمة في قصده نهجت ... فأنه للترقي خير منهاج

إن الذي أصبحت عيني تشاهده ... قد أبهج القلب مني أي إبهاج

قد أعلنت للورى حرية فمضى ... زمان سخرة ذي آمرو (قرباج)

وأطلقت كل نفس من أسارتها ... هذا الذي كان يرجو نيله الراجي

ثم يؤرخ هذه المناسبة:

فقال في وصفها شعري يؤرخها: (تحرر الناس من أسر وإحواج) ويصادف هذا التاريخ سنة 1326 هـ.

وقصيدة أخرى عنوانها (عيد ومأتم) قالها في هذه المناسبة وقد صادف أن مات رجب باشا صديق الشاعر أيام إعادة الدستور فجمع الشاعر بين الفرح والحزن:

عم البلاد سرور لا يكدره ... إلا وفاة أبي أحرارها رجب

أفراحنا برزا يا ناقد اختلطت ... فقلت: قد طابت الدنيا ولم تطب

ليس هذا الذي تحدثنا عنه بقريب على الزهاوي وقد نفي وشرد وأبصر بعينه ما يجري في العراق وغير العراق من سوء المعاملة وما تعانيه هذه الأقطار من فقر وجهل وما يقع على الأحرار والأبرياء من تنكيل واضطهاد. ليس بغريب على الزهاوي أن يثور على عبد الحميد وولاته وأن يستبشر بعودة الدستور ولكن الغريب أن عبد الحميد الذي يقول فيه الزهاوي: أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والنبي المبجل

وجدناه في شعر الزهاوي حامياً للدين الإسلامي رافعاً منار الشريعة كما في قصيدته (الفتح الحميدي):

نهنيك بالفتح المبين الذي به ... تسامى منار للشريعة واستعلى!!

ولنا أن نعتذر عن الشاعر بما فسرنا به موقف الكاظمي من العاطفة الدينية التي استجاب لها الزهاوي حين رأى انتصار عبد الحميد على أوروبا الشرقية فاهتز لهذا الانتصار كما اهتز له غيره من الشعراء. وإلا فأي رافع لمنار الشريعة ذلك الذي حاد عن سنن النبي والكتاب؟.

إبراهيم الوائلي