الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 871/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة/العدد 871/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة - العدد 871
صور من الشعر الحديث في العراق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1950


للأستاذ إبراهيم الوائلي

تمهيد

كانت بداية النهاية في كانون الثاني (يناير) من السنة 1256 حين هاجم هولاكو أسوار بغداد ولم يفد معه عرض الصلح الذي تقدم به ابن العلقمي وجاثليق النصارى.

وفي اليوم العاشر من شهر شباط (فبراير) من السنة نفسها استيقظت بغداد فإذا بها أمام تيار عارم لا يقف عند حد ولا يريد أن يقف عند حد. تيار من الوحشية التي تستعذب دماء الناس وتستمرئ لحومهم وإذا بالسيف والنار يقدمان لهذا الجائع موائد من الدماء واللحوم يدوسها بأقدامه ضاحكاً ساخراً. والناس من أهل بغداد وما جاور بغداد حيارى واجمون يعصف بهم الرعب ويجرفهم الخوف وتشتد بهم العاصفة من كل جانب فلم يجدوا من أن يودعوا خليفتهم الذي استسلم وخضع. ومجدهم الذي توارى واحتجب وحريتهم الإسلامية التي انتهكت وأهينت. ولم يجدوا بداً من أن يستقبلوا فاتحاً متغطرساً سفاكاً مستبيحاً، كل ذلك على مضض منهم وكره. واستسلمت بغداد لحد السيف وأسلمت تراثها لألسنة النار وأمواج النهر، تلك تلتهم وهذه تبتلع، وانطوى العصر الذهبي بعظمته فلم يعد التاريخ يسمع غير الهمسات الخفيفة والنأمات العابرة والصدى المبحوح وحتى هذا الصدى أخذ يختنق تحت وطأة العجمة الطاغية والوحشية الحمقاء. ولوحقت اللغة العربية وآدابها في كل مكان وطوردت في كل مرفق تجتث أصولها وتشذب فروعها ويغرس مكانها الجهل والعماية.

وبقيت بغداد وسائر المدن العراقية تغط في نومة طويلة أحقاباً وسنين سماها المؤرخون (الفترة المظلمة) ولم يخطئ المؤرخون في هذه التسمية فقد كانت هذه القرون التي مرت على العراق زاخرة بالجهل والتأخر والانحطاط والانتكاسة العميقة فلا عدل ولا إصلاح ولا أدب ولا دراسة ولا تعليم، الأخيال باهت يلوح بين جدران المساجد والبيوت في الحواضر العراقية، وإلا لمحات قليلة لا تقع من تأريخ الأدب الصحيح على مكان إذا استثنينا العلوم الدينية والتاريخية التي لم تركد كل الركود. بالرغم من ذلك كله فإن اللغة العربية في العراق بقيت تصارع وتكافح وتهدأ حيناً وتثور حيناً آخر، تكافح عدواً عنيداً لا يكتفي بما يبتزه من خيرات ومنافع بل يحاول القضاء على هذا الطابع الذي تتميز به الأمة - وطاب كل أمة لغتها كما يقولون - وكانت هذه اللغة تدرس وتقرأ ولكن نطاق ضيق محدود، وتجد من يحدب عليها ويرعاها ولكن في مجال غير فسيح؛ فبعد أن كانت بغداد هي مركز العصب الحساس للغة العربية وآدابها أصبحت في هاوية بعيدة الغور في غفوة الزمن، وبعد أن كانت البصرة في مربدها والكوفة في منبرها تنتجان وتتباريان أخلدتا إلى السكون والدعة، ولم يعد التاريخ يسجل للعربية علماً وأدباً إلا قليل مما تنتجه بعض المدن كالحلة والنجف والموصل وكان هذا الإنتاج بين تأليف لا عمق فيه ولا دقة، وشعر لا عاطفة فيه ولا تصوير، ونثر تشمئز اللغة من تراكيبه وأسلوبه. يجرف ذلك كله تيار من التقليد والمحاكاة. تقرأ للشاعر فلا تقع عينيك في ألفاظه إلا على الطلول والدمن، ولا تهيم معه إلا في حاجر وذي سلم؛ وهو بعيد عن ذلك في بيئته وحياته الاجتماعية. وتتطلب معانيه فلا تجد إلا وهي باهتة خابية لا حياة فيها ولا حركة ما عدا شعراء قليلين كان لهم نصيب من الشعر الجيد.

حتى إذا جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر للهجرة أخذ الشعر يتمطى بعد غفوة ويصحو بعد رقدة، لم يستطع أن يزيل عن جسمه غبار السفر البعيد أو يتخلص من بقايا التعب فلم يسلم من تبعات التصنع والتقليد. ومن أشهر شعراء هذه الحقبة كاظم الأزري ثم العمري والأخرس وحيدر وجعفر الحليان، والسيد الحبوبي وغيرهم كالشيخ جواد الشبيبي والشيخ جعفر الشرقي. وكان هذا العصر إيذاناً بعصر جديد وبنهضة شعرية جديدة نشط فيها الشعر وتحلل من القيود الصناعية والزخرف اللفظي، وانطلق من عقال التقليد في أغراضه ومواضيعه وفي أخيلته ومعانيه فواكب السياسة في أدوارها المختلفة وساير المجتمع في تطوره ودعا إلى الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستعمار.

هذه النهضة الشعرية المباركة تلتقي عندها عوامل عدة وتقف إلى جانبها أسباب كثيرة، منها ما هو داخلي يعود إلى البيئة والطبيعة والثقافة المحلية، ومنها ما هو خارجي يعود إلى الاستعمار الذي خيم على العراق فحرك نفوس الشعراء، وإلى النهضات العلمية التي بدأت تنمو في مصر وسوريا، والصحافة العربية في هذه البلدان بما كانت تنقله من وعي وتبثه من علم وأدب.

فالبيئة العراقية حساسة ثائرة، والطبيعة متقلبة متحولة: شتاء قاس، وصيف شديد، وربيع معتدل قصير العمر، وخريف عام كثير الرياح والزوابع، وأنهار تكاد تجف في الصيف وتطغى في الشتاء والربيع، وصحار خاوية لا نبت فيها ولا ماء، ومروج خضر تمتد بامتداد البصر. هذه الطبيعة بألوانها وصورها وخيرها وشرها معرض يطوف الشاعر في أرجائه فيتأثر وينفعل ثم يغني انفعالاته قصائد تحكي هذه الطبيعة وتصور انقباضها وانبساطها وسكونها وثورتها وكل ما فيها من مختلف ومتشابه.

وأما الثقافة المحلية فقد كانت في حدود الدين واللغة العربية في كتبها الصفر وفي بقايا التراث العباسي يستقي من مخطوط قديم أو من مطبوع جاءت به المطابع الهندية والإيرانية وندت به المطابع التركية إلى جانب ما تنتجه المطابع السورية والمصرية والعراقية في ذلك العهد ولا شك أن هذا الإنتاج كان محدوداً قليلاً، لذلك كانت الثقافة العراقية في أواخر القرن التاسع عشر لا تتجاوز الأفراد متفرقين في بغداد والحلة والنجف والموصل؛ حتى إذا أخذت الطباعة تنتشر والمطبوعات تتيسر أخذ الأدباء العراقيون يتسابقون إلى اقتناء الكتب العربية الدسمة واستيعابها والإفادة منها فتجاوز الأدباء حدود الأفراد وكثر الشعراء على ضفاف الرافدين، وكانت الذهنية العراقية تدفع الشاعر والأديب إلى التمحيص والاختيار فلا يقرأ الغث ولا يحفل بالرديء. هذا إذا كان الشاعر موهوباً قد هيأته الطبيعة وكونت فيه عنصر الشاعر تكويناً سليماً، لذلك كان الشعر العراقي فيما مر من القرن العشرين صافياً مشرق الألفاظ مركز الأداء إلى جانب معانيه الدقيقة وأخيلته السامية.

والاستعمار الخارجي كان يتمثل آنذاك في سلاطين العثمان وولاتهم ضباطهم وجنودهم يحكمون دنيا العراق السخية ويبتزون خيراتها ويفرضون أتاوتهم على كل إنسان بالقوة والسوط ويجندون أبناء العراق لحروبهم ومعاركهم، ومن يقعد عن الجندية يدفع البدل المرهق الذي تفرضه السلطات كما تريد، وتذهب هذه الخيرات إلى ليالي البسفور والدردنيل وإلى قصر يلدز وغيره. ويبقى العراق رازحاً تحت وطأة البؤس والفاقة والأمراض والطواعين. وكان من جراء ذلك أن انتشرت الرشوة وكثرت الإقطاعات بأيدي نفر من الزعماء يماثلون الولاة والحكام لتسلم لهم إقطاعاتهم ونفوذهم. هذه الصور والألوان يستعرضها الشاعر العراقي كل يوم فيتأثر وينفعل ويثور ويردد ثورته في قصائد يقذف بها كالحمم الملتهبة.

وأما الصحافة - ونعني بها الصحافة التركية والعربية في مصر وسوريا - فقد كانت ذات نصيب كبير في إيقاظ الشعر العراقي ونهضته بما تحمله من العالم الخارجي وبما تتحدث عنه من تقدم ووعي في الأمم الأخرى وفي الشعوب العربية كمصر وسوريا؛ ففي مصر كانت النهضة قد نشرت أجنحتها وتناولت معظم المرافق والحقول، وفي سوريا كان الوعي القومي قد رسخت قواعده وتزكت مبادئه نتيجة لاحتكاك العقلية السورية بالنتاج الفكري الغربي وكان الأدباء العراقيون على صلة بهذه التيارات يتبعونها ويتطلعون إليها ويقرؤون ما يصل إليهم باستيعاب ورغبة فيحسون نهضة العالم ويشعرون بما في البلاد العربية من يقظة وتوثب، ويتألمون لما في العراق من تأخر وتخلف، وليس العراق بأقل من غيره قابلية للنهوض والتقدم فلا يلبثون حتى يرددوا ألمهم أناشيد هنا وهناك فيرن صداها قبولاً واستحساناً في دنيا العراق، وصخطاً وحنقاً في قصور المستعمرين وكان لابد من هذه الأناشيد من منابر تذيعها على الملأ وهذه المنابر هي بعض الصحف التي في العراق، ولكنها كانت تضيق في معظم الأحيان عن نشر هذه الصرخات المدوية حذراً من الولاة والحكام، وما تضيق عنه هذه الصحف تتناقله صحف مصر وسوريا آنذاك فيذيع في الأقطار العربية ومنها العراق.

بهذه العوامل وغيرها اندفع الشعر العراقي إلى مواكبة العصر الحديث وتصوير الآم المجتمع والدفاع عن حرية العراق والبلاد العربية عامة.

بعد التمهيد الذي قدمناه نحب أن ندرس ثلاثة من شعراء العراق في العصر الحديث هم الكاظمي والزهاوي والرصافي ندرسهم في مجال الشعر السياسي فقط، وفي عهد الاستبداد الحميدي وبعد إعلان الدستور فحسب؛ ثم نشير إلى مواقفهم الإيجابية من العثمانيين والظروف التي دعت إلى ذلك. وقبل أن تحدث عن هؤلاء الشعراء نحب أن نشير بإيجاز إلى تاريخ الدستور العثماني.

لعل الرجل الوحيد الذي شغلته فكرة الدستور وناضل من أجلها هو مدحت باشا الذي نفاه عبد الحميد إلى الطائف من الحجاز وسجن هناك ثم اغتيل في العاشر من نيسان، (أبريل سنة1883 م) وكان مدحت ثمرة طيبة ندت بها تلك الشجرة المرة فاشتغل بالسياسة وتقلد مناصب كباراً في أوربا وسوريا والعراق وقد ساءت أن يرى الجهاز الحكومي في تركيا يسير على غير انتظام، والولايات التابعة للحكومة العثمانية ترسف في أغلال العبودية والذل وتدفع الإتاوات لحكام جائرين، ففكر أن يضع حداً لهذا الاستبداد. كان ذلك أيام حكم السلطان عبد العزيز، والصدر الأعظم محمود نديم، وشيخ الإسلام حسن فهمي. وكل واحد من هؤلاء لا يبالي من أين جاء المال وبأي وسيلة يجمعه. في مظاهرة كبرى قام بها مدحت على رأس جمهور كبير هتف المتظاهرون بسقوط الصدر الأعظم وشيخ الإسلام فلاذا بالفرار. وطلب المتظاهرون إسناد الصدارة إلى مدحت فاكتفى السلطان بتعيينه وزيراً بلا وزارة، ولكن المفكرين وعلى رأسهم مدحت لم يكتفوا بذلك فألحوا بوضع الدستور الأمر الذي نتج عنه عزل السلطان عبد العزيز ومبايعة ابن أخيه السلطان مراد سنة 1876 م. وفي هذه السنة انتحر عبد العزيز وجن مراد وانهارت قواه العقلية بعد اعتقال طويل وتألم مدحت لهذا الحادث فاتصل بعبد الحميد ولي العهد فوعده بالغيرة على الدستور - إن ولي السلطة - وبالتنازل عن العرش إن استعاد مراد قواه العقلية، واسند الملك إلى عبد الحميد. غير أنه بعد أيام قليلة بيت الغدر لمدحت ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً بسبب الحوادث التي جدت في أوربا التي اضطرته إلى استشارة مدحت في أمر الدستور. وفي 24 أيلول (سبتمبر) سنة 1876 م تألفت لجنة من الوزراء والعلماء والقادة فقررت تأليف مجلس للشيوخ وآخر للنواب وشرع تدرس مواد الدستور وأسندت الصدارة العظمى إلى مدحت في 19 تشرين الأول (أكتوبر) من السنة نفسها وقبل هذه التعيين باغتباط عظيم في تركيا والبلاد الخاضعة للنفوذ العثماني لما كانت تنتظره من إصلاح على يد مدحت؛ ولكن عبد الحميد أخذ يضع المصاعب في طريق مدحت ويسوف بإعلان الدستور فلم يكن من مدحت إلى أن هدد بالاستقالة قائلاً في خطاب له:

(إننا لم نخلع السلطان عبد العزيز إلا طمعاً في الوصول إلى هذه الغاية المقدسة) ومن ثم اضطر عبد الحميد إلى إعلان الدستور وأصدر إرادته بهذا في يوم 12 من كانون الثاني (يناير) سنة 1877 فأطلقت المدافع ابتهاجاً بهذا الحادث العظيم وأعلن الشعب فرحه وسروره لأن الأمة أصبحت مصدر الحكم ولها الحق في ممارسة شؤونها الداخلية والخارجية. وأخذ مدحت يعمل على تنفيذ مواد الدستور ويسترضي جميع الطوائف والطبقات؛ ولكن عبد الحميد أحس بخطر مدحت، وفجأة أمر بنفيه إلى أوربا بتهمة الخيانة العظمى وكان إذ ذاك في حدود الخامسة والخمسين فثار الأحرار والمفكرون لهذا المآل وكثرت المظاهرات احتجاجاً على مصير مدحت فلم يطل مكثه في أوربا وأعيد إلى الشرق والياً على سوريا بينما كان عبد الحميد ينكل باتباع مدحت ويبعد عن الأستانة كل من شارك في أعمال الدستور. وكثرت الاضطرابات حتى وقعت الدولة التركية بين مطامع الإنكليز والروس وانتشر المبشرون الأوربيون في الساحل السوري وفي فلسطين. وثار مجلس النواب مطالباً بمحاكمة محمود نديم الصدر الأعظم فغضب عبد الحميد وأصدر أمره بحل المجلس النيابي وإلغاء الدستور وذلك في 13 شباط (فبراير) سنة 1788م ثم أرغم على إعادته سنة 1908م وفي فترة الثلاثين سنة بين الإلغاء والإعادة كان عبد الحميد يتربع على قمة الاستبداد فنفي كل وطني غيور، وقضي على كل ضمير حر، ولم يبقى معه إلا شرذمة من خشارة الأدنياء والمنافقين يتقلبون في المناصب بينما كانت الأمة تتدهور حالتها والبلاد العربية وبخاصة العراق - تقاسي كل ألوان الفقر. وانعدمت الحرية في كل مكان وكثر الأرصاد والجواسيس يتعقبون كل جمعية ويتابعون كل قافلة، وغصت السجون بالأبرياء وضرب نطاق من حديد على المطبوعات والصحافة والبريد.

وأخيراً أستدعي مدحت إلى المحاكمة وحوصر قصره بأزمير فسلم نفسه إلى السلطات وحوكم في قصر (يلدز) بتهمة اغتيال عبد العزيز ولم يجده الدفاع عن نفسه فنفي مكبلاً بالحديد إلى الحجاز وسجن في الطائف مع رفاقه وفي اليوم العاشر من شهر نيسان (أبريل) سنة 1883م لقي حتفه مسموماً ودفن في الطائف وبعد دفنه أمر عبد الحميد بإحضار رأسه للتأكد من موته وكان الأمر كما أراد.

هذه الفترة العصيبة التي اشتهرت بعبد الحميد كانت مثار قلق وتذمر في البلاد العربية وكان العراق يعمل دائباً للتخلص منها والثورة على الاستبداد وكان في طليعة الثائرين أكابر الشعراء وفي طليعة هؤلاء الشعراء: الكاظمي والزهاوي والرصافي حتى انتهى الاستبداد وعاد الدستور فرحب به الشعراء مشاركين إخوانهم من الأحرار، وبعد هذا فماذا نحن واجدون في شعر هؤلاء الثلاثة حيال هذه الفترة وما بعدها؟ ذلك ما سندرسه في دواوينهم التي بين أيدينا.

(يتبع)

إبراهيم الوائلي