مجلة الرسالة/العدد 869/المذاهب الهدامة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 869 المذاهب الهدامة [[مؤلف:|]] |
علي محمود طه ← |
بتاريخ: 27 - 02 - 1950 |
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
عملت الجماعات البشرية منذ كانت على هذه الأرض لبقائها ورفاهيتها وسعادتها فوضعت من الشرائع والآداب والسنن ما يكفل بقائها ويقربها من الرفاهية والسعادة. وما زال العقل والموجدان يهديان الناس ويخرجانهم من الظلمات إلى النور، ومن الفوضى إلى النظام ومن التعامل إلى التعاون، حتى بلغ البشر مستوى الحضارة الذي بلغوه، وما يزالون يجهدون ليبلغوا المستوى الأرفع ويرقوا إلى الدرجة العليا.
وما زال الأنبياء والحكماء على مر العصور يعلمون ويفقهون ويشرعون ويؤدبون ويمكنون لشرائعهم وآدابهم في الأنفس بأسوة من العمل الصالح وحكمة من القول السديد حتى استقرت في الأنفس الشرائع والسنن وتمكنت الأخلاق والآداب.
وما زال الناس يتمسكون بما ورثوا ويزيدون عليه من هدي التجارب، ووحي الوجدان وقيادة العقل، طامحين إلى المقاصد العالية سائرين إلى الغايات الكريمة، وغن بعدت الشقة وكثرت العقبات.
وكلما ارتفعت الإنسانية خضعت للقوانين وألفتها وسكنت إليها وأحبت النظام ونفرت من الفوضى وكلفت بمعاني الخير والحق الجامعة وأعرضت عن الصغائر التي ينزع إليها الإنسان لمنفعة قريبة أو شهوة عاجلة أو لذة زائلة وعملت التي هي أقوم وأبقى وأعود على الناس بالخير والسعادة. وهكذا ترتقي النفس متى تؤثر الحقائق على الصور والروحانيات على الجثمانيات في درجات من الوقى لا تنتهي وفي الرائع والآداب تحجير على الإنسان وتقييد، وفيها نهى عما يشتهي وأمر بما يكره. وفيها تحريم للمنافع الفردية القريبة من أجل منافع جماعية بعيدة، وفيها صد عن الماديات المحسة ابتغاء الروحانيات التي لا تنالها الحواس، ومن اجل ذلك تنفر نفوس من الشرائع وتثقل عليها التكاليف وتعجز عن كف النفس عنالنفس عن شهواتها. ودفعها حتى إلى مصالحها وتقصر عن إدراك المعاني العامة الجامعة التي تؤلف بين منافع الجماعة وترقى بها إلى مستوى من الإنسانية رفيع.
يحاول كثير من الناس أن يخالفوا الشرائع والآداب سراً أو علانية. وأكثر هؤلاء في حرب مع عقولهم وسرائرهم، يرون الخير في شرائع الجماعة وسننها ولكن تقهرهم نزعاتهم، وتسوقهم إلى مخالفة القانون مآربهم. ومنهم من يحارب الشرائع جنوحا إلى الفوضى، وقصوراً عن إدراك النظام وعجزاً عن تصور ما وراء الحس، وعن التعالي إلى المعاني السامية، والنزعات العالية.
ومن الخارجين عن سنن الجماعات وآدابها من يريد السكون إلى أفعاله، والاستراحة إلى أوهامه إرضاء وجدانه فيخادع نفسه، ويكذب عقله وقلبه ويدعي أن لمأربه مقاصد إنسانية وأن لخروجه قانوناً ولإجرامه شريعة فيضع لنفسه ولمن يريد إضلالهم شريعة مضللة، وقانونا خادعا ويجادل بالباطل. ثم تأبى سنة الله وعقل الإنسان ووجدانه أن تسير الجماعة على هذه الجرائم التي تسمى شرعاً، والفوضى التي تدعى نظاماً، والتنافر الذي يدعى أنه وئام وسلام فلا تلبث هذه الدعوى أن يكذبها العمل، وهذه السنة التي تبطلها التجربة، وهذا الاعوجاج أن يقومه الوجدان كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وقل أن تقوم شريعة صالحة إلا أحدث الشيطان إزائها بدعة يأوي إليها الخارجون على نظام الشريعة النافرون من تكاليفها المشفقون من نورها، وقل أن تستقيم للبشر عقيدة دون أن يجادل فيها مضلل، وأن ائتلفت جماعة إلا وجدت خوارج، ولا عمرت مدينة أو قرية إلا كان فيها لصوص وقتلة، وسواء أكان مرجع هذا إلى نقص في معرفة الناس، أو اعوجاج في تفكيرهم، أو خلل في وجدانهم، كان مرجعه فسدا في نظام الجماعة أو عيبا في تأليفها. هذا لخروج شر على كل حال، وأعراض مرض في النفس الفرد والجماعة.
وإذا تتبعت الشرائع المضللة، والمذاهب الفاسدة التي ولدها الباطل وأماتها الحق ونصرها الشر وهزمها الخير، وجدت من علاماتها أن تحط عن الإنسان عبء التكاليف وتقرب إليه مآربه وتفتنه في شهواته وتنزل به إلى الأمور الحسية وتتوسل إليه بمطالب الجسد، هذه المطالب أقرب إلى العامة وأشباه العامة من ضعاف النفوس أسارى الجهالة.
حدثنا التاريخ أن رجلاً من إيران أسمه مزدك دعا في القرن الخامس الميلادي إلى إشاعة الأموال والنساء بين الناس فاستهوى بدعوته أوشاباً من العامة سارعوا إلى دور الناس ينهبون الأموال ويغتصبون النساء واستكان لهذه الدعوة قباذ ملك الفرس وغلب على أمره حتى جاء ابنه أنو شروان فبطش بالمفسدين، ورد الأموال إلى نصابها، وأعاد إلى القانون سلطانه وقتل مزدك وكثيراً من أتباعه فلقب لهذا نوشين روان (الروح السعيدة). وزالت البدعة امحي أثرها.
وفي أول القرن الثالث الهجري دعا إلى هذه الفتنة في إيران أيضاً رجل اسمه بابك الخزمي وانحاز إليه جماعة واعتصم بجبال أرمينية ولبث عشرين سنة حتى فتح المعتصم بالله العباسي حصونه وفل جمعه وقتله. ونحل أخرى في أجيال كثيرة.
ما دعا داع إلى مذهب باطل لا ينصره عقل الإنسان ولا يرضاه وجدانه إلا لبس دعوته بشيء من الإباحة يجذب بها الغوغاء، ويستهوي بها الضعفاء، تشابه في هذا الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وفي الإنسان ضعف، وللمآرب عليه سلطان. وللباطل وسوسة وخداع وللزور تلبيس وتضليل. ثم يأبى العقل الصحيح والوجدان السليم إلا أن يرفعا الإنسان إلى الدرجات التي تلائم الإنسانية ويسمو به عن درجات الحيوانية وقد طلع علينا عصرنا هذا، وقد غلبت فيه المادة وسيطرت فيه الآلية طلع بمثل هذا النحل الضالة في الإشاعة والإباحة، دعا في الشيوعية إلى إشاعة المال وغير المال وحرموا الملك، وأرادوا للناس أن يكونوا سوائم ترعى معا وترد الماء، سواء ولكن لا إرادة لها ولا اختيار، فهي طوع أمر الراعي ونهيه، وهي مسخرة لهواه ورأيه. لها أن تتساوى في المرعى تجوع فيه أو تشبع وتسمن أو تهزل وتسعد أو تشقى وليس لها من الأمر شيء.
ثم ينبغي أن يكون الشبه بين الناس والسوائم بنحو ما وعاه تاريخ البشر وجمعته البشرية من أخلاق وآداب، وما امتازت به الإنسانية على طول الجهاد من فضائل. كل أولئك أوهام باطلة، في زعمهم، وأباطيل ملفقة في مذهبهم. فالإنسان حيوان له غرائزه فلتسيره هذه الغرائز كما شاءت، ولكن في حدود هذا المرعى الذي يسوم فيه وفي سلطان الراعي الذي لا إرادة إلا إرادته، ولا رأي إلا رأيه ولا جبروت إلا جبروته.
ومن إتمام الشبه بين الإنسان والحيوان الأعجم أن تقطع صلة الإنسان بالمعاني العالية الخالدة معاني الحق والخير والجمال والبر، وكل ما يسمو بالإنسان عن الحيوانية، ويعلمه أن وراء الأجسام أرواحاً، ووراء هذه الظواهر بواطن، ووراء الطعام والشراب للنفس الإنسانية مقاصد ومن أجل ذلك يسدون على الإنسان ينبوع الخير الأزلي، ويحولون بينه وبين مطلع الضوء السرمدي، ويريدونه على أن يكفر بالخالق، وينكر كل دين، ليطفئ في قلبه كل نور، وينضب في نفسه كل خير.
إن العدل بين الناس والتسوية بينهم، والبر بهم قد عرفتها الشرائع ووكدتها في النفوس الأديان ودعا إليها كل مذهب صالح على ظهر الأرض، ولكن الشرائع والأديان والمذاهب أرادت أن تمكن مع هذه المعاني إنسانية الإنسان وحريته، وان تشبع الاخوة والرحمة بين الناس، وان تسمو بهم إلى أعلى الدرجات، لا أن تحكم بهذه المعني سوائم ترعى الكلاء وترد الماء مقهورة مسخرة لا تعرف في الحياة لا المرعى وعصا الراعي.
إن قوانين البشر كلهم - إلا قوانين الشيوعيين - تقدس حرية الإنسان وتبيح له أن يعمل ويجد ملء حريته، وتحاول أن تحكمه بقانون من عقله ووجدانه وتمهد للناس سبيل السعي والتنافس ثم تنظر فتعطى من خسر من مال من ربح، وتمنح من خاب من سعى من نجح وتأخذ من حصللتطعم وتداوي وتعلم من لم يحصل. والبشرية عاملة للعدل والرحمة والاخوة والاشتراكية الحرة الصحيحة ساعية إليها في نظام من الحرية والخلق والرحمة والبر.
فأما هذه الشيوعية التي تربى وراء حجب من حديد، خشية أن يطلع الناس على فضائلها ومحاسنها فمبلغ علمنا بها أنها تشيع العداوة والبغضاء، أفقرت الأغنياء ولم تغن الفقراء ومبلغ علمنا بها أنها تريد أن تهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ثم تمكنه من المرعى.
ثم أمر لا يزال المفكر في حيرة منه حتى يهتدي إلى سره، هذه الصلة بين جماعي الذهب، وعباد المال في تاريخ الإنسانية وبين المذهب الذي يحرم الملك والانتفاع برأس المال أعني الصلة بين اليهودية والشيوعية. إن اليهود كما يعرف الباحثون مآرب في إشاعة القلق والفوضى في العالم، ولهم مقاصد في هدم النظم دلت عليها تبهم ونمت عليها أعمالهم.
فهذا الذي جمع بين عبادة المال وتحريمه، وهذا الذي ألف بين اليهودية والشيوعية. فاعتبروا - رواية أولي الأبصار.
عبد الوهاب عزام