مجلة الرسالة/العدد 872/عدو الشعب الجاشنكير
→ المسرح المصري | مجلة الرسالة - العدد 872 عدو الشعب الجاشنكير [[مؤلف:|]] |
ختام قصة ← |
بتاريخ: 20 - 03 - 1950 |
للأستاذ عطية الشيخ
- 2 -
صرخة الشعب
ما أحسن قول شوقي في رواية كليوباترا:
أنظر الشعب ديون ... كيف يوحون إليه
أثر البهتان فيه ... وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء ... عقله في أذنيه
وما أحقر عقل الجماهير ومنطقها، وما أكثر ما ترى شعبا من الشعوب، لمجرد فرية مزورة يعادي حبيبه، ويحب عدوه وينصر خاذله، ويخذل ناصره، ويصدق المحال، ويستبعد الحق. وصدق من قال أن الشعوب تقاد من عاطفتها لا من تفكيرها، وهكذا استطاع بعض البطانة أن يثير الشعب على بيبرس ومن معه. ولعل الشعب عطف على السلطان بغريزة مناصرة الرئيس على المرؤوس، والأب على الابن، أو لصغر سن السلطان، واستنجاده بهم، فتحركت فيهم النخوة التي تحمي من استجار.
وأيا كان سبب ذلك فسأنقل الرواية التاريخية بلفظها ليعرفها القارئ الكريم كيف كانت الأمة مصدر السلطة في ذلك العصر: (لما رأى العامة أن الملك الناصر قد وقف بالرفرف من القلعة، وجنود بيبرس وسلار تحاصره، حنقوا وصرخوا، وحملوا يدا واحدة على الأمراء، وهم يقولون: يا ناصر يا منصور، الله يخون الخائن، الله يخون من يخون ابن قلاوون، فأرسل بيبرس عدة مماليك لينحوا العامة ويفرقوهم، فاشتد صياحهم، وهجموا عليهم، وأفحشوا في حقهم، فخشي قائدهم من تكاثر العامة، وأخذ يلاطفهم، وقال لهم: طيبوا خاطركم فإن السلطان قد طاب خاطره على أمراءه، وما زال يحلف لهم حتى تفرقوا، وعاد قائد السرية بيبرس وعرفه شدة تعصب العامة للسلطان، فلم يسعه هو ومن معه إلا استعطافه، فأرسلوا إليه يقولون إنهم مماليكه وفي طاعته ولا يريدون إلا إخراج الشباب الذين يوقعون بينه وبينهم، فرضي السلطان بإخراج زعماء الدس إلى الشام، ودخل الأمراء عليه وقبلوا يده فخلع عليهم وركب معهم وطاف بالقاهرة لتطمئن قلوب العامة).
لم يحمد الدساسون المغبة:
عادت المياه إلى مجاريها، وحمد كل الله على ما انتهت إليه الفتنة، ولكن بطانة السوء لم تحمد الله على ذلك، فما زال بيبرس أمينا على خزانة الدولة، وسلار مصرفا لشئونها وهم محرومون من شهوة المال، وشهوة الحكم، فوجدوا في إخراج زعماء الفتنة مادة جديدة لإشعال أحقاد الملك على بيبرس، فأخذوا يتباكون على استبداد الأمير بيبرس بملكه حتى يجبره على نفي بعض خاصته، وعلى تحكمه في مأكل الملك وملبسه ومشربه وشهوة نفسه، حتى أن الملك يبيت (في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه إلى القدس. . . وقد ضاق صدره، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه في الدولة كما يريد، حتى أنه لا يصل إلى ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب له! فلولا ما كان يتحصل له من أملاكه وأوقاف أبيه ما وجد سبيلا لبلوغ بعض أغراضه).
إلى الصيد:
بلغ الضيق منتهاه بالسلطان، وكاد يختنق هما وغما فخرج في سنة 708هـ من القلعة، وجاز النيل إلى البر الغربي، وأقام حول الأهرام يتصيد عشرين يوما، وهناك دبرت مؤامرة ثالثة خلاصتها أن يظهر الملك رغبيه في الحج مع عياله ثم يهرب إلى قلعة الكرك، وفي هذه الجهة النائية تعد نيران ثورة تلتهم بيبرس وسلار ومن معهما، ومهد لذلك بإرسال خطاب مزور باسم سلار وبيبرس إلى قائد قلعة الكرك ليسلمها للملك عند حضوره.
حج مبرور:
أعلن الملك رغبته في الحج مع عياله، وشرع الأمراء في تقديم الهدايا على العادة، من الخيل والإبل، والتزم عرب الشرقية بالشعير اللازم للدواب. وفي 25رمضان نزل السلطان من القلعة ومعه جميع الأمراء، وكانت البطانة لا تألوا جهدا في استغلال الشعب ضد بيبرس، مخترعين القصص مفترين الأباطيل عما يضايق بيبرس ملكه، حتى اعتبر الشعب نفسه مسؤولا عن إنقاذ الملك وحمايته من هذا الأمير المستبد القاسي، وأراد الشعب أن يعلن في توديعه الملك إلى الحجاز مقدار حبه له واستعداده للتضحية بكل شيء في سبيله (فخرج العامة حوله وحاولوا بينه وبين الأمراء وهم يتباكون ويتأسفون على فراقه ويدعون له تحميد العودة) حتى وصل إلى بركة الحاج، فعاد المودعونجميعا من العامة والأمراء، وبيبرس وسلار يتعجبان مما سمعا من العامة ولا يعلمان أن الدس مستمر من البطانة إلى الشعب.
إلى الكرك:
بعث السلطان أهله إلى العقبة، وظل هو مدة بتصيد بالصالحية ثم سار في طريقه إلى الحجاز. ولما صار في أقرب نقطة إلى الكرك عرج عليها، وأرسل من استدعى أهله من العقبة، وأمر بإخراج كل من في ناحية الكرك من الأهالي، وبعث بقائد القلعة وحاميها إلى مصر ليخبر بيبرس أنه قد انثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالقلعة، ورد معه كل الهدايا التي أهداها إليه الأمراء بمناسبة حجه، وأخذ الأمراء المصاحبون له في الحج يبكون ويحاولون إرجاعه عن عزمه فلم يفلحوا، فعاد الجميع إلى مصر محزونين. ولما لام بيبرس نائب القلعة على تسليمها للملك أطلعه على الخطاب المحرر باسمه واسم سلار، وبالبحث ظهر أنه مزور، دسه عليهما الطنبغا الكاتب، بتحريض من بطانة السلطان.
حرب القلم:
طلب الناصر علاء الدين بن الأثير الكاتب وأمره أن يكتب لبيبرس وسلار وأمراء مصر الكتاب الآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله الجنابين العاليين الكبيرين بين الغازين المجاهدين، وفقهما الله تعالى توفيق العارفين، أما بعد فقد اطلعت على قلعة الكرك وهي من بعض قلاعي وملكي، وقد عولت على الإقامة فيها، فإن كنتم مماليكي ومماليك أبي، فأطيعوا نائبي ولا تخالفوه في أمر من الأمور، ولا تعملوا شيئا حتى تشاوروني، فأنا ما أريد لكم إلا الخير، وأنا ما طلعت إلى هذا المكان إلا لأنه أروح لي، وأقل كلفة، وإن كنتم لا تسمعون مني فأنا متوكل على الله والسلام) وصل الكتاب فاجتمع الأمراء بدار بيبرس، وقد طار صوابهم لهذه الألاعيب، وكتبوا إلى الملك بعد التشاور الجواب الآتي:
(ما علمنا ما عولت عليه، وطلوعك إلى قلعة الكرك وإخراج أهلها، وتشيعك نائبها، وهذا أمل بعيد. فخل عنك شغل الصبى، وقم واحضر إلينا، وإلا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصح لك، وتندم ولا ينفعك الندم، فيا ليت لو علمنا ما كان وقع في خاطرك وما عولت عليه، غير أن لكل ملك انصرام، ولانقضاء الدولة أحكام، ولحلول الأقدار سهام، ولأجل هذا أمرك غيك بالتطويل، وحسن لك زخرف الأقاويل. فالله الله حال وقوفك على هذا الكتاب يكون الجواب حضورك بنفسك ومعك مماليكك، وإلا تعلم أنا ما نخليك في الكرك، ويخرج الملك من يدك والسلام).
تنازل مصطنع:
لما قريء الكتاب على الناصر تبسم وقال: لا إله إلا الله! كيف أظهروا ما في صدورهم! ثم أمر بإحضار آلة الملك مثل العصائب والكوسات والهجن وكل ما كان عنده من شارات الملك وسلمها للرسول. وقال له: قل لهم ما أخذت لكم شيئا من بيت المال، حتى الهدايا أرجعتها إليكم، ولن أعمل سلطانا، فدعوني في هذه القلعة، منعزلا عنكم إلا أن يفرج الله تعالى أما بالموت وأما بغيره. وسلم كتابا بالتنازل عن السلطنة، وعاد الرسول إلى مصر ودفع الكتاب لبيبرس وسلار وسلمهما شارة الملك، (فلما قرأ الكتاب قالا: (لو كان هذا الصبي يجئ ما بقي يفلح، ولا يصلح للسلطنة، ولا نأمن غدره).
تشاور وبيعة:
اجتمع بيبرس وسلار وسائر الأمراء بدار النيابة بالقلعة، واستدعوا الخليفة وقضاة المذاهب الأربعة، وقرئ كتاب الناصر، وشهد الأمراء الذين عادوا من صحبته بتنازله عن العرش فأثبت ذلك، وبحثوا فيمن يصلح للسلطنة بعده، واختلفوا بين سلار وبيبرس فأنهى سلار الخلاف بأن قام وبايع بيبرس، فقبلها الأخير مكرها (وجلس على تخت الملك وهو يبكي بحيث يراه الناس) واشترط لقبوله الملك أن يبقى سلار نائب السلطنة، فقام الأمراء إليه حتى قبلها ولبس خلعة النيابة.
حرب السماء:
كأن من شيم الأيام عداوة الكرام، وكأن الزمان حليف الأخس، وكأن وظائف السياسة ملعونة منحوسة لا يسعد فيها إلا كل ملعون نحس، فطالما رأينا عوامل الطبيعة تتضافر مع لئام الناس في حرب الكرام، وقلما رأينا الحق في صراعه مع الباطل إلا مهزوما، وكلما صنع اللئيم سنانا لحرب الكريم أنبت الزمان قناة لسنانه، ولولا هذه المشاهدات، ما آمن الناس بأخرة تنصف المظلوم من الظالم، وتعوض الفضل من المفضول، وما آمن ابن العاص حتى فكر فوجد العرب أقوم أخلاقا من العجم، والعجم أسعد دنيا من العرب، فقال لا بد من آخره تقيم هذا العوج. أقول هذا لأن بيبرس المستقيم العفيف المخلص العفيف النزيه، ما كاد يجلس على العرش حتى بدأ سوء الطالع يلازمه، فقد فشت في البلاد أمراض حادة، وعم الوباء الخلائق، وعز التداوي، وامتنع كل ما يحتاج إليه المرضى، ثم تأخر فيضان النيل إلى شهر مسرى، فارتفع سعر القمح وعم الغلاء جميع السلع، ولم يزد النيل في هذه السنة عن ست عشرة ذراعا فشرقت أرض كثيرة وتوقع الناس مجاعة قاسية، ودبت عقارب السعاية بين الشعب مستغلة الظرف (فتشاءم الناس بطلعة الملك المظفر بيبرس) وصنع العوام أغنية صاروا يتغنون بها وهي:
سلطاننا ركين ... ونائبنا دقين يجينا الماء من أين
يجيبوا لنا الأعرج ... يجي الماء ويدحرج
يقصدون بركين ركن الدين بيبرس، وبدقين سلار لأنه كان مغولبا أجردفي حنكه بعض الشعرات، وبالأعرج الملك الناصر لأنه كان كذلك، وقد أخذ بعض المحبين للملك يضربون من يغني هذه الأغنية، فكانوا كالدية المخلصة لصاحبها، رضي الله عنها، إذ سببوا ازدياد الكراهة من الشعب للملك، وولوعه بهذه الأغنية حتى كانوا يغنونها تحت سور القلعة، فوضعت الوحشة بين المظفر وبين عامة الشعب.
أمراء الشام:
تزعم حركة الولاء للناصر، وعدم الاعتراف بسلطنة الجاشنكير، ثلاثة من كبار أمراء الشام. هم قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، واستدمر نائب طرابلس، وكان أكبرهم وزعيمهم قراسنقر، أما الأفرم نائب دمشق فكان أخلص الناس للجاشنكير إذ كان جركسيا مثله لذلك بايع الأفرم وأرسل إلى الثلاثة السالفين؛ فأما قراسنقر فقال لرسول الأفرم: إيش الحاجة لمشورتنا بعد أن حلف أستاذك وبايع وكان الأولى أن يتأتى، وأما قبجن فقال للرسول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إيش جرى على ابن أستاذنا حتى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير، اذهب إلى أستاذك وقل له الآن بلغت مرادك، وسوف تبصر من يصبح ندمان وفي أمره حيران. وأما استدمر فقال للرسول: اذهب إلى أستاذك وقل له يا بعيد الذهن وقليل العلم، بعد أن دبرت أمرا ما الحاجة إلى مشورتنا؟ فو الله ليكونن عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك. ثم اجتمع هؤلاء العصاة الثلاثة واتفقوا على العمل سرا مع الناصر لإعادته إلى الملك وخلع بيبرس وألا يقطع واحد منهم في رأي إلا بمشورة أصحابه.
يتبع
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا