الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 870/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 870/الكتب

بتاريخ: 06 - 03 - 1950


صراع

مجموعة أقاصيص للأستاذ شاكر خصباك

القصة العراقية لم تشهد النور إلا منذ أمد جد قصير. . .

فالمحاولات الأدبية الأولى لإنشاء قصص عراقية كانت تصاب بالإخفاق، أو تنحرف عن الميدان القصصي الفني فتكون أشبه بالحكايات التي لا تمس الواقع، ولا يصلها بالفن القصصي سبب الأسباب.

ذلك لأن تلك المحاولات لم تقم على أساس متين من الدراسة والتفهم العميق للفن القصصي؛ لأن المضطلعين بها لم يكونوا مطلعين على الأدب الغربي، وغير مثقفين ثقافة عامة شاملة. . لأن القصة تحتاج إلى الكثير من الخبرة، والإدراك، والمعرفة، وسبر الحياة وخوض غمارها، ثم تأتي الموهبة القصصية لتبرز لك الفن القصصي مزيجاً من كل هذه الأمور.

وكان الأدباء العراقيون - قبل أكثر من عشرين سنة - يرون القصة المصرية تشق طريقها في ميدان الإنتاج الأدبي. . . وكان هذا اللون الجميل الجديد يدفعهم دفعاً إلى محاكاته؛ فيحاولون تقليده والسير على منواله، من غير أن يفقهوا فن القصص؛ ومن غير دراسة فنية لأصوله.

هذا سبب من أسباب تأخر القصة العراقية. . . ويمكننا أن نضيف إليه سبباً آخر وهو ما يتصل بالأحداث والتقلبات التي هزت العراق في الفترة الأخيرة، وانصراف الناس إلى السياسة وقد كان الشعر مبرزاً في ميدان إيقاد الحماس، وإيقاظ الهمم، وإذكاء نيران الوطنية في القلوب.

أما القصة فلم يكن ثمة مجال لظهورها لعدم وجود قصصيين يملكون ناصية الفن القصصي بحيث يؤثرون في نفوس الجماهير ويوجهونها نحو الوجهة الوطنية الصحيحة. أضف إلى ذلك عدم استعداد الجمهور لقراءة القصص واستساغتها، لأن القصة في مثل هذه الأحوال لا تثير ما يثير الشعر.

ولكن بعض المحاولات القصصية كانت تظهر بصورة حكايات وأحاديث. . . ونحن حين نستثني رائد القصة العراقية الأول المرحوم محمود السيد صديق الأستاذ تيمور في الجهاد، لا نرى إلا محاولات فاشلة القصد منها العبرة والاتعاظ والإسراف في الخيال.

ثم جاءت بعد ذلك كتابات جعفر الخليلي، وعبد المجيد لطفي، أو حكاياتهما على الأصح، فهذان الأديبان لبعدهما عن تفهم القصة الحديثة، ولجهلهما الأدب الغربي الحديث، فشلا في أول عهدهما ولكن بعض الأمل تسلل إلى القلوب عند قراءة نتاجهما في العصر الحاضر، وهما - بعد كل هذا - مشكوران لأنهما يمثلان مرحلة من مراحل القصة العراقية.

ثم تأتي المرحلة الثانية في قصص شالوم درويش، وذو النون أيوب، فقد استطاع هذان القصصيان أن يرقيا بالفن القصصي العراقي درجات، ويدفعاه إلى الأمام، فقد أصابا حظاً ليس فيه بأس من الإطلاع على القصص الغربي، وتفهما العناصر الجوهرية في الفن القصصي، وكانا يستلهمان الحياة، ولا يشطان في دنيا الرومانسية.

وجاءت المرحلة الثالثة - وهي دور الشباب - فقد بزغ بعض الشبان في سماء القصة، ومنهم يرجى الخير، وعليهم تعقد الآمال. . . ولكنه يخيل إلي أن جريرة الصحافة المصرية الصفراء تلاحقنا ونحن في ديارنا، فتفسد أذواق الشباب، وتتحكم بنزعات بعضهم، وتصره عن العمل الجدي المنظم، وعن التفكير الصادق السليم وعن إدراك الأمور إدراكاً شاملاً واعياً. . ومما لاشك فيه إن الصحف المصرية تطغى على الأسواق العراقية، وإن قصصها المائعة النكراء غير الناضجة ذات تأثير على نزعات الشباب. . وأغلب قصاصي المجلات لا يستلهم الحياة، ولا يراعي مقاييس الفن، بل يستلهم الطبع الفاسد، ويراعي مقاييس المجلات الجائرة. . .

ولكن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسي عندما أجد بوادر السخط عند الشباب العراقي، وعند الذين حصنوا أنفسهم بثقافة ومعرفة واسعتين.

والكتاب الذي اعرضه على القارئ الكريم الآن (صراع) لقصصي عراقي شاب لا أكون مغالياً لو قلت أنه خطا خطوة رائعة موفقة في مضمار القصة العراقية، وهو على رغم بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس. . .

والمؤلف شاب، له أحلامه ونزعاته وميوله، ونفس متوقدة حساسة، تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خافية خير ما يقال فيها إنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها، لأننا نحفل دائماً بالحوادث والمفاجئات، بأقاصيص البطولة والشجاعة، أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس، والانفعالات النفسية فإننا نضرب عنها كشحاً، ولا نعيرها أي التفات. . .

ولكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن الأقاصيص فتراه لا يحفل الحوادث والمفاجئات، بل يخلق من الحوادث الصغيرة الساذجة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، وبخلق الجو المشوق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية، ووعياً عاماً في جميع الأمور. . . وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي. . . وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. . .

ففي الكتاب (أقاصيص) أول ما يطلبك فيها، تحليل نفسي موفق، وجو قصصي كامل، وموهبة فنية رائعة، وإذا بتلك الحادثة الصغيرة تحمل إليك ظلالاً من الإحساس، وحياة عامرة بالمشاعر، وحركة في نبض الحس، وتضفي الشعور.

انظر إلى أقصوصة (عذاب) التي أعدها من أروع الأقاصيص العربية تجدها كما قلت لك: حادثة بسيطة، وتحليلاً نفسياً رائعاً وموهبة فنية تنظم الحركة، وتبعث الحياة، وتضفي الظلال. .

وخلاصة أقصوصة (عذاب) أن شاباً كان يتمشى على شاطئ النهر، مرتديا ً بذلة جديدة، يرى طفلاً يصارع الموج، على شفا الغرق. . ويحاول الشاب إنقاذ الطفل، ولكنه يتردد بين خلع ملابسه الجديدة، وإنقاذ الطفل الموشك على الغرق، وبين المضي في طريقه كأن شيئاً لم يحدث، وليش ثمة عين تراه. ويتردد الشاب، ويطيل التردد، حتى يبتلع النهر الطفل، وينقطع صراخه. . ويمضي الشاب في طريقه، ثم تقوده المصادفة إلى نواح نائحات، وبكاء باكين، وسرعان ما يتبن أن النائحات والباكين هم أهل الغريق. . وهناك ينشب الصراع بين ضميره فيعذبه، وتشقيه الهواجس والظنون حتى يحاول الانتحار.

هذا الحادث تصوره ريشة ماهرة في التقاط الصور، واكتشاف مواقع الإحساس. وخلق الصور الإنسانية، والظلال النفسية، فتخلق لنا أقصوصة من أروع الأقاصيص. . .

وهناك أقاصيص بالغة الروعة، وافرة الحظ من النجاح، منها (دكتور القرية) وهي صورة كاملة الملامح، قوية السمات، فيها سخرية لاذعة، وتصوير رائع. ومنها (عجيب) وهي أقصوصة تبرز لك مقدرة الأستاذ شاكر على الخلق القصصي، وبعث الحركة والحياة بما فيها من انطلاق وعبث الظروف. .

وإلى هنا نقف مع محاسن هذا الكتاب، فما هي مآخذنا عليه؟ يبدو لي أن ميل الأستاذ خصباك إلى دراسة المجتمع يغلب فنه القصصي في بعض الأحايين فتختفي روعة القصة، وينفرط السلك القصصي، وتبدو القصة أشبه شىء بتجربة طبيب نفساني. . ولولا مقدرة الكاتب على إنشاء الفن القصصي لا نهدم صرح أقاصيصه إنهداماً تاماً. .

وكم وددت لو ألقى الأستاذ عن عاتقه ذلك القانون الصارم الذي سنه لنفسه إذن لأنشأ قصصاً رائعة كل الروعة، ولكان غير ما هو الآن في بعض أقاصيصه.

فلأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، فالأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، وتسبح في أجوائها من غير وازع، وتلقط الصور من غير تمييز. . وذلك الميل الجارف لدراسة المجتمع يضفي على أشخاص المؤلف بعض الندرة؛ فإنا لا أنكر أن أشخاصه جميعاً موجودن؛ ولكن بعضهم نادر. فالمؤلف يؤمن (بأن العواطف الحبيسة تقود أصحابها إلى الشذوذ الجنسي. .) ونراه ينطق هذا القانون في لهجة ساذجة أثناء أقصوصة من أقاصيصه وه (أحلام ضائعة) فإنظر إليه كيف سخر قصته لأقرار هذا القانون أو هذه البديهية: زاهدة فتاة تعيش في بيئة عراقية محافظة (وفي نطاق من تدابير إسرتها المحافظة، فلا تفسح لها المجال للاتصال بالعالم الخارجي، ولا تسمح لها بمبارحة البيت إلا لماماً. (هذه الفتاة في هذا في السجن العاطفي تخدع جماعة من الشبان، وأحداً بعد آخر، وتوهمهم بأنها تحبهم!!. . وإذا سألت: من أين جاءت هذه الفتاة بهذه الجرأة؟. . أجابك المؤلف: من العاطفة الحبيسة. . هذا شيء معقول. . ولكن التصريح بهذا أضعف الأقصوصة.

و (صراع) و (بداية النهاية) على هذه الشاكلة يحاول المؤلف البرهنة على قانونه. والملاحظ أن بعض الثغرات تبرز في القصة حين يحاول المؤلف الخروج عن الجو القصصي. . ففي (صراع) يعرض علينا المؤلف (فاطمة امرأة متعطشة، قوية الغريزة الجنسية، تتعرف بصبي تحاول معه أن تشبع غريزتها الجنسية ولكن والدة الصبي تكشف ذلك فتأتي ثائرة ساخطة، مزمجرة معربدة. . وفي هذا الجو المكهرب الساخط تسرد فاطمة قصتها محاولة تبرير ذنبها ومسلكها الشائن، فتبرد عند ذلك الأقصوصة والحق أن منطق الحياة لا يقبل ذلك.

وقصة (صراع) لولا هذا الإقحام الأخير لكانت من غير الأقاصيص. . ويخيل إلى أن شغف المؤلف بدراسة المجتمع، وتبين العلة أفسد عليه الجو القصصي. . نفحن نعرف أن علة وراءها مسبب، ولكن ليست القصة مقالة اجتماعية، تصف العلاج، وتشخص سبب الداء. . ولندع ذكر المبررات لمخيلة القارئ ولتأويله - فالقارئ أولى الناس بمعرفة ذلك، وإدراكه. .

وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب بمحاسنه ومساوئه - نصر جديد للقصة العراقية، ومحاولة ناجحة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن، وفي رأي الحقيقة،

غائب طعمة فرمان