الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 869/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 869/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 869
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 02 - 1950


(2) مناهج الأدلة لابن رشد

للأستاذ كمال دسوقي

وإذا فرغ فيلسوفنا من إثبات وجود الله يتناول مشكلة، فبعد تقرير الذات تأتي الصفات، وبعد الصفات الأفعال، وإن كان هذا التقسيم الثلاثي غير ظاهر تماماً كما كان تبويب الكتاب وتوزيع فصوله غير دقيق كذلك. وهو العيب الذي يعتور كثيرا من الكتب الإسلامية القديمة، والذي يحتاج معظمها من أجله إلى معاودة النشر بتبويب وتفصيل جديدين.

والذي ذكره ابن رشد من صفات الله سبع فقط يقول أنها التي وردت في الكتاب - وقد سبق أن قلت لكم أن لله صفات أكثر من هذه تبلغ العشرين من حيث هي ثبوتية، ومثلها مما يقابلها من حيث هي سلبية (تجدونها في كتب التوحيد) وكلها مؤيدة بالآيات القرآنية كالتي ذكرها ابن رشد. ولكن يبدو أن الفيلسوف لا يذكر من صفات الله إلا ما يتصف به الإنسان الكامل كما يقول، وأول هذه الصفات العلم، الآية التي يستشهد بها على هذه الصفة تدل أقل ما تدل على أنه ما في المخلوقات من براعة الصنع ودقة الترتيب بما يوافق الغاية المرسومة لا يمكن ن يكون اعتباطاً - بل لا بد من حكمة وتدبير مقصودين صادرين عن علم كامل. وعلم الله صفة قديمة كما هو قديم، وليس بصحيح ما يقوله المتكلمون من أنه يعلم بالعلم القديم الشيء المحدث وإلا لكان علمه يتنوع؛ أو كان كالشيء تارة يوجد وتارة لا يوجد؛ وهذا ما لا يقتضيه الشرع لأن العلم المتغير محدث - وهو خلاف ما قررناه والحياة بعد هذا شرط العلم؛ متى ثبت العلم تقررت الحياة وأمكن أن ننتقل مما قام عليه الدليل إلى ما لم يبرهن عليه بعد - ولا اعتراض لابن رشد على ما قال المتكلمون في هذاوالإرادة والقدرة لازمتان كذلك لصفة العلم التي سيق إثباتها بالأشياء المخلوقة - وما قيل في العلم يقال في الإرادة من حيث أن كون الشيء الآن ليس بإرادة قديمة كما يتوهم المتكلمون بل يجب أن يكون حدوث الشيء وقت إرادته؛ وعدم حدثه رهنا بعدم إرادته كما تقتضي الآية (كن فيكون) ولما كان الموجود الواحد عالماً بما يفعل وقادراً على فعل ما يريد؛ فإنه قادر أيضاً على مخاطبة من يريد والكشف له عما بنفسه - وهو الكلام - الذي هو أحرى بالله من الإنسان لكمال قدرة هذا وعلمه وإرادته والكلام إذا كان ولابد بواسطة اللفظ؛ الضروري أن يكون لفظا مخلوقاً فقد يوحي إلى من يشاء من عباده بكلام نفسي ينكشف به المراد من غير واسطة كما في آية إسراء النبي، وقد يكلم فعلا بألفاظ يخلقها ولكن من وراء حجاب، كما في مناجاة موسى؛ وقد يرسل ملكاً أو رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. والقرآن بهذا المعنى الثالث كلام الله الأزلي القديم ولفظه مخلوق لا يتعدى نصيب البشر فيه الحروف المكتوبة بإذنه - بمعنى أنه قديم معنى ومحدث لفظاً. وقد ذهب المعتزلة والاشاعرة مذهباً متضاداً في هذا: قال المعتزلة إن الكلام فعل المتكلم، وأنكر الاشاعرة ذلك. فانتهى هؤلاء إلى أن الكلام هو اللفظ، وأن القرآن حادث؛ وأولئك إلى أن الكلام النفسي أي المعنى المراد قديم أما اللفظ الدال عليه فحادث. وقد رأينا أن ابن رشد إلى الأشاعرة أميل وإن كان ليقرر أن بعض الرأيين حق وبعضه باطل. والسمع والبصر أخيراً من مقتضيات العلم الكامل أيضاً لأنها وسائل بعض المدركات الحسية التي لا يتم العلم إلا بها والتي تسوغ عبادتنا لعاقل مدرك جدير بالعبادة. وسواء أكانت هذه الصفات كلها زائدة عن الذات (بأن كانت معنوية) كما يقول الاشاعرة أو كانت هي والذات شيئاً واحداً (فيسميها حينئذ نفسية أي غير مفارقة) كما يقول المعتزلة، فالذي يجب على الجمهور أن يعلم من أمرها هو مجرد الاعتراف بوجودها؛ وهو ما صرح به الشرع في نظر ابن رشد.

أما الفصل الرابع ففي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها أي الترفع به عن أن يتصف بها. والآيات التي ذكرها المؤلف هنا يريد بها نفي مماثلة الله للحوادث أي نفي صفات المخلوقات عنه أو جعلها فيه على جهة أخرى بأن تكون أتم وأكمل؛ يجب أم تلموا بهذه الآيات الدالة على هذا النفي بقسميه: (وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . .) نفي النقائض القريبة كالموت والنوم والنسيان والخطأ؛ والبعيدة التي ترجع إلى أن (أكثر الناس لا يعلمون) كالقدرة والإرادة مما هو مشترك بين الخالق والمخلوق ولكنه في الخالق أكمل وأتم. أما الصفة الجسمية وإن كان مسكوتاً عن نفيها أو إثباتها، وبرغم الآيات التي صورتها للحنابلة وغيرهم من هذا النوع الثاني؛ فإن ابن رشد يرى أن لا يصرح فيها بنفي أو إثبات لأدلة ثلاث واضحة ذكرها هو (ص62 - 63) يؤدي ثالثها إلى مسألتي الرؤية والجهة. وكذلك الحركة فيما يتعلق بموقف الحشر والحساب مما يرى معه ابن رشد ضرورة عدم التصريح للجمهور بنفي الجسمية - كما أراد الشارع - حتى لا تبطل هذه المعاني كلها في أذهانهم فلا يصدقوا بها وهي من صميم الإيمان وإن أمسك عن تأويلها كما أمسك عن تأويل النفس والبرهنة على أنها ليست بجسم. فإذا كان لا بد أن نجيب على سؤال الجمهور: ما هو الله إذن! فلنقل لهم أنه نور - كذلك هو وصف الله لنفسه ووصف رسوله له - هذا إلى أن النور أشرف المحسوسات اللائقة بوصف أشرف الموجودات، وإن موقع الله من بصيرة المقربين كموقع النور من أعين الخفافيش، وأن النور من الأشياء الملونة هو سبب وجودها بالفعل - كل هذه أدلة يحشدها الفيلسوف على ضرورة الوقوف عند وصف الله بالنور دون أن نخوض مع الجمهور في نفي الجسمية عنه لكي ينقذ إيمانهم بالجهة والرؤية والحركة وغيرها من المعاني التي يشرع في تفصيلها.

أما الجهة فيرى ابن رشد أنها وإن أنكرها المعتزلة قد أثبتها الشرع في الآيات التي ذكرها. فمن الحقائق المقررة في الأديان جميعاً كون الله في السماء. ومنها تتنزل الملائكة بالوحي والكتب والرسالات وإليها كان الإسراء والمعراج. وليس يلزم عن إثبات الجهة ثبوت المكان فالجسمية كما يخشى المعتزلة (نفاة الجهة) فالجهة السطوح والأبعاد والأوجه وليست المكان. إذ المكان ما يمكن أن يشغله جسم، ولا يكون السطح مكاناً لشيء إلا إذا جاوره سطح آخر يكون محيطاً به. ولما كان تجاور السطوح لا إلى غير نهاية؛ فإن سطح الفلك الأخير ليس مكاناً ولا يوجد به جسم؛ أو - إن وحد به شيء - فهو لا جسمي (ولا يكون خلاء؛ لأن الخلاء حكمه حكم العدم - لا وجود له في الواقع وليس أكثر من أبعاد فارغة لا جسم فيها إذا رفعت صار عدماً) والخلاصة أن إثبات الجهة لله واجب بالشرع والعقل، وأن إبطالها إبطال للشرع (ص68 - 69) حقاً إن إثبات الجهة مع نفي الجسمية مما يعسر فهمه؛ ولكن هذه الشبهة لا يفطن الجمهور إليها ولا حاجة بنا إلى تأويلها. فإن أصناف الناس الثلاثة لن يجد جمهورهم وعلماؤهم هاهنا تشابهاً - أما الذين في قلوبهم زيغ (وهم الأوساط فيما بين العامة والخاصة أي الصنف الثاني) فهم الذين يشكون فيضلون - وهم عند ابن رشد أهل الكلام والجدل (وعدتهم 72 فرقة متأولة ضالة) أما الفرقة الناجية فهي التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤله في صراحة لعامة الناس كما فعل الخوارج فالمعتزلة فالأشاعرة فالصوفية وعلى رأس الجميع أبو حامد الغزالي (اعرفوا جيداً نقد ابن رشد لهذا الإمام فإنه أكبر خصومه ص72 - 73) فمثل هؤلاء مثل من بدل الدواء النافع المفيد عموماً الذي وصفه الطبيب الأعظم بدواء تافه مستحدث يضر الأكثرين، ويؤدي إلى الخلط والتشويش والإخلال بالشريعة والحكمة كليهما (73 - 74).

والرؤية كذلك أنكرها المعتزلة لقيامها على الجهة القائمة بدورها على الجسمية ولكون المرئي لابد أن يكون في جهة الرائي؛ وأراد الأشعرية بين نفي الجسمية وإمكان الرؤية بالحس فجاءت أدلتهم متناقضة ومغالطية سواء منها ما عاندوا به المعتزلة وما أجازوا به رؤية ما ليس بجسم. ففي المقام الأول عاندوا قول المعتزلة إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي بأن هذا حكم الشاهد لا الغائب - أي المحسوس لا المعقول، فهنا عند الأشعرية خلط ظاهرا بين الرؤية البصرية والإدراك العقلي، إذ الرؤية البصرية لا تتم إلا بالشيء الملون والحاسة المبصرة والأثير الشفاف. ودليل رؤية المرء ذاته في المرآة الذي قال به الغزالي باطل لأن الذي يرى هو الخيال في الجهة المقابلة. ثم إن المتكلمين (الأشعرية) يدللون على إمكان رؤية ما ليس بجسم (76 - 77) بدليلين: أولهما ما يذهبون إليه من إبطال رؤية الشيء من حيث هو (جسم أو لون) إلى آخره ورؤيته فقط من جهة ما هو موجود - وينقض ابن رشد هذا بقوله إن اللون يرى بذاته، والجسم يرى للونه - ولو كلن الشيء لا يرى إلا لوجوده لاختلطت الحواس وهو غير معقول.

وثانيهما دليل أبي المعالي في (إرشاده) الذي ميز فيه بين ذات الشيء وأحواله وجعل للحواس أن تدرك الذات فقط أي الشيء من حيث هو موجود - أما أحواله وصفاته المشتركة فلا سبيل إلى أن يدركها الحس. وهذا دليل يبطله ابن رشد أيضاً بمثل ما أبطل به سابقه من أن الحواس إذن تختلط وتصبح حاسة واحدة. . . وإنما كانت هذه الحيرة لافتراض هؤلاء جميعاً نفي الجسمية وهو بعيد عن مقصد الشرع الذي شبه الله بالنور وهو محسوس، والنتيجة إذن أن الرؤية معنى ظاهر، وأن شبهتها تزول بزوال شبهة نفي الجسمية.

والقسم الأخير من أدلة ابن رشد يتناول الأفعال الإلهية في خمس أمور وأولها خلق العالم وهو يردد هنا، كما في كل مكان، أن الأدلة لكي توافق الشرع يجب أن تكون بسيطة يمكن أن يسلم بها الجميع، ومن أجل هذا تبطل أدلة الأشعرية التي سبق أن أتى عليها في حدوث العالم، فليست من مقصد الشرع في شيء، وحسبنا لكي نحقق مقصده بمعرفة أن العالم مصنوع لله ومخلوق لم ينشأ من نفسه ولم يوجد بمحض الصدفة، حسبنا دليل العناية آنف الذكر، فإن موافقة أشياء العالم في تفاصيلها وجملتها لكائناته الحية كالإنسان والحيوان لا يمكن أن تكون اتفاقاً وصدفة بل بإرادة وقصد. هذا هو الدليل الحق الذي إلى جانب كونه بسيطاً وقطعاً يقيننا هو الذي نبه عليه القرآن (الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً. . . الليل لباساً والنهار معاشاً. وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً. وجعلنا سرجاً وهاجاً) ببيان ما في المخلوقات من ملائمة ومنفعة. ومن هنا يبين فساد قول الأشعرية وبعدهم عن مقصد الشرع بإغفال عنصر الإنعام من الله على الإنسان (ص85) وعنصر ربط المسببات والأسباب لحكمة وتدبير، فلا تخلو المسببات عندهم أن تكون بالصدفة والاضطرار لا بالأفضل والإجادة والإتقان، فإذا علمنا أن المصنوعات لا تكون شريفة تماماً حتى لا يكون في الإمكان صنع أبدع منها؛ فإننا لو أخذنا بغير ما يريد ابن رشد لم تكن المصنوعات غايات معينة، ونفي الغاية المحددة ينفي وجود النظام والترتيب وهذا ينفي بدوره المنظم والصانع الحكيم. أما سبب ضلال الأشعرية في نظر ابن رشد فهو (1) خوفهم أن يجعلوا أسباباً فاعلة غير الله حتى ولو كانت تفعل بإذنه (2) أوأن ينساقوا إلى الإيمان بالقوى الطبيعية فلا يحسنوا الاستدلال على وجود الله. ومن هنا قالوا أن المخلوقات جائزة الوجود ليجعلوا خالقها مريداً. فأبطلوا الحكمة وافتروا على الله الكذب. ولما كان من العسير إقناع الجمهور بأن عقيدة الشرع في العالم أنه محدث وأنه خلق من غير شيء غير زمان فإن ابن رشد يرى أن نستعين بالتمثل والتصوير بالآيات التي تقرب المعنى إلى الأذهان (ص90).

(يتبع)

كمال دسوقي