الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 872/الأزهر بين القديم والجديد

مجلة الرسالة/العدد 872/الأزهر بين القديم والجديد

مجلة الرسالة - العدد 872
الأزهر بين القديم والجديد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 03 - 1950


للأستاذ سليمان دنيا

إلى مجال الفكر الصائل على صفحات (الرسالة) الغراء أحول مجرى ذلك الصراع الفكري الذي دار على صفحات الأهرام بين مقال الأستاذ محمود الشرقاوي الذي عاب فيه على الأزهريين تمسكهم بمؤلفات العصر المملوكي التي تتسم بالركاكة والحشو والتعقيد والجمود، والذي تمثل فيه بقول الشاعر:

عذيري من قوم يقولون كلما ... طلبت دليلا: هكذا قال مالك

ودعا فيه إلى الأخذ بالأقدم والأقوم من مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين.

ومقال الأستاذ محمد علي مخلوف الذي ذهب فيه إلى أن في مؤلفات العصر المملوكي من العلم النافع والأدب المفيد ما ينمي في النشء ملكات البحث والجدل والقدرة على التصرف في المناظرة. وأنها والحالة هذه، وبعد أن بذل الأزهريون جهودا موفقة في تنقيحها وتهذيبها، لا ينبغي لنا العزوف عنها واللجوء إلى سواها. واستشهد لوجهة نظره بقول الإمام المراغي.

(إني على بغضي لأكثر الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة أكره من الطلاب أن يعجزوا عن فهمها، لأن فيها خيراً كثيرا، ودقائق لا يصح الجهل بها)

وختم مقاله متمثلا بقول ابن دقيق العيد

يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتمو حتى يكون لكم عند؟

وفي رأيي أنه لا خير للأزهر في أن تقتصر دراسته على مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين، تلك التي يسمونها (عصر المسلمين الذهبي) ولا في أن تقتصر دراسته على مؤلفات العصر المملوكي ون اشتملت على كل علم نافع، وعلى كل أدب مفيد، وحتى لو بلغت جهود الأزهريين في تنقيحها وتهذيبها الغاية التي ليس بعدها من غاية.

وإنما الخير كل الخير للأزهر في أن تكون دراسته مستوعبة تتناول المؤلفات منذ عرف المسلمون التأليف والتدوين. تدرسها وتتبين أسلوبها ومنهجها وموضوعاتها.

ثم تنتقل إلى فترة تلي ذلك وتصنع بها نفس الصنيع، ثم تنتقل إلى فترة ثالثة، وهكذا مل تزال تنتقل من فترة إلى فترة ومن عصر إلى عصر حتى ينتهي بها المطاف إلى مؤلفات العصر الراهن. وهي في تضاعيف كل ذلك تبين الصلات بين الآراء والنظريات، وتعقد المقارنات بين العصور والفترات.

ينبغي - في رأيي - أن يفصل الأزهر كل ذلك ليؤدي واجبه نحو كل عصر من العصور وعهد من العهود، وليؤدي أيضاً نحو نفسه، إذ ليس واحد منها أولى من ما عداه بكده وجده، بأن يستوقفه عنده ويصرفه عن غيره.

إن العلماء من غير الأزهريين لا يحقرون عهداً من العهود، ولا يزورون عصراً من العصور وإنما يعطون كلا ما هو جدير به من عناية واهتمام، حتى إنهم ليدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ، ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه.

إنهم يفعلون ذلك مع وثوقهم بأن الإنسان الأول كان بدائيا في أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يدرسوه ليضعوا للعقل الإنساني سجلا كاملا، نستطيع أن نتبين فيه مراحل تطوره، وعوامل نضجه، وأسباب تقدمه، ولم يمنعهم أيضا من أن يشبعوا ميولهم المتعطشة لمعرفة كل ما يمكن معرفته، ميولهم التي تحاول أن ترسم للكون والإنسان صورة أقرب ما تكون إلى الصحة والصدق، ولم يمنعهم ثالثا من أن يتوقعوا علم ما لم يكونوا يعلمون على يدي هذا الإنسان الأولى الذي كان أسبق منهم وجودا واستجلاء لمشاهد الكون، واستمتاعا بمنافعه.

إنهم يدرسون أرسطو ويترجمون كتبه إلى شتى اللغات، ويشيدون بمآثره وفضله وسبقه رغم ما أثبت العلم الحديث فساد كثير من آراءه ونظرياته. وإنهم ليقسمون الزمن إلى عصور فيقولون - العصر القديم، والعصر الوسيط، وعصر النهضة، والعصر الحديث، ويدخلون تحت كل قسم من هذه الأقسام طائفة من الأبحاث والنظريات والأشخاص، ويدرسون كل طائفة من هذه الطوائف على حدة، ويعكف بعض الدارسين على أحد هذه العصور، أو على شخصية من شخصياته أو على نظرية من نظرياته، ليتخصص فيها ويسبر غورها ونجلو غامضها، ويعكف بعض آخر على جانب آخر وهكذا حتى يتوزعوا جميع هذه الآراء والنظريات وتلكم الشخصيات ويلموا بأطرافها بحثا وتمحيصا ونقدا وتدقيقا. وهم في تضاعيف كل ذلك يعقدون المقارنات، ويتبينون الروابط والصلات، ويكشفون عن الأصل والفرع، والتابع والمتبوع، والناسخ والمنسوخ، والزائف والصحيح، ويخرجون من كل ذلك بسلسلة مترابطة من الأفكار والمعلومات ممتدة بامتداد الزمن متصلة باتصاله.

وإنه ليلذ العالم الضليع أن يلم بأطراف الزمن ويتعرف صنوف التفكير وألوان الرأي في المسألة الواحدة، ويشوقه أن يتعرف وجهة نظر الأقدمين ووجهة نظر المحدثين وأن يقول حين يعلم أو يؤلف أو يناظر، كانوا قديما يعتقدون فيها كذا، ولكنهم الآن يعتقدون فيها اعتقاد غيره، ثم يبسط وجهة نظر كل فريق ويناقشها، وفرق كبير بين عالم هذا شأنه، وآخر يلقى حكمه في نفس المسألة ناقصا مبتورا، يدل على عدم دراية بما انتهى إليه أمر المسألة وآخر مرحلة من مراحلها، وجهل تام بما قبل ذلك، وبصنوف التفكير التي تواردت عليها، ولولا الدراسة المستوعبة المتطورة ما نشأ ما يسمونه تاريخ النظريات أو تاريخ العلوم

خبرني بربك!، إذا كان هذا هو شأن العلماء مع أفكار متضاربة متناقضة يقوم بعضها على أنقاض بعض، فما بال علماء الأزهر يقطعون الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي هذه الفترات الزمنية أولى بأن نقصر عليه جهودها، ونخصه بعنايتنا ودراستنا وتدريسنا!؟

على رسلكم، فليس بعض جوانب الفكرة أولى بالدرس والتمحيص من البعض الآخر، ولا بعض الفترات الزمنية أحق من سواها بذلك. ادرسوا كل جانب، ولا تقطعوا صلتكم بعصر من العصور، وما كان الإمام المراغيبمقولته تلك إلا حريصا على أن تكون دراستكم مستوعبة لا يفلت منها عصر من العصور حتى اشدها كراهية وبغضا، لا أن يكون عصر من العصور مهما يكنله من خصائص ومميزات تسمو به على كل ما عداه، هو كل علومكم، ومنه وإليه بدؤكم وانتهائكم!

سليمان دنيا

عضو بعثة الأزهر بإنجلترا