مجلة الرسالة/العدد 870/الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة
→ علي محمود طه | مجلة الرسالة - العدد 870 الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة [[مؤلف:|]] |
رؤيا مرزا ← |
بتاريخ: 06 - 03 - 1950 |
للدكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين
لم يختلف موضوع البحث النفسي في الحديث عنه في القديم، فقد كانت (النفس الإنسانية) وما زالت موضوع هذا البحث منذ أن عرف الإنسان الباحث استقلال بحثه عن تعاليم الكهان في الجماعات البشرية الأولى إلى عصرنا الحاضر. والجانب الذي يفترق به أحد النوعين عن الآخر هو فقط في النظرة التي يعالج بها موضوع (النفس). فبينما كان يتجه القدامى من المعالجين للنفس الإنسانية. . وكذا من سلك طريقهم من علماء القرون الوسطى - إلى محاولة الكشف عن (حقيقتها): ما هي؟ وهل لها استقلال ذاتي عن الجسم؟، وعن مصدرها وعن مصيرها: هل هي من عالم الأزل وسترد إليه؟ أم تنسب إلى عالمنا الذي نعيش فيه؟ وعن أقسامها وعن أنواعها: منها ما هو خير، ومنها ما هو شرير، ومنها ما هو مزيج من الخيبة والشرية. . . إلى غير ذلك من التساؤل الميتافيزيقي، خاضعين في الإجابة والشرح لما كانت تقول به فلسفة (ما بعد الطبيعة) تحت تأثير آراء التعاليم الدينية الأولى على نحو ما يذكر في علم القصص الديني القديم (الميثولوجي)، بينما كان ينحو بحث القدامى هذا النحو إذا بالمحدثين يعدلون عن هذا الاتجاه الميتافيزيقي في تحديد مشاكل النفس وتفسيرها إلى اتجاه آخر يجعل من أحوال (النفس) الخارجية التي تخضع للملاحظة الإنسانية أو التجربة العلمية موضوع الشرح والتعليل والعمل السيكولوجي على العموم.
ولسنا الآن بصدد ذكر العوامل التيس دفعت المحدثين إلى مخالفة منهج القدامى ونظراتهم في ميدان البحث النفسي، لأن ذلك موضوع آخر يطرق فيما بعد.
وإذا كانت نظرة المحدثين في معالجتهم (النفس) تجاوزت حقيقتها إلى ما يصح أن يسجل من أحوالها على العموم فقد استعاضوا كذلك عما ألفه القدامى من الحديث عن (مبدأ) النفس و (معادها) وعما اعتاد هؤلاء أن يرسموه من طريق لحياتها، من كونها: تبتديء بالهبوط من أعلى وتنتهي من جديد بالصعود إلى ذلك الأعلى والخلود فيه، استعاضوا عن ذلك بوضع خط سير آخر: بدايته البدائية، ونهاية الرشد والنضوج.
فتحدثوا عن تطور للنفس، وعن مراحل هذا التطور. وعنوا ببحث الطفولة ومظاهره كمرحلة أولى في هذا التطور، وكذا ببحث البلوغ النفسي أو العقلي كمرحلة أخيرة له. واستخلصوا من مظاهر المرحلتين خصائص متقابلة، وأرجعوا خصائص كل مرحلة منها إلى قوانين عامة، لها من الاعتبار والقيمة العلمية ما للقوانين النفسية الأخرى - المنتزعة من مجال بحث آخر - أما الحلقة الوسطى التي تقع بين هاتين المرحلتين في سير التطور النفسي - وهي من سن السابعة إلى سن الرابعة عشر تقريباً - فلم يروا لمظاهرها ما يجعلها مستقلة تماماً عن مظاهر المرحلة السابقة عليها ومظاهر الأخرى اللاحقة لها؛ بل وجدوا فيها من خصائص كل من المرحلتين ما ليس على سبيل الانفراد أيظاً. ولذا اعتبروا هذه الحلقة من حلقات تطور الإنسان معبراً، ونظروا إليها كمرحلة انتقال من طور قائم بذاته إلى آخر مستقل عنه تماماً. ومن هنا ندرك: لماذا عنوا ببحث الطفولة الإنسانية ثم ببحث البلوغ العقلي أكثر من عنايتهم ببحث المرحلة الوسطى بينهما.
وقاسوا على الطفل في مرحلة الطفولة الأولى - وهي من السنة الأولى إلى السنة السابعة - الإنسان البدائي في مرحلة البلوغ الجنسي، وهو كل إنسان لم ينضج نضوجاً عقلياً ونفسياً حسب معاييرهم. صنعوا ذلك لوجود الشبه في المظاهر النفسية بين الأثنين. وكلمة: (الطفولة) إذن عنوان على عدم الرشد، وتقبل تماماً - كما ذكرنا - البلوغ العقلي النضوج الإنساني.
وتبع علماء النفس في تقسيم الإنسان إلى فرد بدائي غير رشيد وآخر بالغ أو ناضج حسب تحديدهم لمظاهر النوعين علماء الاجتماع في تقسيم الجماعة الإنسانية إلى بدائية أو فطرية وأخرى ناضجة أو متحضرة. وراعوا في تقسيم الجماعة على هذا النحو نفس المقاييس التي عرفت لعلماء النفس.
ونهج منهج النفسيين والاجتماعيين مؤرخوا العقائد الدينية في موازنتهم بين الأديان. فجعلوا منها ضرباً بدائياً وآخر راقياً.
وقصدوا بالأول ما كانت معتقداته تصور مظاهر الطفولة، وبالثاني ما كانت معتقداته ووصاياه تمثل مظاهر البلوغ العقلي للإنسان. فاستعاروا التقسيم لموضوعهم وكذا الأساس الذي قام عليه من علماء النفس أيظاً.
وبالحديث عن مظاهر الطفولة عند النفسيين سنعرف بطريق المقابلة مظاهر الرشد أو البلوغ العقلي عندهم، ويمكن بالتالي عن طريق الاسترسال تصور الجماعة البدائية والجماعة المتحضرة عند علماء الاجتماع، وكذا أخذ صورة، عن الديانة البدائية والأخرى الراقية عند علماء الأديان.
وفي الحديث عن مظاهر الطفولة النفسية سنقصر الكلام على بعضها - كأمثلة فقط - مما لبيانه أثر في توضيح الإسلام كدين وهو هدف هذا الحديث. سنقصر الكلام على وصف:
1 - إدراك الطفل في مرحلة الطفولة - من السنة الأولى إلى السابعة -،
2 - وجدانه،
3 - صلته بالعالم الخارجي،
4 - سلوكه وتصرفاته،
5 - أحكامه وتقديره،
1 - إدراكه:
في الجانب الإدراكي: يقف إدراك الإنسان في مرحلة الطفولة الأولى عند حد المحسوس من الأشياء. ثم ما يدركه من مظاهر الشيء هو الشيء على الحقيقة عنده. وهكذا:
(ا) جزء الشيء يعبر في نظره عن الشيء كله، وهو كأنه هو:
فالبرتقالة مثلاً لا يدركها بكل مقوماتها من شكل، ولون، وطعم، وغير ذلك من خصائصها التي تتصل بألياف البرتقال وعصيره مثلاً بل بما ينجذب إليه إدراكه من ظاهرها فلونها الأصفر الفاقع كاف عنده في تميزها عن فاكهة أخرى.
(ب) والإجمال هو التفصيل في رأيه: فلون البرتقالة - في المثال السابق - يحمل في طيه بقية العناصر الأخرى التي لها دخل في ماهية البرتقالة من شكل، وحجم، وخشونة أو نعومة في الملمس، ومذاق في الطعم. . . إلى غير ذلك.
(ج) والشيء وأثره أو لازمة من لوازمه واحد في نظره.
فلقد لوحظ إن طفلاً في سن الرابعة يقبض على شعاع الشمس حتى لا تخرج من الغرفة قبل أن تجيء أمه التي أخذ يناديها لترى الشمس حبيسة بين ذراعيه. كما لوحظ من طفل آخر في سن الخامسة من عمره أنه أخذ يصيح ويبكي. فلما سأله أبوه المصاحب له عن سبب بكائه أراه ما سقط على يده قائلاً له، إنها دودة من دود القز، تلدغه. ولم يتبين أبوه طبعاً إلا بعض خيوط القز، إذ ذلك هو الموجود فعلاً على يد صغيره. لكن في إدراك الطفل؛ دودة القز وخيوطها سواء، ولذا منح الخيوط خصائص الدودة، وهو اللدغ.
وإدراكه إذن للشيء الخارجي على هذا النحو إدراك ناقص، لأنه لم يقف على الشيء كما هو في الواقع. ولذا لا يستطيع إدراك حقيقته، وهي ذلك القدر العام الذي تشترك فيه جملة من الأشياء الخارجية والذي يحمله كل شيء منها خلف ظاهره أو على حد تعبير المناطقة وراء (مشخصاته). كما لا يستطيع من باب أولى أن يدرك ما يجمع مفردات العالم كلها من (معنى الوجود) أو مما يسميه المناطق (بالجنس الأعلى). وبالتالي لا يدرك ما وراء ذلك من (الحقيقة العليا) التي هي مصدر الوجود كله وهو الله المعبود. فالله المعبود وراء كل ما يحس، لا يدرك عن طريقه أية حاسة من الحواس يتصور ذهناً فقط. ولأنه وراء المحسات كان كلياً، ولأنه مصد الآحاد كلها والمجمع الأخير لها كان فردا واحداً.
والإنسان البدائي في الناحية الإدراكية يشبه الطفل في مرحلة طفولته الأولى. يقف بإدراكه عند حد ما يدرك بالحس من الأشياء ويغريه منها ما هو أشد ظهوراً فيها من لون، أو حجم دون ما لها من ذوات وقيم.
وجزء الشيء عنوان للشيء عنده؛ يعبر عن حيوان ما لو سئل - بحكاية له من صوت أدركه عن طريق السمع، أو بوصف آخر أدركه بإحدى الحواس الأخرى.
وقلما يتناول وصفه عناصره المتعددة فضلاً عن ماهيته وحقيقته.
ولأنه يقف في إدراكه عند حد المحسوس كان إلهه دائماً كائناً محساً مما يقع في بيئته الجغرافية ووطنه المحلي. وليست القيمة الذاتية للمعبود هي التي دفعت ذلك الإنسان البدائي إلى عبادته - لأنه لم يصل إلى تلك القيمة بعد - بل الصدفة وحدها هي التي ساقته لما عبد وأله.
وإذا كان جنس من الأجناس البشرية - كقدماء المصريين، واليونان، والأمم الآسيوية القديمة، أو شعوب أواسط أفريقيا وأستراليا اليوم - يحتل في سكناه رقعة واسعة وجدنا في تاريخه في عهود ضعفه عدة معبودات , لا تخرج عن كونها كائنات محسة، ووجدناها موزعة في تلك الرقعة حسب جماعاته.
وكثيراً ما يكون تكتل طوائفه وجماعاته ناشئاً عن اتحاد الاتجاه نحو عبادة كائن معين، وليس عن سكنة إقليم بالذات أو انتساب إلى قبيلة بعينها.
وأهم ما يحدد الوثنية أن المعبود فيها محسوس. أما أنه متعدد أو متغير، أو غير مستمر النفع أو الضر، أو خلاف ذلك مما يذكر في خصائص الوثنية فمن لوازم هذا الجانب الرئيسي فيها، وهو كون المعبود محسوساً. إذ من طبيعة المحسوس أن يكون متعدداً بحكم تشخصه. وعن هذا التشخص كان تغيره، وبالتالي كان غير دائم.
وهكذا يجعل مؤرخو الأديان وثنية أي شعب عنوانا على ضعف الجانب الإدراكي فيه ووثنية الفرد عنواناً على بدائيته، للسبب الذي ذكرناه من وقوفه عند حد المحسوس فيما أعتقد وعبد.
والديانة الفارسية (الزرادشتية) - لأنها قامت على تأليه إلهين معنويين هما الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة - تعد في نظر هؤلاء المؤرخين أكثر رقياً من الوثنية، اكن مع ذلك أدنى من الديانة الموحدة. لأن إدراك التابعين لهذه الديانة الآرية إن تجاوز المحسوس إلى ما وراء لم يستطع أن يبلغ الغابة هناك، لم يستطع أن يصل إلى ما يجمع هذين المعبودين. وما يجمعهما هو (الحقيقة العليا) التي لها اسم الله والتي يجب أن تقتصر العبادة عليها وحدها دون ما يليها من موجودات أدناها.
فالديانة الفارسية أشبه بحلقة وسطى بين البدائية - وهي الوثنية - والأخرى الراقية - وهي الوحدة.
ولو سلكنا مسلك مؤرخي الأديان عند الموازنة بين دين وآخر، واعتبرنا ما وضعوه من مقاييس للتفرقة - غاضين النظر عن حجية الوحي - لو سلكنا هذا المسلك في توضيح قيمة الإسلام لأرانا هذا الذي عرفناه الآن في الحديث عن جانب من جوانب الطفولة الإنسانية أن الإسلام في تحديده (لله) المعبود جل جلاله يمثل حسب مقاييس البلوغ العقلي في نظر الإنسان نهاية الرشد والوضوح.
فالله في نظر الإسلام وراء الموجودات جميعها وفوق العالم كله. يخطو الإدراك الإنساني في تصوره خطوات: من وقف بإدراكه عند الحس لم يكن تقدم إليه إلا الخطوة. ومن تجاوز الحس إلى معنى مشترك بين جملة المحسوسات لم يبلغه بعد. . حتى إذا نفذ بإدراكه وراء جزئيات العالم عن طريق الترقي في التفتيش عما يجمع الكائنات كلها يكون قد أقترب في تصوره منه، ومع ذلك قلما يكشف عن ذاته وحقيقته كما هي.
فهذه الخطوات في الإدراك بعد الظاهر المحس من الأشياء لا نكون في نظر علماء النفس إلا من الرشيد. وكلما كثرت خطوات الرشيد في إدراكه كلما كان أكثر اكتمالاً في معنى الرشد والنضوج.
وصف الإسلام (الله) بأنه واحد في مثل قول القرآن الكريم: قل هو الله أحد. . . ليس كمثله شيء. . . ولم يكن له كفواً أحد. . . وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. ووضعه بذلك يدل على أن له الوضع السابق. إذ الوحدة المطلقة التي تعطيها هيئة التركيب في هذه الآيات الكريمة لا تكون إلا لمن انتقى عنه التشخص أولاً، ومعنى الاشتراك فيه ثانياً. وذلك هو الموجود المطلق.
فالوحدة هنا دليل على الإطلاق أو عدم القابلية للتحديد، كما أن التشخص هناك في الوثنية آية على التعداد والكثرة.
وبعض المسيحيين الذين ألهوا عيسى الرسول عليه السلام يضفون على المسيحية كديانة سماوية - عن طريق تأليههم عيسى - بعض خصائص الوثنية، لا من حيث الاعتقاد بإلهين أحدهما الأب والآخر الابن، لكن أولا وبالذات من حيث أن أحدهما يحده الحس والتشخص وهم بذلك يحرفون الكلم عن مواضعه ويستبدلون بآيات الله صنعة الإنسان.
محمد البهي