مجلة الرسالة/العدد 869/حكمتي
→ علي محمود طه | مجلة الرسالة - العدد 869 حكمتي [[مؤلف:|]] |
صور من الحياة ← |
بتاريخ: 27 - 02 - 1950 |
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لكل إنسان حكمته الخاصة التي ترشده في حياته وتنير له سواء السبيل، ولكل فرد من الأفراد المثقفين نوع من الإيمان وضرب من ضروب الاعتقاد الذي رسخ في ذهنه، وانطوى عليه باطنه، واطمأنت إليه نفسه، وإذا قلت إذ كل إنسان له حكمته فإنما أريد بذلك أن أتحاشى الكلام فيما يسمونه بالفلسفة الخاصة لدى كل واحد من أبناء آدم حتى ولو كان من رجال الشارع، إذ لا يوافق الكثيرون على الزعم القائل بأن كل واحد له فلسفته، فإذا جئت الآن لأقول عن كل واحد من الناس إن له حكمة يستوحيها فلا خطأ في كلامي ولا جناح علي، لأن الحكمة أخف بكثير من الفلسفة وأقرب إلى قلوب العامة وأشد اتصالاً بالحياة اليومية وتنتج في العقول بسبب الخبرة التي يجدها الشخص والتجارب التي يمر بها أثناء معاشه فوق ظهر الأرض.
وأنا شخصياً لي حكمتي، أستوحيها في الظل وأتملاها في النور وأستأنس بها من وحشة الليل وأمشي في الحياة بهديها ورضاها، وهي حكمة غريبة عن كل هذه الأفكار والمشاعر التي عهدناها حتى الآن، هي شيء من الواقع قبل أن تكون لونا من الخيال؛ وهي صورة من الحياة قبل أن تكون أملاً في الحياة، وضعتها في صدري قبل أن أمر بها على خاطري، وطويتها من قلبي ووجداني حتى إذا ما تفتح عليها العقل، ونبض بذكرها الفكر، عاشت مجنحة ولكن في اطمئنان، ومضت قلقة ولكن في وثوق، وانطلقت معي باحثة عن الأوضاع المستقيمة بين صرامة المنطق وغواية العاطفة.
هي حكمة أحياها بنفسي ولا أقتصر على التفكير فيها بالعقل، وأضمها إلى صدري دون أن أطفأ حرارتها بالتشريح والتفسير، وأتقبلها باسم الثغر واعي الفؤاد مستيقظ الضمير، ومن أجل هذا لا أرضى بها البديل، وإن جل البديل، ولا أتحول عنها إلى سواها مهما تكاثرت من أمامي خطى السير ومهما تطورت في عقلي أساليب الفكر والبحث. ولا أحب أن أضعها موضع التقديس، فلا أتأملها وأنظر في أمرها، ولا أرضى أن أخلطها بمعاش إلى الحد الذي تصير فيه محلاً للابتذال. هي قدسية في نورها أرضية في صورتها، ملائكية في سحرها طبيعية في هواها، إن أنس كل شيء فلن أنساها وإذا تسربلت بالهم فهي وحدها سبيل الهداية والرشاد.
فأنا أجري على نفسي قواعد حكمتي وأخطو في حياتي بما تمليه علي من الضرورة والحتم، ولذلك جاءت حكمتي بنتاً للواقع والظروف وبناء من أبنية الزمن والأيام، بل لعل ذلك هو السبب في أنها قد جرت في دمي، ونبضت دقات قلبها في عروقي، واهتز لها خاطري واستبشر بها محياي، عشت منها كما عشت لها واستضأت بنورها في الوقت الذي غذيتها فيه بنار قلبي وثورة روحي، فأحببتهاحب العاشق الموله للحبيبة الغالية، أو حب الزاهد المتعبد لجلالة الرحمن، استنشق من عبيرها خطوط سيري أثناء التقدم والتصعيد في الجبال الشامخة، وأتغذى من هالتها في خاطري أثناء جوعي وحرماني إبان الكفاح والتشريد، وبعبارة صريحة موجزة هي كل شيء فيَّ، وكل عمل يصدر مني، وكل فكرة تخطر على بالي.
ولذلك أحرص أشد الحرص على ألا أدعها تطير من يدي ولا أتركها براثن المقادير من غير أن أرعاها وأتعهدها، فهي تحيه بي كما أحيا بها، وهي جزء مني أشعر بامتلاكي لها وسيطرتي عليها، أتنفس من شذاها وأستقي من ضروعها وأعتصر ساعاتي كلها حتى تخلص لي فيها وأفرغ لها منها. وهي عادية جداً بحيث تخطر على بال الفلاسفة وغير الفلاسفة وبحيث تعرض للتافهين والعظماء سواء بسواء، ولكني أخصها بنوع من الاحترام والتقديس الذي يجعلها في خاطري ذات مكانة، ويضعها بين مراتب اعتقادي في أولى الصفوف، هذا فضلا عن أنني خبرتها فلم تخيب لي أملا، وامتحنتها فلم تفسد لي رجاء، واعتمدت عليها فلم تضيع لي أمنية. إنها مريحة لي كإنسان فاشل يحتاج إلى العزاء والرثاء، ومهبطة من غروري عند الكسب والنصر، تنفع عند الشدة والرخاء معاً، وتدلني على الوضع الذي يلزمني وعلى الظروف التي تلائمني وعلى المكان الذي يناسبني، فامضي إليه غير حاسب حساباً ودون ما أضع أمام عيني اعتباراً.
وأنت تعلم أن رأي الإنسان جزء من كيانه العام عند التحدث وعند إتيان الأفعال، بل يمكننا القول بان الرأي في دماغ الإنسان بمثابة عضو كامل في تكوينه الجسمي وله من التأثير مثلما لبقية أجزاء البدن، ولذلك أثور عند سماع الرأي المضاد كما افعل تماماً عندما تلدغني الحشرة السامة في بعض جسمي، ولعلي أنفعل من الوقوف على الرأي المخالف لرأيي أكثر من انفعالي للنكبة الهابطة والمصيبة النازلة، ويصعب علي أن أحول وأبدل في آرائي وان أكيفها حسب الظروف. فالرأي من دماغ الإنسان كالساعد في جسم الإنسان يستحيل أن لا يؤثر في ولا يمكن الرضا عن إيذائه وإيقاع الضر به، وفي الوقت نفسه يصعب علي أن أغير من شكله أو أبدل من منظره، والساعد ساعد إلى الأبد ولا يمكن أن يأتي عليه يوم يصير فيه ساقاً أو أستغني فيه عن خدماته فأبتره بتراً، كذلك في الرأي الذي أدين به والفكرة التي أعتنقها والحكمة التي ينطوي عليها بالي، فهي مشدودة إلى كياني شداً ومرتبطة بي ارتباطاً لا ينفع معه التقطيع والتجزيء والإبعاد.
وأنا أعلم أنه لا يليق بالمفكر إطلاقاً أن يكون على هذا النحو من الجمود الذي أصوره في الفقرة السابقة، وأدرك تماماً مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المثقف من المرونة في آرائه بازاء الأحداث، وأنا واثق بعد ذلك من أن الإنسان يرتقي في تكوينه ونشاطه العقلي بارتقاء ملكته في الانتقال من رأي وبمقدرته على التلون في فكرة كلما كان ذلك لازماً. ولكن ما أعتقده وأومن به شيء وما هو واقع بالفعل شيء آخر، فمما لا شك فيه أن لإنسان يجد الصعوبة في محاولته التنازل عما سبق أن آمن به واعتقد فيه وتحمس له وانه من الضروري أن تتوفر لديه كمية كبيرة من الطاقة النفسية والمجهود السيكولوجي حتى يتغلب على حنانه بالنسبة إلى تفكيره القديم وحبه للرأي السابق وتشيعه للمبدأ القبلي.
فالرأي الذي يدين به الإنسان ليس مجرد خاطر في بال أو بادرة في الدماغ وإنما هو دم يسري في الكيان بأجمعه حتى ليصير بمضي الأيام جزءاً من الكل وبعضاً من المجموع. وأخطر شيء هو ألا نرعى آراء الناس ومعتقدات الجماعة أية أهمية أو أن ننظر النفس من التكوين الظاهري، ومن هنا نقول إن كل احتقار يصدره الفيلسوف أو المفكر للآراء الجماعية مصنوع ومفتعل بناء على ما نراه بالعين أو نلمسه باليدين من التأثر الواقع في حياة الناس ونتيجة للانقلابات الباطنية داخل الفرد ذاته، فالحياة العامة إنما هي نتيجة حتمية لما تكنه النفوس على صنوفها من الإيمان والتقدير، بل إن الرأي ليؤدي إلى مظاهر عديدة من ناحية العلاقات بين الأفراد، فهذا يقتل ذاكالإيمان في قلبه بالخيانة وهذا يسفك دم ذاك لأنه اعتدى على عقيدته في الله أو سب إيمانه بالقبيلة والأسرة أو لعن إنساناً من ذوي قرباه أو ذوي حماه.
فأفعالنا في الخارج إنما تنتج عن اعتقاد في الداخل أو عن الإيمان الباطن، وإذا كنت مهتما بحكمتي إلى هذا الحد فلأنني أعلم مقدار تأثيرها في كياني ومدى سيطرتها على أعمالي. وأرى لزاما على كل إنسان أن يلائم بين نفسه وبين البيئة التي يحيا فيها عن طريق الحكمة التي يعتنقها والفكرة التي يغرسها في عقله غرساً، كل فرد منا يعنى عناية خاصة بغذائه وملبسه وعلمتنا المدنية ضروباً من الفن في الأكل وعودتنا طرائق شتى في الكساء. ومن ثم كانت حياتنا في مظاهرها المختلفة ناشئة عن أذواقنا المتأثرة بالضرورات والبدع الجديدة، ولكننا لم نستطع أن نستفيد من الاتجاهات الفكرية العامة ولم نقو على تأسيس عقلياتنا تأسيسا فنياً ناحية تفكيره وثقافته وذوقه فلا نزال في الحضيض أين منا الذي يعنى بقلبه وعقله كما ومن هنا ترانا مسرعين في كل ما يهمنا أمره من ظاهرات المجتمع ومتقدمين تقدماً مادياً ملموساً في كليعنى بصنوف الطعام التي يحشو بها جوفه وأين منا المتأنق في قراءته بجانب تأنقه في اللبس والهندام، إننا أحوج ما نكون إلى روح عامة تهزنا من الباطن قبل أن تبدل في الشيات الظاهرةوتعمق الإحساس والذوق قبل أن تجمل الصور الشكلية في حياتنا.
فقد آن الأوان كيما نعنى بآرائنا ومعتقداتنا الخاصة وكيما نفرد لحكماننا قسطا من العناية والرعاية. ويكفي أن نعرف أننا نعيش بالأفكار والحكمة مثلما نعيش بالغذاء والكساء حتى نبذل من لدنا كل ما نملك من أجل اختيار الرأي الذي نملأ به رؤوسنا والخاطر الذي يجول بأذهاننا. ولا بد، منذ هذه الساعة التي نحدد فيها مستقبل الأمة عن طريق ما نصنعه بأيدينا من الفعال، أن نهتم اهتماماً خاصاً بالفكرة والحكمة الفرديتين بوصفهما منبعا لما نأتيه من الفعال ومصدراً لكل ما يخرج إلى العالم الظاهري من الحركات.
ومن مظاهر الاهتمام والعناية بالحكمة الفردية لدى كل أحد أن يباعد بين نفسه وبين البواعث التي يرى فيها ضرراً برأيه والمؤثرات التي يحسبها مودية بمعتقده، فلا يجالس إلا من يجد فيهم غذاء لروحه ويلمس عندهم متعة لقلبه ووجدانه، ولا يخاطب غير أولئك الذين يرتفعون به ويضيفون إليه. ولا شك أن التجربة لمظاهر الحياة المختلفة على قدر كبير من الخطورة في التأثير الفردي، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً هو أن مظاهر الحسن في الحياة أندر من مظاهر الدمامة، وان الشعور بالقوة والجمال أقل من الإحساس بالتفاهة والاعتياد، وإن ما يلزم الإنسان في حالة تصديه لما يشبع طموحه من الروائع أنفع للإنسانية من تلك العواطف التي تقوى على مقابلة الابتذال والتطفل، والتي تستطيع أن تنفذ خلال الظروف العملية والحالات الشائهة. فحاجتنا إذن إلى العاطفة التي تصحب إحساسنا بالمتع الجمالية، وتصرفنا عن منغصات الواقع المبتذل أهم في الآونة الحاضرة من المشاعر التي تلابس في نفوسنا كل خطورة نمر بها وكل تجربة ساقطة نتردى فيها. ولا يأتي هذا من اعتقادنا في الجانب الخيري الذي يسعى بعضنا من أجله في الحياة، وإنما لأهمية تعمق الإحساس لدى الأفراد، ولضرورة العناية بالأذواق، وللزوم النواحي الجمالية في معاشنا. فما يقول الشبان الذين يريدون الإقبال على كل تجربة مهما كانت تفاهتها ومهما كان ابتذالها ورخصها من أجل أن يتبينوا بأنفسهم مواطئ الشر فلا يقربونها وأن يحسوا بلذة الخير فينشدونه، لا يحقق شيئا ولا يؤدي إلى نتيجة حقا ما دمنا حتى اليوم لم نقم شعورا جمالياً ولم نؤسس ذوقاً فاهماً نبن روحاً متوثبة لدى الأفراد. فلننشئ أولاً مظاهر الجمال ودلائل الروعة والبهاء، حتى إذا جاء نصر الشيطان كنا على أهبة للقائه وكنا على استعداد لأن نرحب به، فيقيم بيننا ما تيسرت له الإقامة وينصرف عندما يشعر بأنه لم يعد عن المنصرف بعد.
ليس هذا هو كل شيء في الأمر، وإنما هناك شرط آخر لتكوين الحكمة الفردية وأعني به أن تكون لدىالناس مقدرة على التمييز المستقل بحيث يختار كل واحد لنفسه ما يهمه أو ما يلائمه بغير إملاء ولا سيطرة. فاهم ما تمتاز به حكمتي تلك التي حدثتك عنها هو أنني قد انتقيتها انتقاء وفضلتها تفضيلا ذاتيا خالصاً. وهاهنا أيضاً لابد من الإشارة إلى ضرورة التحصيل والتتلمذ، ومن توكيد أهمية الأخذ عن الغير في كل مراحل الحياة بلا اختلاف. ولكن المهم - حتى عند التأثر بالآخرين في الرأي والفكرة - أن يكون لدى الإنسان محك يقيس إليه ومحور يدور حوله. كن تلميذا إلى الأبد، فهذا فيدك ولا يجني عليك إذا لم يعد عليك بأخصب الثمار؛ ولكن لا تكن فاقداً للتمييز فيما تحصله، ولا تجني بعينيك مقفلتين. وبذلك تمتزج في قلبك عوامل السلب والإيجاب، وتتمخض روحك بمضي الأيام عن حكمة صائبة فريدة. ولا نريد بالحكمة الصائبة حكمة صحيحة على طول الخط، وإنما نقصد منها أن يكون رأي الإنسان مناسبا للمقام ملائما للوضع مبلغا إلى الهدف. أما بالفريدةفنعني أنها تكون خاصة به دون سواه من عباد الله، فلا يشاركه فيها أحد ولا يقاسمه إياها إنسان.
والحق أنه من الضروري ألا تكون المبادئ والآراء أبدية أزلية لا يصيبها الكسر والتغير، لأن العقلية المتفتحة والذهن المستنير لا ينقفل أمام شيء كما أن النفسية النشيطة تستطيع أن تفرز في كل مناسبة من الطاقة ما يمهد للهزة الباطنية التي تساعد على التحول من رأي إلى رأي والانتقال من حكمة إلى حكمة. فأهم ما تتصف به الحكمة الشخصية هو المرونة بازاء المظاهر الحيوية. وظاهرة التكيف كما نعلم هي أرفع صفات الإنسان وأخطر المظاهر البشرية ومن هنا حاول العلماء المحدثون أن يستفيدوا منها كما ينبغي. ولا يتعارض هذا مع قولي قبل الآن من أن حكمتي لا تتبدل ولا تتحول. فهي فعلا كذلك من ناحية الظاهر أما المضمون أو المحتوى فهو متقلب مع تقلبات الزمن وفورة الأحداث.
وتلاحظ حتى الآن أنني لم أشرح فكرة معينة تحتويها وتتركب منها حكمتي ولم أحاول أن أقوم بعرض جملة من الأنظار التي أعتنقها وأدين بها. وقد عنيت أن أنتهي على هذه الصورة لسببين: أولهما ما قلته لك من أن شرط الحكمة الأصيل هو ألا تكون محلاً للتأثر وان تكون ناتجة عن ظروف صاحبها نفسه من غير إملاء ولا سيطرة. فالحكمة حكمة صاحبها وحده ويستطيع بنفسه أن يتوصل إليها وأن يباشرها بإرادته. . . والسبب الثاني هو أن مجال الإطلاع على آراء الناس ومعتقداتهم متاح لك في كل كتاب يبغي الإصلاح ويريد الإرشاد ويعمد إلى التوجيه. أما سبيل العناية وطريقة المحافظة على الآراء الفردية فقلما يطرقها كاتب. ولذلك حاولت أن أقدم لك شيئا متصلا بالصورة والشكل الخارجي في الحكمة ولا يتعداه إلى المضمون والفحوى. وأعتقد أننا محتاجون إلى من يشعرنا بكرامة العقل أكثر من احتياجنا إلى من يملأ العقل، وأن المناهج تلزمنا اكثر من المواد. أو بعبارة موجزة إننا أشد حاجة إلى البطاقة المكتوبة على زجاجة الدواء نفسه.
حكمتي. . . هاأنذا أفتح لك عقلي فاكمني به، وهاأنذا أنير لك السبيل إلى ضميري فادخليه، وارع قلبا هام بالقداسة قبل أن يرتمي في أحضان الرذيلة. . . ولا تأخذي عليه أخطاء المجرم القصد ولا تحاسبيه حساب الفاسد المطبوع، بل انظري إليه كما تنظرين إلى الشخص المنكود الذي يطيش السهم في يده وتفلت المقادير من بين أصابعه فلا تترك له غير ذل العبرة وكيد الماضي ومرارة الذكريات.
عبد الفتاح الديدي