الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 871/الإسلام والمذاهب الهدامة

مجلة الرسالة/العدد 871/الإسلام والمذاهب الهدامة

مجلة الرسالة - العدد 871
الإسلام والمذاهب الهدامة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1950


الإسلام هو السلام الإلهي على هذا الكون. شرعه الله وهو العليم الخبير ليكون للناس جميعاً دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأمور الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض.

جعل فيه أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية؛ ثم كشف لرسوله الكريم عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة لتكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة من طريق التوحيد والمؤاخاة والمساواة والحرية والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق النظم السياسية والمذاهب الاجتماعية فلا تتكشف أمامها بعد طول الجهاد وقرط الجهد إلا عن سحاب خلب وسراب خادع.

ثم علم الله جلت حكمته وعز شأنه أن الفقر من أمراض المجتمع المحتومة ما دام في الناس القادر والعاجز والقانع والطامع والسابق والمتخلف، فعالجه علاجاً لو دأب عليه المسلمون لعاشوا أخوة متعاطفين متناصرين تجد فيهم الفقير ولا تجد فيهم المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم , لأن دينهم جعل بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأ بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة. ولو أخذ به المصلحون لوقى العلم شر هذه النحل الهدامة التي تثير بين الدول النزاع والحرب، وتنشر بين الأمم القلق والثورة. ذلك العلاج الإلهي هو الوساطة بين الأغنياء والفقراء على أساس الاعتراف بحق التملك، والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفع مالك عن ملكه، ولا يعارض حر في إرادته. إنما جعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يكمل دينه إلا بأدائه. ذلك الحق هو الزكاة وهي الركن الثالث من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام. وليست الزكاة بالقدر الذي يخفى أثره في حياة الفقير، فهي ربع العشر في المال وما يقدر بنحو ذلك في غيره. فإذا جبيت الزكاة بالأمانة على حسابها المقدر، ولا جاهلاً في عمل. ذلك العلاج الذي عالج به الإسلام الفقر فيه البر والرحمة من صاحب المال، والرضا والقناعة من صاحب العمل، والرعاية والحكم من صاحب الحكم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون الخيرة من أمرهم؛ ولكن أصحاب النحل الخبيثة وذوي المطامع الخسيسة لم يرضهم في الزمن الغابر، ولا يرضيهم في الزمن الحاضر، أن يعيش الناس وادعين راضين في ظلال النظم المشروعة، فهبوا يعارضون أوامر الله ووصايا الرسل بتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات وإثارة الفتن، فتمردوا على الدين، وتحللوا من القيود، وقال القرامطة: (لا حقيقة في هذا الوجود وكل أمر يباح) بذر هذه البذرة الملعونة في الشرق الإسلامي بابك الخرمي في القرن الثالث من الهجرة، ومن بعده عبد الله بن ميمون، ومن بعده الحسن الصباح شيخ الجبل، وأغروا بثمارها المحرمة عباد اللذة ورواد المنكر من ضعاف العقول وصغار الأنفس، وأمعنوا في الغي والظلال، واشتركوا في النساء والأموال؛ وفي سبيل ذلك نشروا الإرهاب، وبددا النظام، وزعزعوا الأمن.

كان أولئك الطماعون الخادعون يقترفون هذه الكبائر تحت ستار من الدين والخلق: فبسلطان الدين كانوا يشيعون الإلحاد، وباسم الخلق كانوا ينشرون الإباحية. ولكن للإسلام منبعين من كتاب الله وسنة رسوله لا يزالان يتفقدان بالصفاء والطهر والعذوبة؛ فإذا تلوثت مجاريه البعيدة بمثل هذا الدنس أقبل الفيض الإلهي فجرف تياره القوي كل عفن، وطهر ماؤه النقي كل رجس.

وفي هذا العصر الحديث تجددت المزدكية والبابكية باسم الفوضوية والشيوعية، فقامتا تدعوان باسم الإنسانية إلى الإلحاد والإباحية سراً وعلانية. تقول الشيوعية للإسلام: إن ربك ظالم لا يعرف العدل، جائراً لا يعرف المساواة، مستبد لا يعرف الحرية. لا يعرف العدل لأنه يقول: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وأنا أريد أن يكون الرزق مشاعاً ينال كل أمريء ما يشاء. ولا يعرف المساواة لأنه يقول: ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات، وأنا أريد أن يكون الناس في كل أمر سواء. ولا يعرف الحرية لأنه قيد كل شيء بقيد: قيد الرزق بالملكية، وقيد المرأة بالزوجية، وقيد تصرف النفوس بالعقيدة والخلق، وقيد تداول الأموال بالوقف والإرث. أما أنا فأقول: كل شيء مشاع، وكل أمر مباح، وكل إرادة طليقة،. حرمت الملكية، ومحوت الأسرة، وألغيت الجنسية، وأنكرت الوطنية، وجعلت المزارع والمصانع والنساء وسائل للإنتاج العام: آخذ من كل حسب كفايته، وأعطى كل حسب حاجته. على الناس أن يعلموا، ولهم أن يأكلوا. . أما أن يكون للأفراد أملاك تغنيهم عن الإنتاج، وللآباء أبناء يشغلونهم عن العمل، والولد ولد الدولة. وليس بين الرجل ووطنه، ولا بين الولد ووالده، إلا كما يكون بين القطعان والمرعى، أو بين الحملان والكبش! ذلك يقوله الشيوعيون في الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً

يزعم الشيوعيون أنهم أعلم من الله بأحوال خلقه، وأعدل منه تقسيم رزقه؛ فهم لذلك ينكرون دينه، ويغيرون شرعه، ويحاولون أن يهدموا كل ما أنتجته القرائح وخلقته القرون ليبنوا على أنقاض ذلك كله شيئاً لا يقولون صراحة ما هو، ولا يرون الناس جهرة كيف هو؛ وإنما يضربون من دون الأسداد والحجب، فلا يقع في الأسماع منه إلا ما يريدون هم أن يقع! وفاتهم قبل أن يلغوا الفضائل والعقائد والقيم أن يلغوا العقول حتى يصدق الناس أن هذا الشيء الذي يذكر في السر، ويدبر في الظلام، ويبذل في سبيله الأموال والأنفس والثمرات والجهود إنما يقصد به العدل المطلق والخير العام، ولا يقصد به طغيان بشر على إله، وسلطان دولة على عالم!

ليست الشيوعية عقيدة تقوم على الخير، ولا طريقة تعتمد على الحق، ولا رسالة تؤدى بالمعروف، إنما هي أطماع من عمل الشيطان ووسوس بها جماعة من مغامري الروس كابدوا استبداد القيصرية، وقاسوا استعباد الأرستقراطية، فلم يكادوا يثلون عرش المستبد، ويقوضون صرح المستبد، حتى أدركهم مركب النقص، وأخنتهم صورة الانتقام، فتقاسوا بينهم جبروت القياصرة وصلف الأشراف، وسخروا كل ما تنتج العقول وتخرج المصانع وتنبت الأرض للجيوش والأسلحة ليتخذوا عباد الله كلهم عبيداً، ويجعلوا أرض الله كلها لهم ضيعة! حزب من ستة ملايين قيصر قد أعد الحديد والنار والدمار والقلق والفزع والاضطراب والفوضى لتنفيذ هذه الخطة وبلوغ هذه الغاية! فهل يقدر الله أن تنهزم القوى الخيرة أمام هذا الشر، وتنخزل المبادئ الصالحة عن هذا الفساد؟ حاش لله أن يؤتى ملكه غير البر، وأن يورث أرضه غير الصالح؛ فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

إن العقلية العربية معمرة فلا تقبل الهدم. وإن العقيدة الإسلامية نيرة فلا ترضى الظلال. وإن النحل الهدامة التي انتشر ظلامها حيناً في سماء العراق إنما كانت خارجة عن الإسلام طارئة على العرب. وإن الشرق العربي سيظل بفضل عقليته وعقيدته آمناً من كل سوء، نابياً على كل فتنة.

أحمد حسن الزيات